(( أساتذتي الأفاضل مهما نأت المسافات لا بد للضال من عودة
شكرا للأستاذة المبدعة عبير هلال و التي دعتني لأن أعود إلى أيك المبدعين ))
سالم وريوش الحميد
ثرثرة رجل يحتضر
.
.الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض –
بول فاليري
-
`الأحلام كثيرة كثرة حبات المطر التي راحت تتلصص عليهما من تلك النوافذ المهشمة،عيناها مازالت ترنو إلى الشوارع الاسفلتية تلك التي أكلتها حمم اللهب الداكن ، باحثة عن أجساد غضة متناثرة هنا وهناك ، أو بارقة أمل ، أو صوت ضمير يصحو ، أصوات الرصاص لا تنقطع وكأنها زغاريد نساء ، قال لها وهو يغمض عينيه :
(أخفضي رأسك حبيبيتي قد يكون هدفا لقناص أو رصاصة ضلت طريقها )،
مست يده شعرها وراح يتحسس جيدها ينظر إليها وثمة ابتسامة على شفتيه
(دعك من الخوف والتوجس وتعالي إلي )
راح ينظر إلى فضاء جسدها إذ لا حدود لامتداد البصر في أفق عينيها حيث تطوف كل المجرات ، لا شيء يمنعه من التحديق بتلك المرآة ، فكل التضاريس مقروءة لديه ، هي الوحيدة التي تمنحه الوضوح والنقاء ، يرى فيها لذة الحياة ومفاتنها وبهجة الدنيا ، يسره ان يبحر في زرقة عينيها ، واخضرار الأشجار يراه على تلك الجفون جاثيا ، وعلى شفتيها يعتّق النبيذ ،بياض الصبح على تلك الروابي ،وظلمة الليل هنا مكامنها في سواد شعرها ،جموح الأنثى ، وسكون الريح ،تجمعت في كيانها كل الأضداد . وهو حائر بين أن يكون أو لا يكون كمركب تتقاذفه الأمواج ، الزمان يتوقف ،والمكان ينعدم حين يضمها إلى صدره وشفتاها تبوحان سرا لشفتيه ، لا صفاء يراه إلا في بضاضة جسدها بعد أن شوّه دخان الحرائق كل الأجساد فبدت كأعجاز نخل ...
-امنحيني دفئا وأمنحك ما تحلم به كل النساء –
_أيكتك جسدي ومتكأك نهداي .. سيظلان يبحثان عنك رغم عتمة الطريق ...!
- جسدك بحر عظيم وأشرعة سفني ممزقة كيف لي الإبحار فيه ومجدافي محطم ،
طبعت على خده قبلة و طوقت جسده النحيل بذراعيها ، برودة تسري في بدنه ، كما الأموات لاحت الصفرة على وجهه.. صرخ بأعلى صوته متأوها حاول أن يبعد جسدها المراوغ عنه برفق ، بدا يتلوى كأفعوان من شدة الألم .. اجتاحته نوبة سعال . احتارت كيف لها أن تكتم سعاله .. أحاطت رأسه بيديها .. سكنت نوبة السعال .. عب سؤر الماء من قدح مكسور ، غفا على ذراعها .. حلم بأن دارهما متأبطة الأحزان وهي تبكيه ، خالها تنتحب عليه كما الثكلى
(تلك الدار مأسورة بالعشق منذ أن وطئتها أقدامهما )
أرجعت رأسها للوراء ، بين استرجاع الذكريات وأحلام اليقظة تتزاحم الأفكار كانا يسترقان النظرات إلى بعض رغم حداثة سنهما يجتران الأحلام البريئة يلاحقها في منعطفات الأزقة ينتظرها بعد خروجها من المدرسة ، تأتي وأمها كل يوم لبيتهم الأم تنهمك بالحديث مع أمه ، وهما لاهيان عنهما بأحاديث الطفولة ، كل يوم يلتقيان يتسامران قتلا للفراغ وأملا بعودة الغائبين ،ينصتان إلى صوت المذياع ، علهما يسمعان اسم خالها بين أعداد الأسرى الذين تتلى أسماؤهم من إذاعة طهران وبغداد تذيع الانتصارات وأغاني الحروب، الصواريخ تدك المدن الآمنة ، أبوها وأبوه هناك في جبهات القتال يلتحفان السماء ويفترشان تراب الخندق ، قد يتجاذبان حديثا طويلا ، لكن لا سمر حين يحضر الموت ، تتجمد العواطف ويبقى الإنسان أسير خوفه، (لا انتصار في الحرب .. الكل فيها خاسر ) قالها أبوه ذات مساء .. ودارت الأيام، جثت على قبر أبيها ناحبة صارخة .. لم يفرحها أن يكون شهيدا
، رأت حبيبها يختلس النظر إليها دون عشرات النسوة وهي تهيل التراب على رأسها ، وتلطم خدها.. والأيام تغلي كبركان هادر .. والراحلون يزدادون عددا بازدياد عدد اللافتات التي تؤبن الموتى ، تضحك في داخلها كلما تذكرت نحيب أمها معاتبة الله وهي تبكي زوجها ( يا ترى لمَ لم يرق قلب الله لنا ..؟ )
إن دارنا اليوم غريبة يكتنفها الوجوم باتت خلوا من نذور الأمهات، خلوا من قهقهة الأطفال وهم يتراكضون في صحنها ) عشر من السنين مرت وهما لا يفترقان، يبنيان صروحا من الأحلام ، بات حلما أن يكون أبا و أن تكون هي أما . تلصق صور الأطفال على الحائط كلما اشتاقت لنمو جنين في احشائها ،
حين أتاها (بلوحة الطفل الباكي *)
كي تضعها مع بقية الصور الملصقة على الحائط ، رمت بها قالت
(لا أريد للأطفال أن يبكوا )
عند المساء يدلفان غرفتهما يرتشفان كؤوس الحب وينتشيان حتى الثمالة ، ولكن ثمة سؤال يدور
(لم غادرت البلابل الدار ، والأشجار ما عادت تحمل إلا ميت الثمار؟لم غادرها الشعراء ، وضاعت منها الدوواين ؟ لم غرب عنها الفرح ، وتركت تبوح آلامها لكل قادم؟ )
(حبيبتي رتلي حروف الهجاء ،أسمعيني حداءك وأنا أكاد أغيب عن الوجود ، عيناي واجفة ،وشفتاي متيبستان وشبح الموت ينتهز الفرصة للانقضاض علي)
(وهل يسمع الموتى المووايل )
قالتها في سرها فيما اغرورقت عيناها بالدموع مسحت جبينه الذي راح يتصبب عرقا ، ورنت إليه:
(إهدأ حبيبي لا تكثر الكلام )
. تشابك جسداهما كأفنان متضافرة .مازال الرصاص يئز على الجدران ، مباغتا إياهما بين الفينة والأخرى ليحطم شيئا ما
(دعيني أقبلك ، دعيني أمارس الحب معك )
اقتربت منه أكثر جعلت من شعرها الأسود خمارا يغطي جرحه ، تدلت قلادتها ولامست فاهه ، شم رائحة نهديها
( إن الدماء تتدفق من صدرك، جرحك عميق )
(ما نز من جسدي دما نزفت عشقا وألما)
الدخان يملأ باحات الدور وسطوح المنازل
(سأروي جسدك قبل أن يصير يبابا سأروي شفتيك برضابي،ودق من غمام روحي التي توسدت روحك لتركن إليها)
آآآآآه يا جرحك، )
اختنقت بالعبرات
(لا تبكي حبيبتي أرى دموع الأطفال والصبايا تجف على مآقي عينيك، ألا تكرهين بكاء الأطفال غني لي حبيبتي كما كنا نودع الشمس ساعة الأصيل .) وبصوت ممزوج برائحة الخوف والحزن غنت له ..
( ها ... حبيبي )
الفجر شقشق ، عرفا ذلك من الأذان الذي غزا سمعيهما دونما اسئذان.
. عمره الذي ناهز الرابعة والثلاثين لم ير فيه غير الموت المباح بالمجان،
ولم يسمع فيه غير أصوات المدافع وأزيز الرصاص و سنابك الخيل تغزو الأمان .
رأى خنازير الثراء تنهش أرغفة الخبز من أيدي الجائعين،
والجائعون يلوذون بصمتهم لا يشهرون سيوفهم على الجوع .
(ما عادت سمائي ممطرة ربما يتصحر جسدك بعدي )
استطرد قائلا (لكن إياك أن تبكي ) يشم عطرا غير عطرها، رائحة تراب معفر بحبات المطر والبارود والدماء ، يده تبحثان عن واحة أمان .. لازالت تطوف في أرجاء معمورتها تغور بين الوديان والنجود . أخرجا .. صوت جاء من البعيد الملثمون يحيطون بالدار كسروا الأبواب حطموا كل شيء، أقدامهم تكسر لحظة السكون ، جلبة تثار هنا ،و لغط يعلو هناك ، هرست الورود تحت أقدامهم مزقوا صور الأطفال
( تكبير ) (الله كبر )
الانتصار العظيم على الحب يكبر له.. للموت يكبر ..
لم يأبه الحبيبان لهم .. لم يهتما لأصواتهم . ولا وابل الرصاص كان يثنيهما عن ممارسة الحب .. وهو يدفن رأسه بين نهديها كانا غارقين في نشوة يتوسدان بعضهما بعضا يطوفان في عالم آخر ..حيث لا بغضاء ولا كره ولا قتل .. عالم من العشق السرمدي ... يسبحان في فضاء واسع من الأحلام و مع الفجر هدل اليمام ( يا ..قو .. قتي ) باحثا عن الأمان .. راحت ضحكاتهما تستفز زقزقة العصافير..)
----
----
-----
كيف مارسا الحب والموت كان محيقا بهما...
12 / 3 / 2014 •
*لوحة شهيرة رسمها الفنان الايطالي جيوفاني براغولين
تعليق