هزائمي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نادية البريني
    أديب وكاتب
    • 20-09-2009
    • 2644

    هزائمي

    على هوامش الهزيمة تبعثرت حروفي ..ابتلع النّسيان بعضها..أرض وناس خلّفتهم ورائي ورحلت..هنا حيث الصّقيع الذي غزا قلبي قبرت أحلامي وأحلامهم..عقود من الهمّ والوهم تفصلني عن تاريخي..أبقيته هناك ورحلت..توقّف من حيث تحرّكت..يحفر المجهول أخدودا ليودعني في أعماقه..أطفو لأغرق من جديد..طفلتي تشبّثت زمنا بأذيال ذكرى عانقت من خلالها الماضي رغم ما يحمله من وجع...
    تشبّثا بأذيال أمّهما في ذلك اليوم..يريان الفجيعة تحاصر الجميع من كلّ حدب وصوب..أصوات القذائف تصمّ الآذان..ينكمشون..تشحب وجوههم..هول الفجيعة يقترب منهم حتّى يكاد يلامسهم..إحدى الشّظايا تصيب المطبخ وفناء المنزل..يهرعان وولادتهما خارج البيت في ذلك المساء الموحش..شجرة التّين الصّامدة منذ زمن بعيد حلّت بها الفجيعة..كنت أراها دوما فردا من أفراد العائلة..أحنو عليها..أمنحها دفئي مثلما تمنحني خيرها..يركض الجميع بسبب القصف العنيف خارج المنازل التي تتطايرت بعض أشلائها..بعضهم حافي القدمين وبعضهم عاري الرّأس..تصطلي أنفسهم في أتّون هذا الجحيم..بقع دم حمراء قانية ترسم خطوطا متعرّجة تصل بين بعض البيوت وساحة القرية حيث اجتمع الكلّ فرارا من بقايا منازل قد تتهاوى عليهم حجارتها في أيّة لحظة..تمزّق المكان وتتطايرت الأشلاء وتطاير معها النّبأ الذي وصلني وأنا في أرضي الصغيرة البعيدة عن البيت بضع كلومترات..صعقني الخبر رغم أنّ القرية تلبس منذ زمن جلباب الموت..تنسحب عنّي نفسي..تتمزّق..تتهاوى حتّى تكاد تخمد خمودا أبديّا..أنفلت من الأرض دون وعي..أهرع إلى هناك..أجد طفلي مضمّخا في دمائه بين أحضان أمّ ثابتة كسنديانة..يد الغدر امتدّت إليه..عندما طبعت قبلة على جبينه ابتسم ابتسامة ملائكيّة وأطبق جفنيه..رحل..رحل بعيدا..كانت روحه تنتظر قدومي حتّى تسلمني جسدا فقد كلّ صلته بالحياة..عفّرت وجهي في جسده الغضّ..انتحبت..تبلّلت وجنتاه..اختلطت دموعي بدمائه حتّى باتت سيلا واحدا يغرقني في عتمة نفسي..
    انتزعوني بقوّة من بين أحضان فلذة كبدي..تعوّد أن يرافقني إلى أرضنا كلّ صباح..تخلّف ذلك اليوم خوفا عليه من برودة الطقس المفاجئة..كأنّ الموت عطّل خروجه لينقضّ عليه لاحقا بوحشيّته..انهمرت دموعي بقوّة فأخصبت التّربة التي تمدّد عليها جسده الصّغير..انتزعوني بقوّة من بين أحضانه..كانت تربّت على كتفي وتدعوني إلى المجاهدة تلك الزّوجة الحبيبة ..هي التي حمتني من ويل الانهيار مرارا..تواري ضعفها حتّى لا يتسلّل حزنها الشّديد إلينا..تتحامل على أوجاعها لتقويّ أرواحنا المنكسرة..
    ودّعت صغيرها بدعاء شقّ عنان السّماء..ودّعناه وداعا أخيرا..وارينا جسده التّراب ووارينا ماضينا في حقائبنا..لم أقو على البقاء هناك..عاندت زوجتي..صمّمت على الرّحيل يحرّكني هاجس الخوف على من بقي من أفراد عائلتي..لا أريد أن أفقدهما الواحد تلو الآخر..الحرب تلتهم كلّ شيء..تحرق الأخضر واليابس..أقرّ بضعفي،بخياني لنفسي وعائلتي ووطني..لكنّني أرى اللّوعة في وجوه ثكالى وأيتام وأرامل..أفرّ من عالمي هذا لكنّ نفسي ترحل معي مثخنة بالهموم..
    رحلنا وكنّا كمن انتزعت منه الحياة..
    مازالت حركتها ماثلة في وجداني وفكري وهي تتشبّث بثوبي تغسله بدموعها في محاولة لثنيي عن الرّحيل..لا تريد أن تغادر القرية..تتوسّل إليّ بصوت ضعيف مختنق بالدّموع "لنبق أبتي لنبق ..نتنفّس نسائم أرضنا ونملأ رئاتنا بهواء قريتنا.." لم تكن تعلم أنّها آخر خيط يربطني بالحياة وفقدها يعني موتي المحتّم.. عندما هممنا بمغادرة البيت في ذلك اليوم البغيض..لم نجدها..بحثت عنها أنا ووالدتها في كامل أرجاء بيتنا المكلوم دون جدوى..تبعثرت نفسي..ركضت خارج البيت..بحثت بجنون فلم أعثر عليها..لا أدري كيف وجّهني إحساسي لاحقا إلى مقبرة القرية..وجدتها تدفن رأسها في قبر أخيها..تنهمر دموعها دون توقّف فترسم تعاريج لن يمحوها الزّمن من ذواكرنا ..أجلس حذوها وأجهش بالبكاء عليّ أغسل ذنبا أنا مقدم عليه..كأنّني أبرّر لصغيري علّة رحيلي..في أعماقي صوت ينادي بقوّة فيجلدني جلدا "لا تغادرني..لا تغادر أرضك وناسك "..
    أحسّ أنّ شراييني تقطع فتنزف أعماقي بعد كلّ هذه السّنين..تنزف جروح عائلة اغتربت وتنزف جروح وطن تنخر الحرب عظامه..أعيش الوحدة بعد أن فارقت تلك السّنديانة الحياة..ظلّلتني بدفئها وصبرها كثيرا..كانت تتألّم في صمت حتى لا تضاعف همومي..وصغيرتي اختطفها حلم الماضي..حملها بعيدا عنّي..رحيلها الأوّل كسر قلبها الغضّ عندما خلّفت وراءها حبّا بدأ يشرّع أبوابه..أمّا رحيلها الثّاني فكسر قلبي وقد أسلمني لوحدة مريرة أتجرّع فيها هزائمي وهزائم إنسانيّة مشتّتة..
    التعديل الأخير تم بواسطة نادية البريني; الساعة 18-02-2014, 19:15.
  • حارس الصغير
    أديب وكاتب
    • 13-01-2013
    • 681

    #2
    لغة شاعرية حزينة
    تقطر كل كلمة منها بالألم والفجيعة التي تقتلنا كل لحظة
    متى نستفيق من هذه الكوابيس
    رغم المرارة
    يبقي النص راقيا بلغته وسرده
    عله يعوضنا عن الأحزان
    تحيتي
    الأديبة الكبيرة
    نادية البريني

    تعليق

    • حسن لختام
      أديب وكاتب
      • 26-08-2011
      • 2603

      #3
      نص قوي، وموجع،بطعم المرارة وروائح الموت، والخراب. لغة متينة، ونهاية واخزة، ومؤلمة
      مودتي وتقديري، نادية البريني

      تعليق

      • فكري النقاد
        أديب وكاتب
        • 03-04-2013
        • 1875

        #4
        لا أستطيع التعليق هنا إلا بدموع ملأت عينيّ
        وكأن سهما اخترق قلبي ...
        استطعت ببلاغتك وصدق عاطفتك نقلي إلى هناك ...
        حيث يأتي الألم والموت من كل مكان ...
        وتدفن الطفولة في مهدها ...
        ما أجمل الإنسان حين يكتب للحياة ...
        وأقبح الحيوان حين يقتل ...
        قصتك حركت في مواجعا ..

        المبدعة نادية البريني
        نص جميل متين , صور بدقة , أعطى البعد الإنساني , وأوصل الرسالة بأمانة
        دمت والنبل
        مع الاحترام والتقدير
        " لا يبوح الورد باحتياجه للماء ...
        إما أن يسقى ،
        أو يموت بهدوء "

        تعليق

        • محمد الشرادي
          أديب وكاتب
          • 24-04-2013
          • 651

          #5
          أختي نادية
          هذا نص ينادي كل الضمائر الحية إن بقيت على هذه البسيطة. يناديها من اجل إنسانية جديدة لاتمارس القتل تحت مسميات كثيرة. يناديها من اجل عالم خال من الحروب المدمرة...يناديها من أجل احترام الأنسان و تحريم سفك دمه. لكن هل من يصغي لهذا النداء؟ بالقطع لا أحد.
          شكرا على هذا الوجع أختي
          تحياتي

          تعليق

          • نادية البريني
            أديب وكاتب
            • 20-09-2009
            • 2644

            #6
            لغة شاعرية حزينة
            تقطر كل كلمة منها بالألم والفجيعة التي تقتلنا كل لحظة
            متى نستفيق من هذه الكوابيس
            رغم المرارة
            يبقي النص راقيا بلغته وسرده
            عله يعوضنا عن الأحزان
            تحيتي
            الأديبة الكبيرة
            نادية البريني

            شكرا أخي المبدع حارس
            كنت هنا بين ثنايا النّص تهبه بحضورك المزيد من الحياة
            ممتنّة لشهادتك وقراءتك
            دمت بألف خير
            تحيّاتي

            تعليق

            • مهدية التونسية
              أديبة وكاتبة
              • 20-09-2013
              • 516

              #7
              كتبت بإتقان محترف
              إبداع كبير
              وأحاسيس كثيرة داخل النص
              وجع ومشاهد من حرب كريهة تأتي على الاخضر واليابس
              لكن ماأعجبني اكثر تقمص شخصية المذكر
              في الحكي
              استاذة نادية
              تقبلي مروري البسيط
              كل الود والتحايا اختي


              http://www.youtube.com/watch?v=RkH_701__k0











              لاتسأل القصيدة عن دمها عن حرفها المغدور بهجر المكان
              لاتسأل فويلها الكلمات حين يسيل دمعها على خد الورق!

              تعليق

              • عائده محمد نادر
                عضو الملتقى
                • 18-10-2008
                • 12843

                #8
                آه يانادية البريني.. توجعني مثل هذه النصوص وأنا التي جربت كل ماكتبته بين فراق أحبة ووطن وجراح توغلت بين أضلعي حتى غارت عميقا وانا أودعهم الواحد تلو الآخر.. لم كل هذا الوجع بنا .. لم لم نعد نستسيغ أي شيء سوى الألم هل تعودنا عليه أم أن مايجري حولنا هو الدافع لئلا يقتلنا أو نحترق لو لم نخرجه من صدورنا.. أشكرك على الكم الهائل من الألم غاليتي ومشتاقة لك جدا ومعذرة إن كنت بعيدة قليلا
                الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                تعليق

                • ربيع عقب الباب
                  مستشار أدبي
                  طائر النورس
                  • 29-07-2008
                  • 25792

                  #9
                  جميل قلمك كما إحساسك
                  و لغتك شهية بالحزن و قدرتها على انجاب الدلالة و الوصول إلي لب الحالة
                  لكن ربما صادفني بعض ترهل في عضد العمل يحتاج منك إلي تكثيف قليل
                  حتى تصبح أكثر لمعانا و قوة في التأثير

                  هذا لا يقلل من جمال العمل لأنه مجرد رأى و خاطر مر بي أثناء القراءة !!

                  تقديري و احترامي
                  sigpic

                  تعليق

                  • نادية البريني
                    أديب وكاتب
                    • 20-09-2009
                    • 2644

                    #10
                    نص قوي، وموجع،بطعم المرارة وروائح الموت، والخراب. لغة متينة، ونهاية واخزة، ومؤلمة
                    مودتي وتقديري، نادية البريني

                    أخي المبدع حسن
                    ألف شكر على حضورك الجميل كما نفسك
                    أسعدتني قراءتك ورأيك في عملي
                    لا عدمت وجودك في ثنايا قصيّ
                    تحيّاتي

                    تعليق

                    • بسباس عبدالرزاق
                      أديب وكاتب
                      • 01-09-2012
                      • 2008

                      #11
                      الألم أيقونة تأبى إلا تعميق الجراح
                      الرحيل هو المسافة التي دوما تقطعنا دون هوادة
                      البقاء هو الحلم الذي يجثم في سرير الفكر
                      يختبيء تحت الوسادة، خوفا من أن نرميه في رصيف الخيبات

                      عمل جميل
                      حزين و لكنه مفيد
                      لابد ان نكتب دون توقف، لأن الكتابة ترفض التوقف، رغم أن مثل هذا النوع يتطلب التروي أحيانا و لكننا مجبرون على القفز فوق كل العوائق و تكسير كل القيود
                      أو هكذا يقول مرزاق بقطاش في كتابة خيول الليل و النهار

                      أحببت العمل و كل ما فيه
                      رغم الحزن و الدم


                      تقديري و احتراماتي أديبتنا الغالية نادية البريني
                      السؤال مصباح عنيد
                      لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                      تعليق

                      • إيمان الدرع
                        نائب ملتقى القصة
                        • 09-02-2010
                        • 3576

                        #12
                        الأديبة المبدعة: ناديا البريني..
                        صباحك خير، وأمل..
                        وبسمة ضياء، نشقّها من قلب الغيم، رغم كل شيء...
                        لقد تجرّح الجرح...
                        وناحت حمائم الروح...
                        والمشهد يتقاطر حزنه بكلّ الألوان، والظلال.
                        قرأت هنا وجيبنا...مدامعنا...
                        وفاض القلب يزفر شجوناً فوق الاحتمال...
                        لقد لامست المواجع بإحساس دافق ...ومشاعر صادقة
                        لقلمك مفردات تنبش في الروح إلى أبعد نقطة، نظفر منها دائما بقبس من نور ...
                        سلمت أناملك أختي الغالية ناااااااااااديا....
                        لك محبتي....وإعجابي بما تكتبين...

                        تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

                        تعليق

                        • محمد سلطان
                          أديب وكاتب
                          • 18-01-2009
                          • 4442

                          #13
                          أي حزن هذا وأي حرب التى أخرجت هذا الحبر الموجع والمفجع

                          أحب نصوصك أستاذتي.. تستفزنى للكتابة وتفتح شهيتي على التهام حزنها...

                          نص كبير لمبدعة قديرة...

                          كل التحية
                          صفحتي على فيس بوك
                          https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                          تعليق

                          • نادية البريني
                            أديب وكاتب
                            • 20-09-2009
                            • 2644

                            #14
                            لا أستطيع التعليق هنا إلا بدموع ملأت عينيّ
                            وكأن سهما اخترق قلبي ...
                            استطعت ببلاغتك وصدق عاطفتك نقلي إلى هناك ...
                            حيث يأتي الألم والموت من كل مكان ...
                            وتدفن الطفولة في مهدها ...
                            ما أجمل الإنسان حين يكتب للحياة ...
                            وأقبح الحيوان حين يقتل ...
                            قصتك حركت في مواجعا ..

                            المبدعة نادية البريني
                            نص جميل متين , صور بدقة , أعطى البعد الإنساني , وأوصل الرسالة بأمانة
                            دمت والنبل
                            مع الاحترام والتقدير

                            أخي المبدع فكري
                            ما أجمل أن نشاطر الآخرين همومهم...بلادنا العربيّة بعد الثورات تصطبغ بالحمرة...فعلا نريد أن نكتب للحياة لكن نجد أنفسنا نكتب للموت بسبب وحشيّة بعض النّاس...
                            ممتنّة كثيرا لكلّ حرف كتبته في حقّ عملي...ألف شكر أخي المبدع القدير
                            تحيّاتي من تونس

                            تعليق

                            • محمود قباجة
                              أديب وكاتب
                              • 22-07-2013
                              • 1308

                              #15
                              هل هي هزائمك ؟؟؟؟؟
                              أم هزائمنا ؟؟؟؟؟
                              أم هزائم أمة من مشرقها إلى مغربها
                              تكالبت عليها الأمم و قلنا آمين
                              فسد الحكام ... قلنا آمين
                              و اليوم اختلطت الأوراق و كثرت التبريرات ........ التي لا تستقر في الرأس
                              خربوا البيوت و قتلوا الأطفال ..... و خربوا البنيات التحتية للبلاد
                              .............
                              و النتيجه وهم الربيع الذي اصفرت أوراقه و أصبح هشيما تذروه الرياح التائهة في الأرجاء

                              قصة مؤلمة من أرض الواقع نسجت بجمال اللغة و بلاغة التعبير


                              تقديري للأخت الكبيرة البريني
                              احترامي
                              التعديل الأخير تم بواسطة محمود قباجة; الساعة 24-02-2014, 15:14.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X