قصة قصيرة
الحاج رجب الحجار ... شهيد الأنتفاضة
الحاج رجب رجل عجوز يعرفه أهل المخيم بوجهه المميز الذي عاثت به سنين عمره التي قضاها يكدح على هذه الأرض فتركت السنوات الطويلة التي لايعرف عددها بصماتها على وجهه ، وفمه الخالي الا من اللسان ، بالكاد يخرج منه بعض الكلمات بصوت متحشرج .. عرفه أهل المخيم بمشيته المألوفة حتى يخال للمرء انه يعرفه منذ أمد بعيد حتى لو شاهده لأول مرة في أي مكان يضبط أهل المخيم عليه ساعتهم في الصباح وهو يتجه كعادته منذ اربعين سنة خلت .. يحمل معوله على كتفه ويعلق به قطعة قماش صرت على بعض الخبز . الحاج رجب ذو ذوق فني وحس مرهف ، يفرغ هذه الطاقة الفنية الدفينة على الحجارة ، يقطعها من جبل .. من مغارة .. من أي مكان متاح ، ويشكلها حسب الطلب ، للزينه .. للبناء ، ويزينها بالرسومات او الخطوط .. في شبابه قبل عشرات السنين كان يأتيه الناس طلبا للحجارة للبناء ، فقد كان يصنع في ارضه قوالب الطين الى جانب الحجارة الصخرية والكلسية والرملية .. مهنة متوارثة في عائلة الحاج رجب تدر عليهم دخلا وفيرا .. دفعوا الكثير
من رجالهم فداء لتلك المهنة .. الحاج رجب فقد والده وشقيقيه تحت انقاض احدى المغارات التي انهارت اثناء قطع الحجارة .. حدث ذلك في قريته وارضه قبل أن يستقر به المقام في هذا المخيم مع زوجته وولديه .. عانى كثيرا حتى استأجر محجاره الحالي ، وبدأ حياة جديدة مع الظرف الجديد ، فلا يوجد ما يتركه لأولاده فدفع بهما الى التعليم فتخرجا مهندسين ، يعملان في احدى الدول الخليجية ، ويرسلان له المال الذي يكفيه وزيادة .. رغم ذلك ما يزال على عادته التي عرف بها .. وزاد عليه كرمه خاصة مع الأطفال .. يحمل الحلوى في جيب سرواله الطويل ويوزع منها على كل طفل يراه .. كسب حب الأطفال واحترام الكبار .
يتجمع الأطفال حوله كل مساء، وهو قابع داخل محجاره والرمال تحيط به ، يمرحون راكضين صاعدين هابطين يصولون ويجلون ، وويغنون وينشدون ، ويشدوا معهم الحاج رجب بالأهازيج والمواويل ، واحيانا يأخذه الطرب فيصمت الأطفال ويترنم بصوته المتحشرج بالميجانا والعتابا .
أصبح الزمن عند الحاج رجب متساو ، لايعرف الأيام والسنين ، منذ فقد زوجته قبل عشر سنوات ، احيانا يزور قبرها كل خميس ، ثم ترك هذه العادة ، لايتحرك من بيته الا الى المغارة او المسجد ، تعلم منه الأطفال الصلاة ..
بعضهم يصلي معه صلاة الجماعة والآخر يقلد كل حسب سنه ومعرفته ، اذا فقد طفل في المخيم ذهبو اليه فيرشدهم عنه .. نسي القرية او تناساها ، بات لايدرك أن هناك احتلال ، يدور بشكل روتيني مع عجلة الحياة ..
كان يوم خميس لايدري ما هو التاريخ ..عندما جاءه " طفل كبير " ، يعرفه جيدا " مروان " .. نعم مروان علامات الجد والأهتمام تبدو على وجهه .. نظر اليه نظرة ثاقبة فاحصة بخبرة سنين عمره الطويل .. رأه كبر .. كبر .. أكبر من شاب ، ربما شاخ أو هرم .. سأل الحاج رجب بصوته المتحشرج ماذا بك ؟.. فقاطعه مروان قائلا :
جاء دورك الآن من أجل قريتك ومحجارك الذي حدثتنا عنه طويلا.. جاء دورك الآن.. ابتسم الحاج رجب فانفرجت شفتاه لتظهر مغارة كبيرة اعادته الى مغارته التي فقد فيها والده واخوته .. وحك رأسه وسأل ما قصدك ؟ وما الدور الذي يمكن ان أقوم به وانا على هذه الحال ؟ .. أجاب مروان بحزم وجد : تقطع لنا الحجارة .. اتسعت ابتسامة الحاج رجب ، ليتسع باب المغارة ، وأردف مروان : نريد حجارة مدببة وحادة ، سهلة الحمل والقذف ، تصلح للمقلاع والشوديدة " الشوديدة قطعة خشبيه على شكل رقم سبعة تربط من طرفيها بقطعة مطاطية يوضع بها الحجر ثم يشد بقوة ثم يفلت فينطلق الحجر بقوة " . وبحزم دون خجل كأنه أمر قال مروان : نريدها الليلة .
تغيرت ابتسامة الحاج رجب وأغلق شفتيه على مغارة حياته المظلمة .. حدقت مقلتاه وتوردت وجنتاه ، وشعر بلسعة الشباب تدب في جسده وقال : فهمتك يا مروان .. ستجد ما تريد لن أنام حتى اوفر ما تطلبون ..
سيروا على بركة الله ، ولكن خذ مفتاح البيت واحضر السراج القديم ، ستجده أسفل صندقة الملابس ، ثم أخرج قطعة حلوى من جيبه وقال : خذ هذه مني للمرة الأخيرة ، فأنت مازلت في نظري طفلا .. أخذ مروان قطعة الحلوى وابتسم ابتسامته البريئة وركض بسرعة.
قضى الحاج رجب ليله يقطع الحجارة ويتفنن في تشكيلها وهو يغني الميجانا وينشد العتابا ويمول الدلعونة ويدمدم
نسم يا ريح الشمالي .. نسم يا هوى بلادي .. وبين الفنية والأخرى يأتيه بعض الفتية من مختلف الأعمار ملثمين
يحملون ما صنعه وهم يقولن يعطيك العافية .. ( هيك الهمة يا حاج رجب ) وآخر قال : والله رجعت شباب يا حاج رجب .. عرفهم جميعا من اصواتهم انهم اولاده .. اطفاله .. اطفال المخيم ..مرت بسرعة ساعات الليل .. وأشرقت الشمس وانتصف النهار .. لم يستطع الحاج رجب الوقوف .. انهارت قواه من شدة التعب .. لم يذهب لصلاة الجمعة ، تهادت الى مسامعه هتافات الشباب والشيوخ والأطفال والنساء وهويردد معهم:
ياخيبر يا يهود ... جيش محمد سيعود
من غزة حتى جنين ... نار بوجه المحتلين
من غزة صدر القرار ... انتفاضة وانتصار
اختلطت الأصوات عليه .. أصوات الرصاص بهتافات الشباب .. نظر من مرقده الى السماء .. الدخان يحجب الشمس .. ضاق صدره .. زاغت عيناه .. رائحة قوية تخنقه .. اسودت الدنيا في عينيه .. اختفت الأصوات لم يعد يسمع شيئا .
في المساء تجمع أهل المخيم متحدين أوامر منع التجوال يودعون الحاج رجب الى مثواه الأخير بجانب محجاره
وكتب على قبره شهيد الأنتفاضة .
محمود عودة
الحاج رجب الحجار ... شهيد الأنتفاضة
الحاج رجب رجل عجوز يعرفه أهل المخيم بوجهه المميز الذي عاثت به سنين عمره التي قضاها يكدح على هذه الأرض فتركت السنوات الطويلة التي لايعرف عددها بصماتها على وجهه ، وفمه الخالي الا من اللسان ، بالكاد يخرج منه بعض الكلمات بصوت متحشرج .. عرفه أهل المخيم بمشيته المألوفة حتى يخال للمرء انه يعرفه منذ أمد بعيد حتى لو شاهده لأول مرة في أي مكان يضبط أهل المخيم عليه ساعتهم في الصباح وهو يتجه كعادته منذ اربعين سنة خلت .. يحمل معوله على كتفه ويعلق به قطعة قماش صرت على بعض الخبز . الحاج رجب ذو ذوق فني وحس مرهف ، يفرغ هذه الطاقة الفنية الدفينة على الحجارة ، يقطعها من جبل .. من مغارة .. من أي مكان متاح ، ويشكلها حسب الطلب ، للزينه .. للبناء ، ويزينها بالرسومات او الخطوط .. في شبابه قبل عشرات السنين كان يأتيه الناس طلبا للحجارة للبناء ، فقد كان يصنع في ارضه قوالب الطين الى جانب الحجارة الصخرية والكلسية والرملية .. مهنة متوارثة في عائلة الحاج رجب تدر عليهم دخلا وفيرا .. دفعوا الكثير
من رجالهم فداء لتلك المهنة .. الحاج رجب فقد والده وشقيقيه تحت انقاض احدى المغارات التي انهارت اثناء قطع الحجارة .. حدث ذلك في قريته وارضه قبل أن يستقر به المقام في هذا المخيم مع زوجته وولديه .. عانى كثيرا حتى استأجر محجاره الحالي ، وبدأ حياة جديدة مع الظرف الجديد ، فلا يوجد ما يتركه لأولاده فدفع بهما الى التعليم فتخرجا مهندسين ، يعملان في احدى الدول الخليجية ، ويرسلان له المال الذي يكفيه وزيادة .. رغم ذلك ما يزال على عادته التي عرف بها .. وزاد عليه كرمه خاصة مع الأطفال .. يحمل الحلوى في جيب سرواله الطويل ويوزع منها على كل طفل يراه .. كسب حب الأطفال واحترام الكبار .
يتجمع الأطفال حوله كل مساء، وهو قابع داخل محجاره والرمال تحيط به ، يمرحون راكضين صاعدين هابطين يصولون ويجلون ، وويغنون وينشدون ، ويشدوا معهم الحاج رجب بالأهازيج والمواويل ، واحيانا يأخذه الطرب فيصمت الأطفال ويترنم بصوته المتحشرج بالميجانا والعتابا .
أصبح الزمن عند الحاج رجب متساو ، لايعرف الأيام والسنين ، منذ فقد زوجته قبل عشر سنوات ، احيانا يزور قبرها كل خميس ، ثم ترك هذه العادة ، لايتحرك من بيته الا الى المغارة او المسجد ، تعلم منه الأطفال الصلاة ..
بعضهم يصلي معه صلاة الجماعة والآخر يقلد كل حسب سنه ومعرفته ، اذا فقد طفل في المخيم ذهبو اليه فيرشدهم عنه .. نسي القرية او تناساها ، بات لايدرك أن هناك احتلال ، يدور بشكل روتيني مع عجلة الحياة ..
كان يوم خميس لايدري ما هو التاريخ ..عندما جاءه " طفل كبير " ، يعرفه جيدا " مروان " .. نعم مروان علامات الجد والأهتمام تبدو على وجهه .. نظر اليه نظرة ثاقبة فاحصة بخبرة سنين عمره الطويل .. رأه كبر .. كبر .. أكبر من شاب ، ربما شاخ أو هرم .. سأل الحاج رجب بصوته المتحشرج ماذا بك ؟.. فقاطعه مروان قائلا :
جاء دورك الآن من أجل قريتك ومحجارك الذي حدثتنا عنه طويلا.. جاء دورك الآن.. ابتسم الحاج رجب فانفرجت شفتاه لتظهر مغارة كبيرة اعادته الى مغارته التي فقد فيها والده واخوته .. وحك رأسه وسأل ما قصدك ؟ وما الدور الذي يمكن ان أقوم به وانا على هذه الحال ؟ .. أجاب مروان بحزم وجد : تقطع لنا الحجارة .. اتسعت ابتسامة الحاج رجب ، ليتسع باب المغارة ، وأردف مروان : نريد حجارة مدببة وحادة ، سهلة الحمل والقذف ، تصلح للمقلاع والشوديدة " الشوديدة قطعة خشبيه على شكل رقم سبعة تربط من طرفيها بقطعة مطاطية يوضع بها الحجر ثم يشد بقوة ثم يفلت فينطلق الحجر بقوة " . وبحزم دون خجل كأنه أمر قال مروان : نريدها الليلة .
تغيرت ابتسامة الحاج رجب وأغلق شفتيه على مغارة حياته المظلمة .. حدقت مقلتاه وتوردت وجنتاه ، وشعر بلسعة الشباب تدب في جسده وقال : فهمتك يا مروان .. ستجد ما تريد لن أنام حتى اوفر ما تطلبون ..
سيروا على بركة الله ، ولكن خذ مفتاح البيت واحضر السراج القديم ، ستجده أسفل صندقة الملابس ، ثم أخرج قطعة حلوى من جيبه وقال : خذ هذه مني للمرة الأخيرة ، فأنت مازلت في نظري طفلا .. أخذ مروان قطعة الحلوى وابتسم ابتسامته البريئة وركض بسرعة.
قضى الحاج رجب ليله يقطع الحجارة ويتفنن في تشكيلها وهو يغني الميجانا وينشد العتابا ويمول الدلعونة ويدمدم
نسم يا ريح الشمالي .. نسم يا هوى بلادي .. وبين الفنية والأخرى يأتيه بعض الفتية من مختلف الأعمار ملثمين
يحملون ما صنعه وهم يقولن يعطيك العافية .. ( هيك الهمة يا حاج رجب ) وآخر قال : والله رجعت شباب يا حاج رجب .. عرفهم جميعا من اصواتهم انهم اولاده .. اطفاله .. اطفال المخيم ..مرت بسرعة ساعات الليل .. وأشرقت الشمس وانتصف النهار .. لم يستطع الحاج رجب الوقوف .. انهارت قواه من شدة التعب .. لم يذهب لصلاة الجمعة ، تهادت الى مسامعه هتافات الشباب والشيوخ والأطفال والنساء وهويردد معهم:
ياخيبر يا يهود ... جيش محمد سيعود
من غزة حتى جنين ... نار بوجه المحتلين
من غزة صدر القرار ... انتفاضة وانتصار
اختلطت الأصوات عليه .. أصوات الرصاص بهتافات الشباب .. نظر من مرقده الى السماء .. الدخان يحجب الشمس .. ضاق صدره .. زاغت عيناه .. رائحة قوية تخنقه .. اسودت الدنيا في عينيه .. اختفت الأصوات لم يعد يسمع شيئا .
في المساء تجمع أهل المخيم متحدين أوامر منع التجوال يودعون الحاج رجب الى مثواه الأخير بجانب محجاره
وكتب على قبره شهيد الأنتفاضة .
محمود عودة
تعليق