إكليل و زعتر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • بثينة غمّام
    أديبة وكاتبة
    • 02-03-2014
    • 29

    إكليل و زعتر

    إكليل و زعتر


    ينهض باكرا، يرتدي سروالا ذهبت الشمس بألوانه و تبانا تآكلت أكمامه، ينتعل الحذاء الوحيد القديم الذي بحوزته، يلقي نظرة عميقة جزعة على أحفاده النَيام على حشايا بالية و حصير مهترئ، يتبادل نظرات عميقة قلقة مع العجوز زوجته، يغطي رأسه بمنشفة باهتة الألوان و يخرج قاصدا " الحمادة "، يقتلع منها حزمة كبيرة من الإكليل و الزعتر، يحملها بين ذراعيه و يقفل عائدا إلى المدينة.
    " إحدى عشر دينارا هو المبلغ الذي ينقصنا، سيكون عليَ بيع اثنان و عشرين نبتة من نبات الإكليل و الزعتر حتى أتمكن من إتمام تجميع المبلغ و من دفع معلوم مدرسة تأهيل المعاقين فهل يحالفني الحظ؟ أأبيعها اليوم دفعة واحدة و أوفر ثمن المدرسة؟ أيرتاد غدا مدرسته؟ ". يغرق في حيرة وجوديَة مصيريَة عنوانها كيف أبيع اثنان و عشرون نبتة في يوم واحد؟.
    يستعرض قائمة من الأماكن: أمام الجامع، في المنتزه، أمام المركب التجاريَ، على ناصية الشارع، داخل السَوق... يستعرض مزايا و مساوئ كل مكان، يقارنها، يقيَمها و بعدها يختار موقف السيَارات المقابل للمركب التجاريَ و المجاور لسوق اللحوم و الخضر. هناك تكثر الحركة بين مترجلين من سيَاراتهم و مارَة و هناك تتعاظم فرص فوزه بمشترين للإكليل و الزعتر.
    يقصد المكان المطلوب، يدرس الموقع، مداخله، مخارجه، منافذه ليختار أخيرا موضعا استراتيجيَا يتوسَط موقف السيَارات و يأتي مقابلا للسوق و للمركز التجاريَ مباشرة بحيث يراه بوضوح كل من هبَ و دبَ في الأنحاء. يترصَد السيَارات الدَاخلة إلى الموقف، يقترب من كل مترجَل من سيَارته و من كل عابر، يرفع في وجه كل واحد إكليله و زعتره فيعرض عنه من يعرض و ينتهره من ينتهر.
    ما بال هؤلاء القوم؟ الكل مستعجل. ألا يحتاجون إكليلا؟ ألا يشترون زعترا؟. هل سيتوجَب عليه رفع صوته كما الباعة المتجوَلون العارضون لبضاعتهم على نساء الحيَ؟ أيقدر على فعلها؟ أيصدح بصوته؟ أيشهر بضاعته؟ ثمَ كيف يفعلها وهو لم يمتهن التجارة و لم يساوم أحدا يوما؟. يرغب في رفع عقيرته بالصَياح و لكن يخونه صوته، يخمد كثعلب نائم في جحره.
    " إليكم إكليلا و زعترا، فيهما شفاء من علل الشتاء و نكهة لكل غذاء ". كان قد حضّر الجملة منذ أيَام و أجهد نفسه في انتقاء كلماتها و في قفايتها. ألا تبدو متناغمة و جذابة بما يكفي؟ بلى إنَ مقاطعها جميلة و مغزاها مفيد و لقد لحَن الجملة في البيت فأجاد تلحينها ثمَ ردَدها مرارا و تكرارا بينه و بين نفسه حتى حفظ لحنها فلما لا تخرج الكلمات و لا تصدح بها حنجرته؟ لما يتحجَر صوته و كأنَه أبكم لا ينطق؟ لما تثقل الحروف و كأنَها الحجارة و لما يعجز عن ترداد ما لحَنه و حفظه أيَاما عن ظهر قلب؟. لعنة على الخجل، هذا الشيطان الذي يكبَل لسانه و يشلَ حركته و لعنة على هؤلاء القوم ألا يحتاجون إكليلا؟ ألا يشترون زعترا؟.
    يطول به الوقوف و لا أحد يرغب في بضاعته. مشى إلى الآن ناحية ما يناهز الخمسين مترجَلا و لا أحد رغب فيما يعرض باستثناء عجوز هرمة ساومته أكبر النَباتات و أكثرها أوراقا لتتبرَم من ثمنها الباهظ المشط، تتهمه باستغلال الخلق و بعدها تمضي تاركة إيَاه فاغرا فاه لا يدري بما يجيب و لا فيما يفكر.
    انتصف النَهار و لا أحد اهتمَ بإكليله و زعتره. تقدَم نحو الجميع بعينين لمع فيهما الرَجاء و التوسَل و لكن لا أحد اهتمَ بتوسله و رجاءه.
    أجل الترسيم يكاد ينقضي و حفيده قابع في البيت تتقهقر حاله يوما بعد يوم، ينسى ما تعلمه قبل وفاة والديه. القليل من الحروف التي أجاد نطقها في حياتهما صارت تتلكأ في فمه، تتكسَر و تتشوَه لتفقد في النَهاية كلَ شبه و كلَ صلة باللغة، عضلات الولد عادت للارتخاء بعد أن شدَتها تمارين المدرسة و أقرب للكسيح صار منه للواقف. أيخرج بالولد إلى الشَارع يسترقَ قلب المارَة و يتوسَل دنانيرهم بإعاقته؟ ثمَ كيف يفعلها؟ كيف؟ كيف؟.
    مالت الشمس عن كبد السَماء، تضوَر جوعا قاسيا، تشنَجت عضلاته من شدَة الوقوف، تسلل اليأس إلى قلبه، لن يبيع شيئا، لا إكليلا و لا زعترا. أيرمي بحمله في القمامة و يقفل عائدا إلى البيت؟ و لكن كيف يعود خاوي الوفاض بلا دنانير و لا ملاليم حتى؟.
    ملأ المرار حلقه، اعتصر الألم قلبه، خنقته الغصَة و تسلل الدَمع إلى جفنه فجاهد مجاهدة أشاوسة الأبطال ليتماسك و يمسك الدَمع في محجره. رفع رأسه إلى السَماء و ناجى الإله مناجاة عميقة، صادقة. ظل غارقا في نجواه إلى أن تنبَه لوقوف سيَارة سوداء فاخرة، ترجَل منها سيَد من أولائك المرتدين لبدلات رسميَة أنيقة تزيَنها ربطة عنق جميلة. اقترب منه في انكسار و يأس فصدَه بإشارة من يده و مضى في حال سبيله، فطأطأ رأسه، أحنى كتفيه و مضى كسيرا بائسا يضرع النَاصية ذهابا و جيئة. تحين منه التفاتة إلى السيَدة القابعة في السيَارة السوداء فتشير له أن اقترب. يتجه نحوها بعينين يلمع فيهما الرَجاء و التوسَل فتعطيه دينارا، يقرَب منها حزمة الإكليل و الزَعتر فتجيبه برقة و لطف أن عندي منهما في البيت، اترك الحزمة معك، لا بأس في ذلك، لا بأس في ذلك و فجأة
    " باف " ضجَة قويَة مدوَية تعلو في أعماق نفسه، صرح كرامته يهوي من عليائه فيدوَي دويَا صاعقا ترتجَ له ذاته و يتصدَع له كيانه. بنايته الشاهقة و بنايته الوحيدة: بناية الأنفة و العزَة ترتجَ بشدَة، تهتزَ بعنف و بعدها تهوي، تتساقط و تتناثر فيسمع لوقعها دويَ مدمَر صاعق و يتصاعد لغبارها دخان كثيف خانق يغمر عينيه دمعا، يسكن نظراته ألما و يوجد في ذاته شرخا فيتهدَج صوته حتى يكاد ينقطع: " لعنة على الفقر و المرض ". أخيرا ينطق، لا يردَد معزوفة إكليله و لا ينشد نغمة زعتره، فقط يلعن الفقر و المرض و ينسحب، يبتعد خطوتين، يستدير بعدها و يمسك بغطاء رأسه يمسح به ما فاض من عينيه من دمع ثمَ يمضي مقوَس الظهر، حاني الكتفين، مرتعش اليدين. أحبَ لو ردَ عليها دينارها، أحبَ لو قال عفوا سيَدتي أنا لا أستعطف أو أستجدي، أنا فقط أبيع إكليلا و زعترا ولكن صورة الحفيد المعاق الكسيح أرضا، الصَارخ كالأبله بكلمات غامضة مبهمة بلا معنى جعلته يحني الرأس و يمضي.
    لم يكد يبتعد حتى نادته ذات السيّدة ثانية، فتنفس الصَعداء، رفع كتفيه و مدَ قامته فأخيرا ستتسلم المرأة بضاعتها و سترحم عذاب نفسه و هوانها. يقترب منها، يشير لها أن خذي إكليلا أو زعترا و لكن المرأة تمدَ يدها و لا تأخذ إكليلا و لا زعترا، المرأة تسلمه شيئا ما، تضعه مباشرة في كفه من دون أن تنبس أو تهمس، فيبتعد عنها قليلا، يستدير و يتطلع في فضول لما في كفَ يده و إذا بها ورقة ذات عشرة دنانير، أخيرا ورقة ذات عشرة دنانير، عشرة دنانير مع دينار هذا يساوي أحد عشر دينارا و هذا تماما ما ينقصه ليرتاد الولد مدرسته، تماما ما يبتغيه منذ أيَام و ما يجهد النفس لجمعه.
    ينسى شرخ كرامته، تمرَغ عفته و سقوط عزَته، ينسى كبرياءه و أنفته، ألم ذاته و دمع عينه، ينسى كل ذلك و ينسى كلَ شيء، لا يرى غير الأحد عشر دينارا و لا يرى غير الطفل اليتيم المعاق القابع في البيت، فيشكر المرأة و يجزل الشكر، يحمد الإله و يكثر الحمد و بعدها يقفل عائدا مبسوط السَريرة، راضي النَفس، قانع الذات فغدا سيرتاد الولد مدرسته و ستخفَ إعاقته.

    القاصة: بثينة غمّام // تونس
    التعديل الأخير تم بواسطة بثينة غمّام; الساعة 13-03-2014, 20:04.
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميلة القديرة
    بثينة غمام
    جميلة
    نص لا أدري كيف خرجت من بين سطوره الله وحده يعلم بالرغم إطالة كانت لكن سردك خاصة قبل النهاية بشوط جعلني أنسى تلك الكلمات التي يستوجب رؤيتها وترشيق النص لأنه فعلا يستحق أن تتعبي عليه
    ملكة القص واضحة لديك ولاشك وخيال جميل وسرد جميل ووصف أحببته وأسكن الشجن داخلي
    رائعة
    كل الهلا والغلا بك بيننا سيدتي وأنا فعلا سعيدة بك لأنك قلم مميز من خلال نصك
    محبتي وشتائل الورد

    معابد الأسرار
    معابد الأسرار لم تعنها ساقاها المتعبتان تسلق الرابية العظيمة خلف سلسلة جبال الظلام، تجر خلفها جثة كاهن المعبد خازن الأسرار وحاميها الأمين المقتول غيلة، بعد أن وجدته خلف المعبد ينزف دمه من تجويف صدره الفارغ من القلب. تهاوت منهكة على الأحراش النارية، تنغرس بجسمها شظايا سنابل عجفت من سنين قحط أصابت زرع الممالك والمدن بكل أصقاع
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • بثينة غمّام
      أديبة وكاتبة
      • 02-03-2014
      • 29

      #3
      الأخت العزيزة عائده أسعدني كثيرا ما تفضلت بذكره و شكرا لثناءك و ترحابك.

      تعليق

      • عبد السلام هلالي
        أديب وقاص
        • 09-11-2012
        • 426

        #4
        الحاجة تكسر الظهر و تقوض الكرامة.
        في النهاية رمزية راقتني جدا، مفادها أننا قد نقاوم القليل " الدينار" و نثور لكرامتنا، لكن الكثير " 10 دنانير" قد ينسينا ذلك و يفرض سطوته علينا
        نص جميل ومؤثر، منساب سلس في غير تكلف و لا زخرفة.
        رأيته يحتاج تكثيفا وإدماجا لبعض المقاطع في بعضها خصوصا تلك التي تتحدث عن خيبة الجد لعدم البيع.
        هنات لغوية قليلة لا تؤثر : اثنان و عشرون - اثنان و عشرين / فطأطئ - فطأطأ / علياءه - عليائه.
        أرحب بك و أتمنى لك مقاما طيبا و المزيد من العطاء الموفق.
        تحيتي و تقديري
        كلمتك تعمر بعدك دهرا، فاحرص أن تكون صدقتك الجارية

        تعليق

        • أحمدخيرى
          الكوستر
          • 24-05-2012
          • 794

          #5
          محاولة جميلة جدا .. وامتلاك طيب لـ ادوات السرد ، والحبكة
          القصة واقعية كلاسيكية من الطراز القديم " تصنف نوفيل "
          برغم طول النص إلا ان تناوله كان رشيقا نظرا لتمكن الكاتبة من آداة السرد
          عاب النص الشرطات الرقمية لفصل الحوار عن السرد .. فـ هناك جمل حوارية وضعت لها الشرطات الواصلة "... " ولكنها تداخلت مع السرد فى بعض الانحاء .. كذلك إختفت علامات الترقيم ... لتحل محلها الفصلة " , " فى بعض الجمل
          النص كذلك كان يمكن إختزاله نظرا لان بعض الجمل المتتالية كانت ترادف بعضها البعض ..

          الاستاذة " بثينة

          سعدت بـ قراءة عملك ، وارجو الا أكون قد اثقلت عليك بـ ملاحظاتى .

          تحياتى
          التعديل الأخير تم بواسطة أحمدخيرى; الساعة 07-03-2014, 21:38.
          https://www.facebook.com/TheCoster

          تعليق

          • بثينة غمّام
            أديبة وكاتبة
            • 02-03-2014
            • 29

            #6
            الأخ أحمد، لم تثقل عليّ مطلقا إذ كيف نتقدم لولا النقد البناء. على العكس تسرني مشاركتك و سعيدة أن أعجبك النص في مجمله و شكرا.

            تعليق

            • بثينة غمّام
              أديبة وكاتبة
              • 02-03-2014
              • 29

              #7
              الأخ عبد السلام، يسرني أن راقك النص و شكرا على المشاركة .

              تعليق

              • محمود عودة
                أديب وكاتب
                • 04-12-2013
                • 398

                #8
                سر واسلوب جيد وموفق فقد شديني حتى آخر حرف
                مودتي وتحياتي

                تعليق

                • بثينة غمّام
                  أديبة وكاتبة
                  • 02-03-2014
                  • 29

                  #9
                  الأخ محمود، يسرني ما تفضلت بذكره و خالص شكري على المشاركة.

                  تعليق

                  • أحمدخيرى
                    الكوستر
                    • 24-05-2012
                    • 794

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة بثينة غمّام مشاهدة المشاركة
                    الأخ أحمد، لم تثقل عليّ مطلقا إذ كيف نتقدم لولا النقد البناء. على العكس تسرني مشاركتك و سعيدة أن أعجبك النص في مجمله و شكرا.

                    شكرا لك أختى الكريمة
                    وكذلك رشحتها لـ الذهبية فهى تستحق ذلك

                    لـ الرفع
                    https://www.facebook.com/TheCoster

                    تعليق

                    • بثينة غمّام
                      أديبة وكاتبة
                      • 02-03-2014
                      • 29

                      #11
                      و الله سعيدة جدّا بترشيحك. خالص شكري.

                      تعليق

                      • بثينة غمّام
                        أديبة وكاتبة
                        • 02-03-2014
                        • 29

                        #12
                        و الله سعيدة جدا بترشيحك. خالص شكري.

                        تعليق

                        • ريما ريماوي
                          عضو الملتقى
                          • 07-05-2011
                          • 8501

                          #13
                          رائعة .. كنت مع شيخنا بكل حرف...
                          وتلك المرأة استطاعت أن تفهم التوسل في عينيه..
                          بكيت وهو يعاني هذا التناقض بالمشاعر..
                          طوبى للفقراء أصحاب الكرامة والكبرياء...

                          نصك يستحق الرفع والذهبية...

                          سعدت بالتعرف على حرفك...

                          أهلا بك ومرحبا الأستاذة بثينة...

                          مودتي واحترامي وتقديري.


                          أنين ناي
                          يبث الحنين لأصله
                          غصن مورّق صغير.

                          تعليق

                          • أم عفاف
                            غرس الله
                            • 08-07-2012
                            • 447

                            #14
                            أختي بثينة قرأت النّصّ وأنا لا تسمح بالدّخول إليك
                            كنت معي منذ اللحظة الّتي قرأتك فيها
                            كم أحبّ ذلك العالم المليء بالأسرار
                            كنت وفيّة للحدث حرفا بحرف
                            جميل تفاعلك مع الأحداث
                            جميل تصويرك لمأساة شيخ لم تعفه الحياة من المكابدة رغم المشوار الذي قطعه
                            حقيقة أعجبتني قصّتك ،أعجبتني لغتك ،وأعجبني ذلك الرّجل المناظل حتّى الرّمق الأخير
                            تقديري وودّ كبير

                            تعليق

                            • بثينة غمّام
                              أديبة وكاتبة
                              • 02-03-2014
                              • 29

                              #15
                              القديرة ريما كل الشرف لي أن نالت قصتي إعجابك. خالص شكري على المرور.

                              تعليق

                              يعمل...
                              X