وضعت الكتاب جانبا و قد أحسست بغمة تطوق روحي، و أسئلة حيرى تتراقص بحثا عن التتمة، الأوراق الأخيرة ممزقة، و كأن يدا عابثة أحدثت الفجوة عنوة، بغرض شحذ الذهن و حثه على المشاركة في إتمام النص، ربما، و ربما لغرض آخر، فيه من التضليل ما فيه..صعدت من أعماقي سحابة سوداء زادتني قلقا، فاتجهت صوب الشرفة ألتمس عزاء، هواء نقيا يجدد دمائي، و يبدد حالة السواد الذي لبستني..رأيته، الرجل الذي شغل الناس و حير فضولهم..كان يجلس على عتبة المنزل المتداعي، صامتا، وجهه كسرته صفرة الجوع و التجوال، فقد كان لا يظهر بشارعنا البئيس إلا لماما، و يغيب لفترة قد تطول و قد تقصر، و لم نكن نعلم اي وجهة يوليها، و الأغرب أن كثيرا من أصدقائي أكدوا لي أنهم شاهدوه في حيهم في الوقت الذي كنا نراه بشارعنا..كان نحيفا، لا بالطويل و لا بالقصير، يرتدي أسمالا، بالكاد تخفي جسده المتعب حد القرف..ينتعل حذاء يسمح لأصابع رجله بالإطلالة على عالمنا القاسي و كأنها تدينه، أو أنها تسخر منه..يجلس جلسة الحكماء، لا يتحدث و لا تبدر منه أية حركة، شاخصا ببصره إلى البعيد، و كأنه يتابع أناسا يعرفهم و يراهم وحده، و تصدر عنه حركات تشي بأنه يودعهم، أو يبادلهم التحية..لم يكن أطفال شارعنا الكريم يؤذونه لا برشق الحجارة و لا برشق الكلام الجارح..فقد كانوا يفزعون إليه ليساعدهم على إنجاز تمارينهم المنزلية، و بخاصة الرياضيات، و كانت الأسر تقدم له طعاما دافئا، كنوع من الاعتراف الضمني بخدماته، لم تكن تخاف على أبنائها منه، إذ لم يرتكب أدنى فعل جارح..فهو دوما ودود، حتى في اللحظات التي يقاطعه فيها أحد مخرجا إياه من تأملاته الطويلة..و الأغرب أن طلاب الجامعة كانوا يطلبون مساعداته، و ما كان يبخل عليهم بها.. كريما كان .لقد تعددت حوله التفسيرات الموضحة لحالته التي هو عليها..
فمن قائل إن زوجته كانت تغار عليه، خاصة و قد رأت اهتمام تلميذاته به، فقد كن يطرقن بابه طلبا لمساعداته، فكانت تصرفهن بقسوة لم تمنعهن من تكرار المحاولة..أوعزت لها إحدى صديقاتها بطلب مساعدة عرافة، و كذلك كان، بدأت تطعمه أكلا مختلطا بوصفات سحرية قالت إنها كفيلة بإبقائه لها وحدها، غير أن صحته تدهورت بسرعة، و جعلته يهلوس و يأتي بحركات غير محسوبة، و مرة استيقظت فلم تجده بجانبها، بحثت عنه في كل مكان، و استسلمت لليأس و القنوط..
و من قائل إنه كان معارضا شرسا للنظام ، لا يني ينتقد السياسات المتبعة ، مقالاته النقدية أججت الغضب في نفوس الجهات المعلومة ، فبدأت في الكيد له : بداية ، قامت بتوقيفه ، ثم التضييق عليه في عمله ، و لأنه أستاذ كفؤ ، فقد التف حوله الطلاب ، و شكلوا ذرعه الواقي . وجدت السلطة أمر مواجهته بهذا الشكل لن يكون إلا مجلبة للشهرة له ، و الهم لها ، فقدحت زناد فسقها ، و استشارت شياطين قبحها ، فاهتدت إلى اختطافه و هو خارج من حانة متمايلا ، و قامت بتعذيبه ، الضرب و التعليق و الصعق ، وغطس الرأس في الماء . توقظه في الصباح الباكر ، و في عز البرد ، و تصب عليه الماء البارد ، ثم تخوض معه حرب الاستجواب. لم يذق طعم النوم طيلة فترة الاحتجاج ، إلى أن فقد عقله.
وجد في صبيحة أحد الأيام ملقى على قارعة الطريق ، و هو في حالة إغماء ، يظهر جسمه الناحف آثار تعذيب..لم تقبله المستشفيات لمعالجته ، فاضطرت إحدى غانيات حي بئيس باستضافته و مقابلته إلى أن شفي.
و قيل غير ذلك ، و سارت في الحديث عنه مسارات رفعت قصته مقام الأسطورة ، و حولته كائنا عجبا..
ها هو الأن ، أمامي ، ينظر إلي باسما و في يده بعض أوراق ، يشير لي بالنزول.
أبتعد عن النافذة ، أستدير لأنزل السلم ، أفتح الباب ، لا أجد سوى عتبة فارغة ، ترقد فوقها مجموعة أوراق، أجلس مفكرا : _ هل أنا ضحية هلوسة ؟
الأكيد أني رأيته ، أرفع رأسي متذكرا، فأجد شخصا يتابعني ، ينظر بفضول إلى كومة الأوراق التي بيدي ألوح بها ، يغلق النافذة ، يستدير لينزل السلم ، يفتح الباب ، لا يعثر إلا على أوراق فوق عتبة باردة.
فمن قائل إن زوجته كانت تغار عليه، خاصة و قد رأت اهتمام تلميذاته به، فقد كن يطرقن بابه طلبا لمساعداته، فكانت تصرفهن بقسوة لم تمنعهن من تكرار المحاولة..أوعزت لها إحدى صديقاتها بطلب مساعدة عرافة، و كذلك كان، بدأت تطعمه أكلا مختلطا بوصفات سحرية قالت إنها كفيلة بإبقائه لها وحدها، غير أن صحته تدهورت بسرعة، و جعلته يهلوس و يأتي بحركات غير محسوبة، و مرة استيقظت فلم تجده بجانبها، بحثت عنه في كل مكان، و استسلمت لليأس و القنوط..
و من قائل إنه كان معارضا شرسا للنظام ، لا يني ينتقد السياسات المتبعة ، مقالاته النقدية أججت الغضب في نفوس الجهات المعلومة ، فبدأت في الكيد له : بداية ، قامت بتوقيفه ، ثم التضييق عليه في عمله ، و لأنه أستاذ كفؤ ، فقد التف حوله الطلاب ، و شكلوا ذرعه الواقي . وجدت السلطة أمر مواجهته بهذا الشكل لن يكون إلا مجلبة للشهرة له ، و الهم لها ، فقدحت زناد فسقها ، و استشارت شياطين قبحها ، فاهتدت إلى اختطافه و هو خارج من حانة متمايلا ، و قامت بتعذيبه ، الضرب و التعليق و الصعق ، وغطس الرأس في الماء . توقظه في الصباح الباكر ، و في عز البرد ، و تصب عليه الماء البارد ، ثم تخوض معه حرب الاستجواب. لم يذق طعم النوم طيلة فترة الاحتجاج ، إلى أن فقد عقله.
وجد في صبيحة أحد الأيام ملقى على قارعة الطريق ، و هو في حالة إغماء ، يظهر جسمه الناحف آثار تعذيب..لم تقبله المستشفيات لمعالجته ، فاضطرت إحدى غانيات حي بئيس باستضافته و مقابلته إلى أن شفي.
و قيل غير ذلك ، و سارت في الحديث عنه مسارات رفعت قصته مقام الأسطورة ، و حولته كائنا عجبا..
ها هو الأن ، أمامي ، ينظر إلي باسما و في يده بعض أوراق ، يشير لي بالنزول.
أبتعد عن النافذة ، أستدير لأنزل السلم ، أفتح الباب ، لا أجد سوى عتبة فارغة ، ترقد فوقها مجموعة أوراق، أجلس مفكرا : _ هل أنا ضحية هلوسة ؟
الأكيد أني رأيته ، أرفع رأسي متذكرا، فأجد شخصا يتابعني ، ينظر بفضول إلى كومة الأوراق التي بيدي ألوح بها ، يغلق النافذة ، يستدير لينزل السلم ، يفتح الباب ، لا يعثر إلا على أوراق فوق عتبة باردة.
تعليق