بسم الله الرحمن الرحيم
في سحر عينيك أرفرف كعصفور
===========
تحرك بعدها تجاه رجل يقف بشموخ واعتزاز، مرتدية بذلة بنية اللون، يضع على عينيه نظارة سميكة الزجاج، لون إطارها أسود. وقف بجواره، ثم بدأ الرجل بعدها بالكلام. خرج صوته متناغما كلحن أغنية عذبة. معتنيا بمخارج الألفاظ.
أرهف الجميع-تلاميذ ومدرسين ومدرسات حتى العمال-أذنيه إنصاتا له، مشدودين بحصافته وحسن الإلقاء. ظل قرابة الخمس دقائق يلقي حديثه في ذكرى الحرب والانتصار، والكل غارق في الصمت كأجساد خرجت منها الأرواح إعجابا.أنهى كلامه، فدوى التصفيق كالرعد.
ها أنا ذا أقف في الطابور، أصفق له بدوري بحرارة أكبر، أرنو إلى عينيه خلف زجاج نظارته، فأشعر كأنما شعاعا يسحبني إليه مسلوب الإرادة. لم تكن تلك اللحظة هي الأولى التي أحس بأني أنجذب إلى سحر عينيه.
بدأ ذلك منذ اللحظة التي دخل فيها إلى الفصل حاملا حقيبته السوداء، كان ذلك أول يوم لي في الصف الأول الثانوي. كنت منتشيا بالفرحة والمدرسة العتيقة التي تطل أبوابها على النهر، والخضرة تلفها من كل الأنحاء.
جلس على مقعده بعد أن حيانا ورددنا عليه التحية. عرفنا بنفسه بإيجاز: محمد السيد مدرس اللغة العربية. كتب بعدها على السبورة بالطباشير بخط عريض (الأدب الجاهلي). ألقى قصيدة لعنترة، فاستمعنا إليها، فتراءى لي عنترة بيننا بوجهه الأسود وأسنانه البيضاء كلؤلؤ يغازل عبلة. اختلط صوته بهبة نسيم أتت من النافذة المواجهة للنهر. اختلست نظرة عابرة إلى النهر، فامتزج لونه الفضي الشفيف بسمرة وجه المدرس، فغرقت في النشوة ثملا.
توالت الحصص الدراسية، وتتابع معها انبهاري له. كنت مولعا بالأدب وقراءته، وأحيانا أنفرد بنفسي أكتب بيت شعر أو قصة.
لمح في عيني هالة الإعجاب، فدنا مني، همس في أذني: تحب الأدب!
خفضت رأسي من الخجل، وعجز لساني عن الكلام. وضع يده على كتفي، ثم قال بصوته الأجش: انتظرك في الفسحة.
شعرت بالقشعريرة تسري في جسمي، لا أعرف لم؟ من الخوف ربما أو من الاحترام المجلل له كإله ربما. انتظرت حتى انقضت الحصتين قبل الفسحة، ودقات قلبي يكاد يسمعها كل من حولي.
ذهبت إليه، وفيض من المشاعر المختلطة يجيش بها صدري. رأيته جالسا قرب الشباك يطالع كتابا في حجرة المدرسين. اتجهت ناحيته، وتردد يلوح في عقلي يحرضني على الرجوع. أشار إليّ؛ فتقدمت نحوه بأقدام متثاقلة.
وقفت قبالته. حدق في وجهي مليا، وفي قميصي وبنطالي الباهتين اللون، والممزقين في أكثر من ناحية. كأنه أول مرة يلحظ، فأحسست بأني أغرق في بحر هادر الأمواج. شدني من ذراعي، وقال وهو يضع الكتاب جانبا على المنضدة: اجلس. لمحت عنوان الكتاب بطرف عيني: (نهج البلاغة).
أعاد طرح السؤال ثانية مختلطا بابتسامة صافية من شفتيه: تحب الأدب!
أعطتني ابتسامته دفعة ثقة، فخرج صوتي منسابا كخرير ماء: نعم. أحبه حد العشق!
سألني عديد الأسئلة، وكل إجابة مني تنداح معها فرحة في صدري حتى بدت لي باتساع محيط. أعطاني مجموعة كتب وقال بتفاؤل لمع في عينيه: سيكون لك شأنا في يوم من الأيام.
كالسحر تسلل كلامه إلى جسدي، فارتج منتفضا. حملت الكتب وعدت آخر اليوم الدراسي إلى بيتي فرحا وسط نظرات زملائي الحاسدة.
مضت الأيام، وثقتي في نفسي تزداد يوما بعد يوم. كبرت أحلامي حتى صارت كعملاق يقف بجانبي أحتمي بخطواته مدفوعا إلى اليقين بالنجاح.
لم يتوقف تشجيعه عند الأدب فقط. كان كأبي الذي فقدته صغيرا، وكان الصديق في كل حياتي. لم تعلو شفتيه ابتسامة إلا حين رآني في المدرسة انتظر نتيجة الامتحان. شملني حينها بسحر عينيه، وأفاضني بنفس الابتسامة الأولى، وقال بسعادة طفل صغير: مبارك. ترتيبك الأول.
وقفت عاجزا كغارق في حلم لا أستطيع الحركة فيه. لم استفق منه إلا حينما عدت إلى البيت مصحوبا بالزغاريد التي ارتفع صداها حتى كاد يعانق السماء.
لم يكن بوسعي الآن النظر إلى وجهه، وأنا قابع خلف مكتبي تحيط بي الكتب من كل مكان. تذكرت صورة قديمة جمعتنا مع بعض زملاء المدرسة قرب الرصيف المواجه للفصل. توسطنا في وقفته بذات الشموخ، ووقفت أنا بجوار شجرة نخيل من الناحية اليمنى.
أخرجت الصورة من درج المكتب، ورنوت إلى عينيه السوداوين، فكانتا مليئتين بالسحر ذاته عند أول لقاء ونظرة.
وقفت بعدها وتجولت في المكتب. درت ببصري أعاين الكتب التي دون فوقها اسمي. عديد الشهادات والجوائز تزين بها الجدار، وتراكمت بها الأرفف، وكل منها يشهد بأنه الملك المتوج على عرشها. لا اسمي الذي تغنت به الصحف والمجلات لنبوغي في سماء الأدب.
قطع الصمت المهيب صوت طرقات على الباب. أذنت لصاحبه، فدخل سائقي، وقال: السيارة جاهزة يا دكتور.
نظرت إليه، والأسى يتوهج في عيني. انسابت بعدها قطرات فوق خدي كحبات مطر.
مشيت خلف السائق، وإحساس داخلي يعيدني إلى الماضي القريب حينما أنهى كلمته قائلا: عليكم أن تكونوا جنودا في كل حياتكم. تدفقت الفرحة المترعة تدفع أقدام التلاميذ يجرون في كل اتجاه إلى حجراتهم الدراسية.
قاد السائق السيارة، وصدى الكلمات الأخيرة يتردد في أذني ملحا. جاءت الكلمات عبر الهاتف من أحد أبنائه: استاذك محمد السيد مريض ويطلب رؤيتك. كانت المرة الأولى التي أذهب إليه مدفوعا بالهزيمة والألم.
كانت كل مرة أذهب محمولا بالسعادة. أندفع إليه كطفل صغير يرتمي في حجر أمه. يغبطني بالوجه الرائق، والابتسامة المعتادة التي يصفو بها الكون بعد الغمام. متيم أستمع إليه، وهو يوجهني ويصوب أخطاء كل قصصي وروايتي. لا يقبل مني ثناء امتدحه فيه شكرا لروايتي الأخيرة التي لاقت نجاحا لا نظير له. يشدني من كتفي، وينظر بتحد في عيني، ويقول بصوت صارم ممزوجا بالحب: لولا موهبتك ونبوغك ما كان شيء.
قلتها يوما لنفسي وأكررها: أنه يحمل ألف قلب وقلب...!
ولقد كانت أمي محقة حين عدت لها ذلك المساء، راكبا الدراجة التي أهداها لي، وأصر أن أخذها بصفعة خفيفة على خدي كانت كالبلسم وقت أن أبديت رفضا-قالت والسعادة تقفز من عينيها، وهي تستند على عامود من الطين، يحمل سقفا من جريد النخيل لبيتنا: لا أشعر بالغيرة أبدا من حبك الشديد له! عانقتها، وهمست في أذنها: وهل لا يستحق يا أمي؟!
قالت بشفاف صدرها: وهل هناك في هذه الأيام من يعطي مثله بلا حدود!
طفر الشكر الصادق في عينيها، فلم تعد بقرتها القابعة هناك خارج الدار تأكل البرسيم من قراطين أرض هي كل ما تركه لنا أبي، تكفي مؤنة ومصاريف أثقلت كاهلها، وكادت أن تقف عقبة في إكمال دراستي؛ لولاه!
انحنيت وقبلت كفها، مرددا باعتزاز الطالب الفائق: أنه يري نفسه في.
ردت بفلسفة عميقة: حتى مع نفسه الإنسان لا يفعل ما يفعله معك يا ولدي.
أنهت حديثها بالكلمة العالقة في أذني أينما أسير: هذا الرجل لو طلب روحك لا تبخل عليه بها يا ولدي.
ها أنا أقترب من البلدة أحاذي المدرسة التي ارتفعت قامتها كعمارة بدلا من البناء القديم، باسطة ذراعها أمام النهر كأنها حارسه. أمرُ بالشجرة العجوز التي طالما التقينا تحت ظلها كلما أتيت من العاصمة، أستريح في كنفها مدثرا بالعذوبة في صوته والبهاء في وجهه وظل سحر عينيه. هي الشاهدة الوحيدة على كل ما كان يضعه في جيبي خلسة، فأنظر إليه بخجل، فيربت على كتفي، قائلا بصوت يملأه الحنان: أنا مثل أبيك! مسك بعدها كفي، ووثقني بعهد: لن أسامحك إن احتجت لشيء ولم تطلبه مني. أعاد الكلمة ثانية ووجهه باديا كالقمر في السماء: أنا مثل أبيك.
دفنت وجهي في صدره، قائلا له بحرارة الحب والبكاء: بل أنت أبي!
اقتربنا من المنزل، فاستقبلني أبناؤه الذين هم أخوتي الذين حرمت منهم من أبي وأمي بهالة الترحيب ومسحة من الحزن تشملهم كرداء أسود.
أشاروا إلى حجرة جانبية أول البيت، فتقدمت خلفهم محني الظهر موجوعا بالانكسار البادي في وجوههم.
دخلت الحجرة، فوجدته راقدا على سرير مغطى نصفه الأسفل بملاءة بيضاء. حدقني بنظرة واهنة لا تخلو من فيض سحر عينيه. رميت بجسدي نحوه، ومرغت رأسي في صدره. مسدني بكفه، وقال بصوت ضعيف: يبدو أن الوثاق المعقود بيننا آن له أن ينفك!
سمعت شهقات أبنائه، وتلتها شهقات التلاميذ الذين تراصوا خلفي في طابور الصباح ينتظرون خروج الصوت كاللحن، وأنا في سحر عينيه أرفرف كعصفور صغير. وحده لم يكن يقف بشموخه يلقي خطبة الحرب والانتصار.
قنا في 8/04/2014
تعليق