على هوامش الهزيمة تبعثرت حروفي ..ابتلع النّسيان بعضها..أرض وناس خلّفتهم ورائي ورحلت..هنا حيث الصّقيع الذي غزا قلبي قبرت أحلامي وأحلامهم..عقود من الهمّ والوهم تفصلني عن تاريخي..أبقيته هناك ورحلت..توقّف من حيث تحرّكت..يحفر المجهول أخدودا ليودعني في أعماقه..أطفو لأغرق من جديد..طفلتي تشبّثت زمنا بأذيال ذكرى عانقت من خلالها الماضي رغم ما يحمله من وجع...
تشبّثا بأذيال أمّهما في ذلك اليوم..يريان الفجيعة تحاصر الجميع من كلّ حدب وصوب..أصوات القذائف تصمّ الآذان..ينكمشون..تشحب وجوههم..هول الفجيعة يقترب منهم حتّى يكاد يلامسهم..إحدى الشّظايا تصيب المطبخ وفناء المنزل..يهرعان وولادتهما خارج البيت في ذلك المساء الموحش..شجرة التّين الصّامدة منذ زمن بعيد حلّت بها الفجيعة..كنت أراها دوما فردا من أفراد العائلة..أحنو عليها..أمنحها دفئي مثلما تمنحني خيرها..يركض الجميع بسبب القصف العنيف خارج المنازل التي تتطايرت بعض أشلائها..بعضهم حافي القدمين وبعضهم عاري الرّأس..تصطلي أنفسهم في أتّون هذا الجحيم..بقع دم حمراء قانية ترسم خطوطا متعرّجة تصل بين بعض البيوت وساحة القرية حيث اجتمع الكلّ فرارا من بقايا منازل قد تتهاوى عليهم حجارتها في أيّة لحظة..تمزّق المكان وتتطايرت الأشلاء وتطاير معها النّبأ الذي وصلني وأنا في أرضي الصغيرة البعيدة عن البيت بضع كلومترات..صعقني الخبر رغم أنّ القرية تلبس منذ زمن جلباب الموت..تنسحب عنّي نفسي..تتمزّق..تتهاوى حتّى تكاد تخمد خمودا أبديّا..أنفلت من الأرض دون وعي..أهرع إلى هناك..أجد طفلي مضمّخا في دمائه بين أحضان أمّ ثابتة كسنديانة..يد الغدر امتدّت إليه..عندما طبعت قبلة على جبينه ابتسم ابتسامة ملائكيّة وأطبق جفنيه..رحل..رحل بعيدا..كانت روحه تنتظر قدومي حتّى تسلمني جسدا فقد كلّ صلته بالحياة..عفّرت وجهي في جسده الغضّ..انتحبت..تبلّلت وجنتاه..اختلطت دموعي بدمائه حتّى باتت سيلا واحدا يغرقني في عتمة نفسي..
انتزعوني بقوّة من بين أحضان فلذة كبدي..تعوّد أن يرافقني إلى أرضنا كلّ صباح..تخلّف ذلك اليوم خوفا عليه من برودة الطقس المفاجئة..كأنّ الموت عطّل خروجه لينقضّ عليه لاحقا بوحشيّته..انهمرت دموعي بقوّة فأخصبت التّربة التي تمدّد عليها جسده الصّغير..انتزعوني بقوّة من بين أحضانه..كانت تربّت على كتفي وتدعوني إلى المجاهدة تلك الزّوجة الحبيبة ..هي التي حمتني من ويل الانهيار مرارا..تواري ضعفها حتّى لا يتسلّل حزنها الشّديد إلينا..تتحامل على أوجاعها لتقويّ أرواحنا المنكسرة..
ودّعت صغيرها بدعاء شقّ عنان السّماء..ودّعناه وداعا أخيرا..وارينا جسده التّراب ووارينا ماضينا في حقائبنا..لم أقو على البقاء هناك..عاندت زوجتي..صمّمت على الرّحيل يحرّكني هاجس الخوف على من بقي من أفراد عائلتي..لا أريد أن أفقدهما الواحد تلو الآخر..الحرب تلتهم كلّ شيء..تحرق الأخضر واليابس..أقرّ بضعفي،بخياني لنفسي وعائلتي ووطني..لكنّني أرى اللّوعة في وجوه ثكالى وأيتام وأرامل..أفرّ من عالمي هذا لكنّ نفسي ترحل معي مثخنة بالهموم..
رحلنا وكنّا كمن انتزعت منه الحياة..
مازالت حركتها ماثلة في وجداني وفكري وهي تتشبّث بثوبي تغسله بدموعها في محاولة لثنيي عن الرّحيل..لا تريد أن تغادر القرية..تتوسّل إليّ بصوت ضعيف مختنق بالدّموع "لنبق أبتي لنبق ..نتنفّس نسائم أرضنا ونملأ رئاتنا بهواء قريتنا.." لم تكن تعلم أنّها آخر خيط يربطني بالحياة وفقدها يعني موتي المحتّم.. عندما هممنا بمغادرة البيت في ذلك اليوم البغيض..لم نجدها..بحثت عنها أنا ووالدتها في كامل أرجاء بيتنا المكلوم دون جدوى..تبعثرت نفسي..ركضت خارج البيت..بحثت بجنون فلم أعثر عليها..لا أدري كيف وجّهني إحساسي لاحقا إلى مقبرة القرية..وجدتها تدفن رأسها في قبر أخيها..تنهمر دموعها دون توقّف فترسم تعاريج لن يمحوها الزّمن من ذواكرنا ..أجلس حذوها وأجهش بالبكاء عليّ أغسل ذنبا أنا مقدم عليه..كأنّني أبرّر لصغيري علّة رحيلي..في أعماقي صوت ينادي بقوّة فيجلدني جلدا "لا تغادرني..لا تغادر أرضك وناسك "..
أحسّ أنّ شراييني تقطع فتنزف أعماقي بعد كلّ هذه السّنين..تنزف جروح عائلة اغتربت وتنزف جروح وطن تنخر الحرب عظامه..أعيش الوحدة بعد أن فارقت تلك السّنديانة الحياة..ظلّلتني بدفئها وصبرها كثيرا..كانت تتألّم في صمت حتى لا تضاعف همومي..وصغيرتي اختطفها حلم الماضي..حملها بعيدا عنّي..رحيلها الأوّل كسر قلبها الغضّ عندما خلّفت وراءها حبّا بدأ يشرّع أبوابه..أمّا رحيلها الثّاني فكسر قلبي وقد أسلمني لوحدة مريرة أتجرّع فيها هزائمي وهزائم إنسانيّة مشتّتة..
تشبّثا بأذيال أمّهما في ذلك اليوم..يريان الفجيعة تحاصر الجميع من كلّ حدب وصوب..أصوات القذائف تصمّ الآذان..ينكمشون..تشحب وجوههم..هول الفجيعة يقترب منهم حتّى يكاد يلامسهم..إحدى الشّظايا تصيب المطبخ وفناء المنزل..يهرعان وولادتهما خارج البيت في ذلك المساء الموحش..شجرة التّين الصّامدة منذ زمن بعيد حلّت بها الفجيعة..كنت أراها دوما فردا من أفراد العائلة..أحنو عليها..أمنحها دفئي مثلما تمنحني خيرها..يركض الجميع بسبب القصف العنيف خارج المنازل التي تتطايرت بعض أشلائها..بعضهم حافي القدمين وبعضهم عاري الرّأس..تصطلي أنفسهم في أتّون هذا الجحيم..بقع دم حمراء قانية ترسم خطوطا متعرّجة تصل بين بعض البيوت وساحة القرية حيث اجتمع الكلّ فرارا من بقايا منازل قد تتهاوى عليهم حجارتها في أيّة لحظة..تمزّق المكان وتتطايرت الأشلاء وتطاير معها النّبأ الذي وصلني وأنا في أرضي الصغيرة البعيدة عن البيت بضع كلومترات..صعقني الخبر رغم أنّ القرية تلبس منذ زمن جلباب الموت..تنسحب عنّي نفسي..تتمزّق..تتهاوى حتّى تكاد تخمد خمودا أبديّا..أنفلت من الأرض دون وعي..أهرع إلى هناك..أجد طفلي مضمّخا في دمائه بين أحضان أمّ ثابتة كسنديانة..يد الغدر امتدّت إليه..عندما طبعت قبلة على جبينه ابتسم ابتسامة ملائكيّة وأطبق جفنيه..رحل..رحل بعيدا..كانت روحه تنتظر قدومي حتّى تسلمني جسدا فقد كلّ صلته بالحياة..عفّرت وجهي في جسده الغضّ..انتحبت..تبلّلت وجنتاه..اختلطت دموعي بدمائه حتّى باتت سيلا واحدا يغرقني في عتمة نفسي..
انتزعوني بقوّة من بين أحضان فلذة كبدي..تعوّد أن يرافقني إلى أرضنا كلّ صباح..تخلّف ذلك اليوم خوفا عليه من برودة الطقس المفاجئة..كأنّ الموت عطّل خروجه لينقضّ عليه لاحقا بوحشيّته..انهمرت دموعي بقوّة فأخصبت التّربة التي تمدّد عليها جسده الصّغير..انتزعوني بقوّة من بين أحضانه..كانت تربّت على كتفي وتدعوني إلى المجاهدة تلك الزّوجة الحبيبة ..هي التي حمتني من ويل الانهيار مرارا..تواري ضعفها حتّى لا يتسلّل حزنها الشّديد إلينا..تتحامل على أوجاعها لتقويّ أرواحنا المنكسرة..
ودّعت صغيرها بدعاء شقّ عنان السّماء..ودّعناه وداعا أخيرا..وارينا جسده التّراب ووارينا ماضينا في حقائبنا..لم أقو على البقاء هناك..عاندت زوجتي..صمّمت على الرّحيل يحرّكني هاجس الخوف على من بقي من أفراد عائلتي..لا أريد أن أفقدهما الواحد تلو الآخر..الحرب تلتهم كلّ شيء..تحرق الأخضر واليابس..أقرّ بضعفي،بخياني لنفسي وعائلتي ووطني..لكنّني أرى اللّوعة في وجوه ثكالى وأيتام وأرامل..أفرّ من عالمي هذا لكنّ نفسي ترحل معي مثخنة بالهموم..
رحلنا وكنّا كمن انتزعت منه الحياة..
مازالت حركتها ماثلة في وجداني وفكري وهي تتشبّث بثوبي تغسله بدموعها في محاولة لثنيي عن الرّحيل..لا تريد أن تغادر القرية..تتوسّل إليّ بصوت ضعيف مختنق بالدّموع "لنبق أبتي لنبق ..نتنفّس نسائم أرضنا ونملأ رئاتنا بهواء قريتنا.." لم تكن تعلم أنّها آخر خيط يربطني بالحياة وفقدها يعني موتي المحتّم.. عندما هممنا بمغادرة البيت في ذلك اليوم البغيض..لم نجدها..بحثت عنها أنا ووالدتها في كامل أرجاء بيتنا المكلوم دون جدوى..تبعثرت نفسي..ركضت خارج البيت..بحثت بجنون فلم أعثر عليها..لا أدري كيف وجّهني إحساسي لاحقا إلى مقبرة القرية..وجدتها تدفن رأسها في قبر أخيها..تنهمر دموعها دون توقّف فترسم تعاريج لن يمحوها الزّمن من ذواكرنا ..أجلس حذوها وأجهش بالبكاء عليّ أغسل ذنبا أنا مقدم عليه..كأنّني أبرّر لصغيري علّة رحيلي..في أعماقي صوت ينادي بقوّة فيجلدني جلدا "لا تغادرني..لا تغادر أرضك وناسك "..
أحسّ أنّ شراييني تقطع فتنزف أعماقي بعد كلّ هذه السّنين..تنزف جروح عائلة اغتربت وتنزف جروح وطن تنخر الحرب عظامه..أعيش الوحدة بعد أن فارقت تلك السّنديانة الحياة..ظلّلتني بدفئها وصبرها كثيرا..كانت تتألّم في صمت حتى لا تضاعف همومي..وصغيرتي اختطفها حلم الماضي..حملها بعيدا عنّي..رحيلها الأوّل كسر قلبها الغضّ عندما خلّفت وراءها حبّا بدأ يشرّع أبوابه..أمّا رحيلها الثّاني فكسر قلبي وقد أسلمني لوحدة مريرة أتجرّع فيها هزائمي وهزائم إنسانيّة مشتّتة..
تعليق