لزمن غير بعيد جدا ،كنت أعتقد أن الحياة كلها كما عشتها ...رخاء فقط ،تمنحنا الأيدي الناعمة..اللباس الفاخر،والفراش الوثير الذي يمنعنا من التفكير في آلام الغير لحظة الخلود إلى النوم ،ببساطة لأنه يجعلنا ننام بعمق...فلا شئ يعذب روح الذاكرة.
أنا كنت قد غيبت عن واقع الحياة؛ باهتماماتي البسيطة جدا"التافهة جدا" في حينا الراقي .كنت عاجزة عن رصد ذاك الجزء القبيح من عالمنا.وما يحمل في طياته من وجع للفقر ، وآهات للمرض ..فحينا كأنه كان مجتمعاً مغلقاً جداً . يرفض أن يطلع عليه غيره ،أو أن يتقاسم هو مع غيره تفاصيل الحياة...
"هادي" كان جزءاً من هذا العالم المغلق "عالمهم وكذلك عالمي" . فهو ابن جارنا الذي يشارك والدي تجارته الواسعة . مميز في كل شئ...كإسمه ..هادئ في ملامحه، التي تعطي لمن يتعامل معه وعدا صادقا بالأمان .وفي طريقة تفكيره .حتى انفعالاته..."هادئة" ،شديد الخجل.وفوق هذا كله ،كان" كظلي" يصحبني أينما حللت. تقاسمت معه تفاصيل طفولتي المبكرة، ومراهقتي، و جزء من مرحلة الشباب.فنحن كنا مثل الأقراط الذهبية ،لا نتفارق أبدا.....كبرنا سوياً بدرجة قرب لا توصف...وكبرت معنا الألفة ،والرغبة في الاستمرار معاً ...مع تقاسم تفاصيل الحياة بكل ما فيها ،حتى "علبة الشوكولاطة" الفاخرة التي كان كلانا يقدمها للآخر ،كلما عاد والدانا من السفر كبرت معنا ....كان بيننا شئ برئ ودافئ. رسمته السنون في قلب كل واحد منا ،دفء لا يمكن أن تعبر عنه مجرد كلمات ...وهو ما لم يكن يخفى على أسرتينا...تحصلنا على شهادة "البكالوريا "،وبدأنا مرحلة جديدة من عمرنا ...فكلانا سيغادر ثانوية" النجاح الخاصة" ليجد نفسه في عالم آخر يجمعه بطلاب من عوالم مختلفة...فالدائرة الضيقة التي اعتدنا العيش فيها، ليست الدائرة الأوحد على ما كان يبدو .فهناك دوائر أوسع وجدناها في ذاك الوسط الجديد.
استمر الحال على حاله أقصد "البقاء دخل دائرتنا المغلقة" لكنها أصبحت لا تسع إلا كلانا .مما زادنا قربا وتمسكاً ببعضنا ....
كان الفارق الوحيد بيني وبين" هادي" حرصه على صلاته....عكسي أنا التي كنت أظن أن الصلاة من الطقوس الخاصة بالعجائز وكبار السن فقط.
كانت المحاضرات تبدأ عادة على الساعة الواحدة زوالا...الأمر الذي يعطيه مساحة للنزول للطابق السفلي حيث يوجد المُصَلَى...يتركنى مبتسماً وهو يردد :"أن الصلاة أهم بكثير منك ومن المحاضرات" أبتسم أنا أيضاً ،وبمجرد أن يغيب عني ،أضع حقيبة يدي على المقعد الذي بجانبي ؛حتى أردع أي طالب تسول له نفسه الإقتراب من مكان "هادي" الذي اعتاد الجلوس فيه ...كان ذلك المشهد يتكرر في معظم الأوقات ؛ هو يذهب للصلاة وأنا أحافظ له على مكان جلوسه...
مع الوقت.. بدأ يتأخر في العودة إلى المدرج ..وكنت كلما أسأله يعتذر.. ثم يبرر أن الزحام عند الخروج من المصلى يجعله يتأخر. فهو لا يحب التدافع مع الآخرين عند الخروج.
لكن شيئاً ما كان يولد بداخله .جعله يتغير ،ويقفز خارج الدائرة المقفلة ...ربما أصدقاءه الجدد "أصدقاء المسجد أقصد"..كان ذلك ظاهرا على جميع تصرفاته ،وبدأت أشعر أن هناك مساحة شاغرة "غير مصنفة"بدأت تفصل بين روحينا.
وعلى غير العادة أصبح الفراش الوثير فجأة عاجزا عن هدهدتي ..
مثله انتابني شعور أن ميلادا جديدا...بدأ ينبض داخل عقلي...وطريقة تفكيري، لأن الروح التي كنت أشاطرها كل شئ بدأت تبتعد عني.
كمحارب مثقل بالجراح، استجمعت كل قواي وشجاعتي وواجهته بهواجسي ...كنت هادئة جدا ،أتحدث بمنطق يتناسب مع طريقة تفكيري آنذاك....أخبرته أن التغيير الذي طرأ على حياته لا بد وأن يرتبط بسبب..وأنه إن أبصرت عيناه من "هي " أكثر تميزا مني...فمن الأفضل أن يكون أكثر شجاعة ويواجهني كما فعلت أنا ...ضحك لحظتها بشدة .وشعرت "أنا "بخجل ألهب وجهي حمرة ...ولم يتوقف عن الضحك إلا لحظة هددته بالانسحاب وأن هذه آخر مرة سأكلمه فيها....
إعترض طريقي كي يمنع جنوني من التصعيد أكثر....ونظر إلى نظرة ممزوجة بالرفق والمحبة في آن واحد ....وقال :"إن حدثتك بصدق فهل تسمعين؟
سؤاله كان غريبا جدا.على الأقل بالنسبة لما كان بيننا....وببساطة أجبته :"ما دام الأمر يريح كلانا فلم لا أسمع؟
ولأول مرة عندما بدأ يتحدث شعرت أنني لا أفقه كثيراً مما يقول.
:"أنا يا بيسان وجدت طريقي الذي طالما بحثت عنه"....أجبته وأنا مندهشة:"وأي طريق هذا الذي وجدته؟".
:"طريق الإلتزام يا بيسان ألا تعرفينه؟؟؟؟".أجبت مثل البلهاء:"وهل كنت قبل هذا غير ملتزم؟
كان كل جملة ينطق بها ، أبحث لها عن معنى في قاموس معرفتي المحدودة بالدين .وكنت كل مرة أعجز عن إيجاد مرادفا مماثلا لها، أو على الأقل شبيها لها في المعنى...
وتحدث مطولا ...حتى وصل لجملة لا تزال عالقة بذهني :"اسمعي ...حتى علاقتنا ما يجب أن تكون بهذا الشكل" عندما نطق بهذه الجملة خطواتي عادت للوراء بشكل لا إرادي ....نفس الخطوات التي كانت تسارع للقائه تحاول الهرب الآن...
أجبت لحظتها كمن يحاول أن يخرج من مواجهة بأقل الخسائر:"طيب ياهادي كما تحب أنا سأغادر الآن وأنت خذ القرار الذي يناسبك"
غريب أنني لم أستطع لحظتها التحدث بصيغة الجمع كما تعودت على ذلك.
نطقت بجملتي وغادرت أسابق غضبي خشية أن يسبقني في الإنفجار.
وصلت للبيت وأنا أقنع نفسي أن هذا مجرد كابوس مزعج وسينتهي بعودة الحياة لتفاصيلها العادية بيننا .لم أكن أعرف كيف أتصرف،ولمن أشكو ألمي. فلا أحد لي سواه...ورغم حيرتي اجتهدت اجتهادا في إخفاء ذلك عن أهلي.
جلست بعد خلوة طويلة مع نفسي على طاولة العشاء مع والداي وإخوتي....وبدأت أمي الحديث كما هي عادتها ...إلى أن سألتني :"هادي ما به يا بيسان أطلق لحيته ،هل هناك ما يتعبه؟؟؟؟؟؟لم أعلم لحظتها بما أجيبها. فسؤالها لم يكن متوقعا...كما أنها في لحظة هروبي من نفسي وجدتها تعيدني لواقع مر.
ثم وجدتها تطرح سؤالا آخر:"وأنت ما بك ،هل يزعجك شئ؟
للمرة الثانية لم أجبها وبقيت أنظر إليها في صمت مطبق.مما زاد في حيرتها.
دخلت غرفتي ثم أحذت جهازي المحمول ...كانت لدي لحظتها رغبة شديدة في مواصلة الحديث ،وفي معرفة قراره النهائي فيما يخص موضوعنا.
كعادته؛ وجدته بانتظاري. فأرسل أول رسالة يعتذر فيها عن الطريقة التي ربما آذت مشاعري أثناء حديث الصباح.
لم أستطع أن أنكر أنه فعلا آذاني ...لكني كنت لا أزال لا أفقه شيئا مما يقوله .وما يرمي فعلا إليه.مما كان يصنع من مشاعري المرتبكة، آلاما مؤجلة.
وجاءت الرسالة الثانية منه:"اسمعي بيسان ...لا تظني أن تغيري سيجعلني أتخلى عنك، ستكونين جد مخطئة إن ظننت ذلك"
:"أنا فقط يا بيسان طالما بحثت عن ذاتي وقد وجدتها أخيرا...." :"ليتك تتقاسمين معي السعادة التي وجدتها،إذا ما اقتربنا سوياً أكثر من خالقنا"
رسائله ليلتها كانت كثيرة وطويلة ....وبلغة حوار مختلفة...وفجأة أصبحت الطالبة النجيبة لا تفهم شيئاً.
لكنها فتحت في ذهني أفكارا رغم عدم وضوحها. وفي قلبي المحب رغبة في فهم ما يقول ،كان طيلة معرفتي به ،ملاذي في كل شئ.وأتقاسم معه كل شئ حتى حيرتي كنت أتقاسمها معه.لم لا أتقاسم معه اليوم ما يعيشه ؟.بعد هذا اليوم أخذت علاقتي به شكلا آخر ،وطعماً آخر .ومن لحظتها أصبحت أغلب لقاءاتنا في مكتبة الجامعة .حتى نتناقش حول الكتب التي كان يقدمها لي في مجال الدين ...إلى أن جاء اليوم الذي شعرت فيه بضرورة الإلتزام أنا أيضا....كنت أظن أن أمر التحول هين وسهل،بسهولة الحياة التي تعودتها ....لكن عندما أخبرت والداي عن رغبتي في تغطية شعري مع لبس الحجاب صعقا ،ورفضا الأمر جملة وتفصيلا...وأصدرا قرارا بضرورة ابتعادي عن "هادي" لأنه السبب فيما يحدث لي رجوتهم ،توسلت إليهم ،استحلفتهم ،كان ردهم واحد لا يتغير.وهو أن ذلك اللباس ليس من تقاليدنا، وأنه يجب علي احترام تقاليد البيت ما دمت أعيش معهم تحت نفس السقف .وأن علاقتي مع "هادي" حان الوقت لأن تنتهي.
"هادي" الذي كانت والدتي تسعد كلما حل ضيفا على منزلنا...وتعامله على أنه صهر المستقبل ، أصبح الآن شخصا غريبا وغير مرحب به على الإطلاق .فهو من عبث بنظرهم بفكري المتفتح .ليصبح لا يختلف عن تفكير المتزمتين في نظرهم ،فهو من جعلني أفكر في الحجاب "وذلك بداية للفكر المتطرف "كما يعتقدون".
لكن رغم بعده عني ،عالمي الآن أصبح أوسع ،وأكثر إشراقا .على الأقل، أعيش على أمل إقناع أهلي أن أمارس حقي في أن أكون مسلمة ،كما تمليه علي قناعاتي ، لا كما تمليه علي قناعاتهم وعاداتهم الظالمة.
أنا كنت قد غيبت عن واقع الحياة؛ باهتماماتي البسيطة جدا"التافهة جدا" في حينا الراقي .كنت عاجزة عن رصد ذاك الجزء القبيح من عالمنا.وما يحمل في طياته من وجع للفقر ، وآهات للمرض ..فحينا كأنه كان مجتمعاً مغلقاً جداً . يرفض أن يطلع عليه غيره ،أو أن يتقاسم هو مع غيره تفاصيل الحياة...
"هادي" كان جزءاً من هذا العالم المغلق "عالمهم وكذلك عالمي" . فهو ابن جارنا الذي يشارك والدي تجارته الواسعة . مميز في كل شئ...كإسمه ..هادئ في ملامحه، التي تعطي لمن يتعامل معه وعدا صادقا بالأمان .وفي طريقة تفكيره .حتى انفعالاته..."هادئة" ،شديد الخجل.وفوق هذا كله ،كان" كظلي" يصحبني أينما حللت. تقاسمت معه تفاصيل طفولتي المبكرة، ومراهقتي، و جزء من مرحلة الشباب.فنحن كنا مثل الأقراط الذهبية ،لا نتفارق أبدا.....كبرنا سوياً بدرجة قرب لا توصف...وكبرت معنا الألفة ،والرغبة في الاستمرار معاً ...مع تقاسم تفاصيل الحياة بكل ما فيها ،حتى "علبة الشوكولاطة" الفاخرة التي كان كلانا يقدمها للآخر ،كلما عاد والدانا من السفر كبرت معنا ....كان بيننا شئ برئ ودافئ. رسمته السنون في قلب كل واحد منا ،دفء لا يمكن أن تعبر عنه مجرد كلمات ...وهو ما لم يكن يخفى على أسرتينا...تحصلنا على شهادة "البكالوريا "،وبدأنا مرحلة جديدة من عمرنا ...فكلانا سيغادر ثانوية" النجاح الخاصة" ليجد نفسه في عالم آخر يجمعه بطلاب من عوالم مختلفة...فالدائرة الضيقة التي اعتدنا العيش فيها، ليست الدائرة الأوحد على ما كان يبدو .فهناك دوائر أوسع وجدناها في ذاك الوسط الجديد.
استمر الحال على حاله أقصد "البقاء دخل دائرتنا المغلقة" لكنها أصبحت لا تسع إلا كلانا .مما زادنا قربا وتمسكاً ببعضنا ....
كان الفارق الوحيد بيني وبين" هادي" حرصه على صلاته....عكسي أنا التي كنت أظن أن الصلاة من الطقوس الخاصة بالعجائز وكبار السن فقط.
كانت المحاضرات تبدأ عادة على الساعة الواحدة زوالا...الأمر الذي يعطيه مساحة للنزول للطابق السفلي حيث يوجد المُصَلَى...يتركنى مبتسماً وهو يردد :"أن الصلاة أهم بكثير منك ومن المحاضرات" أبتسم أنا أيضاً ،وبمجرد أن يغيب عني ،أضع حقيبة يدي على المقعد الذي بجانبي ؛حتى أردع أي طالب تسول له نفسه الإقتراب من مكان "هادي" الذي اعتاد الجلوس فيه ...كان ذلك المشهد يتكرر في معظم الأوقات ؛ هو يذهب للصلاة وأنا أحافظ له على مكان جلوسه...
مع الوقت.. بدأ يتأخر في العودة إلى المدرج ..وكنت كلما أسأله يعتذر.. ثم يبرر أن الزحام عند الخروج من المصلى يجعله يتأخر. فهو لا يحب التدافع مع الآخرين عند الخروج.
لكن شيئاً ما كان يولد بداخله .جعله يتغير ،ويقفز خارج الدائرة المقفلة ...ربما أصدقاءه الجدد "أصدقاء المسجد أقصد"..كان ذلك ظاهرا على جميع تصرفاته ،وبدأت أشعر أن هناك مساحة شاغرة "غير مصنفة"بدأت تفصل بين روحينا.
وعلى غير العادة أصبح الفراش الوثير فجأة عاجزا عن هدهدتي ..
مثله انتابني شعور أن ميلادا جديدا...بدأ ينبض داخل عقلي...وطريقة تفكيري، لأن الروح التي كنت أشاطرها كل شئ بدأت تبتعد عني.
كمحارب مثقل بالجراح، استجمعت كل قواي وشجاعتي وواجهته بهواجسي ...كنت هادئة جدا ،أتحدث بمنطق يتناسب مع طريقة تفكيري آنذاك....أخبرته أن التغيير الذي طرأ على حياته لا بد وأن يرتبط بسبب..وأنه إن أبصرت عيناه من "هي " أكثر تميزا مني...فمن الأفضل أن يكون أكثر شجاعة ويواجهني كما فعلت أنا ...ضحك لحظتها بشدة .وشعرت "أنا "بخجل ألهب وجهي حمرة ...ولم يتوقف عن الضحك إلا لحظة هددته بالانسحاب وأن هذه آخر مرة سأكلمه فيها....
إعترض طريقي كي يمنع جنوني من التصعيد أكثر....ونظر إلى نظرة ممزوجة بالرفق والمحبة في آن واحد ....وقال :"إن حدثتك بصدق فهل تسمعين؟
سؤاله كان غريبا جدا.على الأقل بالنسبة لما كان بيننا....وببساطة أجبته :"ما دام الأمر يريح كلانا فلم لا أسمع؟
ولأول مرة عندما بدأ يتحدث شعرت أنني لا أفقه كثيراً مما يقول.
:"أنا يا بيسان وجدت طريقي الذي طالما بحثت عنه"....أجبته وأنا مندهشة:"وأي طريق هذا الذي وجدته؟".
:"طريق الإلتزام يا بيسان ألا تعرفينه؟؟؟؟".أجبت مثل البلهاء:"وهل كنت قبل هذا غير ملتزم؟
كان كل جملة ينطق بها ، أبحث لها عن معنى في قاموس معرفتي المحدودة بالدين .وكنت كل مرة أعجز عن إيجاد مرادفا مماثلا لها، أو على الأقل شبيها لها في المعنى...
وتحدث مطولا ...حتى وصل لجملة لا تزال عالقة بذهني :"اسمعي ...حتى علاقتنا ما يجب أن تكون بهذا الشكل" عندما نطق بهذه الجملة خطواتي عادت للوراء بشكل لا إرادي ....نفس الخطوات التي كانت تسارع للقائه تحاول الهرب الآن...
أجبت لحظتها كمن يحاول أن يخرج من مواجهة بأقل الخسائر:"طيب ياهادي كما تحب أنا سأغادر الآن وأنت خذ القرار الذي يناسبك"
غريب أنني لم أستطع لحظتها التحدث بصيغة الجمع كما تعودت على ذلك.
نطقت بجملتي وغادرت أسابق غضبي خشية أن يسبقني في الإنفجار.
وصلت للبيت وأنا أقنع نفسي أن هذا مجرد كابوس مزعج وسينتهي بعودة الحياة لتفاصيلها العادية بيننا .لم أكن أعرف كيف أتصرف،ولمن أشكو ألمي. فلا أحد لي سواه...ورغم حيرتي اجتهدت اجتهادا في إخفاء ذلك عن أهلي.
جلست بعد خلوة طويلة مع نفسي على طاولة العشاء مع والداي وإخوتي....وبدأت أمي الحديث كما هي عادتها ...إلى أن سألتني :"هادي ما به يا بيسان أطلق لحيته ،هل هناك ما يتعبه؟؟؟؟؟؟لم أعلم لحظتها بما أجيبها. فسؤالها لم يكن متوقعا...كما أنها في لحظة هروبي من نفسي وجدتها تعيدني لواقع مر.
ثم وجدتها تطرح سؤالا آخر:"وأنت ما بك ،هل يزعجك شئ؟
للمرة الثانية لم أجبها وبقيت أنظر إليها في صمت مطبق.مما زاد في حيرتها.
دخلت غرفتي ثم أحذت جهازي المحمول ...كانت لدي لحظتها رغبة شديدة في مواصلة الحديث ،وفي معرفة قراره النهائي فيما يخص موضوعنا.
كعادته؛ وجدته بانتظاري. فأرسل أول رسالة يعتذر فيها عن الطريقة التي ربما آذت مشاعري أثناء حديث الصباح.
لم أستطع أن أنكر أنه فعلا آذاني ...لكني كنت لا أزال لا أفقه شيئا مما يقوله .وما يرمي فعلا إليه.مما كان يصنع من مشاعري المرتبكة، آلاما مؤجلة.
وجاءت الرسالة الثانية منه:"اسمعي بيسان ...لا تظني أن تغيري سيجعلني أتخلى عنك، ستكونين جد مخطئة إن ظننت ذلك"
:"أنا فقط يا بيسان طالما بحثت عن ذاتي وقد وجدتها أخيرا...." :"ليتك تتقاسمين معي السعادة التي وجدتها،إذا ما اقتربنا سوياً أكثر من خالقنا"
رسائله ليلتها كانت كثيرة وطويلة ....وبلغة حوار مختلفة...وفجأة أصبحت الطالبة النجيبة لا تفهم شيئاً.
لكنها فتحت في ذهني أفكارا رغم عدم وضوحها. وفي قلبي المحب رغبة في فهم ما يقول ،كان طيلة معرفتي به ،ملاذي في كل شئ.وأتقاسم معه كل شئ حتى حيرتي كنت أتقاسمها معه.لم لا أتقاسم معه اليوم ما يعيشه ؟.بعد هذا اليوم أخذت علاقتي به شكلا آخر ،وطعماً آخر .ومن لحظتها أصبحت أغلب لقاءاتنا في مكتبة الجامعة .حتى نتناقش حول الكتب التي كان يقدمها لي في مجال الدين ...إلى أن جاء اليوم الذي شعرت فيه بضرورة الإلتزام أنا أيضا....كنت أظن أن أمر التحول هين وسهل،بسهولة الحياة التي تعودتها ....لكن عندما أخبرت والداي عن رغبتي في تغطية شعري مع لبس الحجاب صعقا ،ورفضا الأمر جملة وتفصيلا...وأصدرا قرارا بضرورة ابتعادي عن "هادي" لأنه السبب فيما يحدث لي رجوتهم ،توسلت إليهم ،استحلفتهم ،كان ردهم واحد لا يتغير.وهو أن ذلك اللباس ليس من تقاليدنا، وأنه يجب علي احترام تقاليد البيت ما دمت أعيش معهم تحت نفس السقف .وأن علاقتي مع "هادي" حان الوقت لأن تنتهي.
"هادي" الذي كانت والدتي تسعد كلما حل ضيفا على منزلنا...وتعامله على أنه صهر المستقبل ، أصبح الآن شخصا غريبا وغير مرحب به على الإطلاق .فهو من عبث بنظرهم بفكري المتفتح .ليصبح لا يختلف عن تفكير المتزمتين في نظرهم ،فهو من جعلني أفكر في الحجاب "وذلك بداية للفكر المتطرف "كما يعتقدون".
لكن رغم بعده عني ،عالمي الآن أصبح أوسع ،وأكثر إشراقا .على الأقل، أعيش على أمل إقناع أهلي أن أمارس حقي في أن أكون مسلمة ،كما تمليه علي قناعاتي ، لا كما تمليه علي قناعاتهم وعاداتهم الظالمة.
تعليق