أوّل قصّة أكتبها في حياتي
دلفت وأغلقت الباب ،دفعته بقدمها دون التفات ...همّت بالاستدارة لتحكم شدّ المزلاج ولكنّها عدلت عن ذلك فلربّما يعنّ لأحدهم أن يمرّ بها فيهدم جدار الصّمت ..بتثاقل شديد دفعت باب الغرفة الوحيدة في الحوش الممتدّ ،أجالت بصرها .غشيتها رائحة بخور خالطها النّدى فصارت أشبه ما تكون بالعفن ....فتحت الشبّاك على مصراعيه ...تعثّرت بمائدة تعلوها بقايا طعام ...كادت تسقط فانفلت لسانها يسبّ في غير وضوح ...ألقت بالحقيبة وتهالكت على أقرب أريكة .
حين يلتقي رأسها المنهك بالأرض تضع عنها بعض همومها .
أغمضت وأسلمت نفسها لبرودة الفراش .حاولت الإغفاء غير أنّ الحركة الشبيهة بدوران الرّحى تسحب خيوط أعصابها خيطا خيطا فتستجيب أطرافها وعيناها وكل أعضائها لهذا الشدّ العنيف فركت جبينها في محاولة لطرد الصّور .
ـــ يا إلهي متى ينقطع هذا الرّنين ؟
أولا يسمعه أحد سواها ؟كيف لا يتبرّم به الآخرون ؟
ألحدّة سمعها يلازمها ؟علمت أن لا حدّ لسيل الأسئلة فهبّت واقفة .نفضت كلّ الأفكار وانصرفت لترتيب الغرفة .كانت إذا دخلت المطبخ تنسى ما يربطها بالغرفة والعكس .اكتفت بما أعاد للمكان بعض نظامه .كان الوقت يدهسها أثناء مروره .كلّ همّها أن تنتزع من عذاب جدل عقيم روحها ....لماذا ....؟ كيف ...؟ هل...؟ لم يكن في الحوش كلّه غير الماجل تحسّ ببعض السّكينة وهي تجلس على حافته .كلّ العتبات تلتقي بالبلاط الشّاحب وقد تقاربت الحفر على مساحته .
أجالت بصرها، لا حبل يشدها إلى الجدار ،لا مرآة تهزّها إلى طفولتها لا ذكرى تدغدغ وجدانها فتنفرج أساريرها .هذا المنزل الصّحراء لم يشهد تفتّحها ولا بقايا لطيب أمّها فيه .
تحسّست جبينها ،غامت عيناها وكأنّها للتّوّ تفيق من إغماءة أصابتها إثر اصطدامها بحافة الجدار الّذي قبع يتأمّلها بعين واحدة والعين الثانية فقئت وهو يطبع على جبينها ذلك الشرخ الّذي امتدّ عميقا حسب محور عمودي في عظام الجبين .ورغم أنها لم تنزف يومها إلاّ أنّها تهاوت ولفّ العفريت ذيله حول رقبتها ،لم تعد تذكر دافع الفرار ولا من قطع خلوتها مع صديقتها فتحيّة الّتي أشبعتها صفعا، وأغرقتها ماء باردا في محاولة لإعادة الحياة إليها. أكان الجدار يدري أنّ الفرصة ستواتيه ليشمت بها ثانية ؟ يشهد ألمها وانكسارها ؟ لم تعد فتحيّة صديقتها الآن .هي لم تعد صديقة أحد ،لا وقت لذلك .لا بل لا شهيّة لذلك .
لم تقو على ابتلاع ريق أفاضته الذّكرى فجمعت ريقها ووقفت لتتخلّص منه في أقرب حوض إليها .أيّة أحواض هذه التي تتحدّث عنها ؟
كان عليها أن تخرج أمام السّقيفة لتدفن بصاقها مباشرة في التّربة .
انتقل صاحب البيت إلى فيلاّ عصريّة ومخافة أن تسكن العفاريت بيته هذا تكرّم عليها بالمفتاح ،مفتاح يزن أكثر من رطل .وذلك بعد أن شرحت له مشكلتها .أشهر مرّت وهي بانتظار أن يجرى البحث الاجتماعي الذي يفترض أن يعيد إليها حضانة ابنها بحكم استقلالها بالسّكن عن أهلها.
يفوت الطّائر أحيانا أن يختار المكان المناسب لبناء عشّه وحين يعي حقيقة الأمر ،يكون قد أدرك استحالة نقل فلذات كبده إلى مأمن .
فإمّا أن يطأ على قلبه وينسى فراخه أو يستسلم عن وعي لشرك تكون فيه نهاية الجميع .
لو يجيء المشرف الاجتماعي بسرعة ، لو يدرك عذابها ويتعاطف معها ،من قلب الجدار اندفع تيار هواء لفح وجهها ،فهمّت بالوقوف ،ثمّ عدلت عن ذلك وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ما فتئت تتّسع ومع اقتراب الخيال الذي انتصب فجأة أمامها فتحت ذراعيها لتحضن الطّفل الّذي وقف يرنو إليها وملأ أنفها شذى أنفاسه .
ــ عزيزي !هيّا إليّ ،تعال يا بنيّ ،يا غالي ...يا روحي ...اشتقت إلى أمّك ؟ أنا أيضا مشتاقة، مشتاقة حدّ العذاب .
أرادت إبعاد وجهه عن صدرها لتتأمّله ،تشمّ رقبته وتضع من جديد خدّها على خدّه الصّغير.
لاشيء سوى الفراغ ...
بكت ،علا نشيجها ،رفعت عينيها إلى السّماء "يا إلهي !فرّج كربي ."
استعذبت أنينها فاستسلمت لذبذبات الأمواج الصّوتيّة تتكسّر على ميناء أذنيها .ذهلت عن دموعها وتوقّف السّيل .
هناك غير بعيد عن ألمها وقفت غير آبهة لوجودها ولا نشيجها...
كانت تطرح خطاها على زجاج الجدار كملكة .تدلّت ريشات جناحيها تنثر حبّات الوله في حركات رشيقة .ترسل صفيرا خجولا تقطعه التفاتات إلى إحدى الزوايا حيث وقف العصفور متكوّر الصّدر ،مرتفع الرّأس ،يقفز من حين لآخر قفزة متنطّعة ويدور حول نفسه في رقصة استفزازيّة وكأنّه لا يعبأ بنداءات أنوثتها .
أخذت تنقل بصرها بينهما وقد خبا صوت نشيجها وجفّت دموع عينيها .
عدّلت جلستها فأحسّت العصفورة بحركتها فجفلت وقفزت متراجعة .
كاد قلبها يتوقّف مخافة أن تغادر هذه الأنثى مسرحها وتغيب عنها بقيّة الأحداث .
قطعت أنفاسها وجمدت في مكانها كتمثال مغروس على طرف الماجل .
عادت للعصفورة طمأنينتها فانحنت ثمّ ما لبثت أن جثت حتّى بدت وكأنّها في حالة سجود .طالت سجدتها والعصفور منصرف عنها إلى تنقية ريشاته وتسويتها حينا وشحذ منقاره على شفا حجارة ناتئة في الجدار حينا آخر .
أدركت المسكينة أنّها مدعوّة لجهد إضافي فلم تفقد صبرها ولا فتر عزمها عن التودّد إليه بشتّى الطّرق .
تفنّنت في إبداء خضوعها وضاعفت مسعاها في استمالته ولفت انتباهه إلى مفاتن أنوثتها .
زاد استمتاع رفيقها بالفرجة عليها فوقف يتأمّلها بعين متفحّصة ولعلّ وقفته هذه قد أذنت لها بالتوقّف عن ممارسة طقوس الإغراء ،فطارت ثمّ حطّت بجانبه فأدنت منقارها من منقاره كأنّما تلثمه لثمة خاطفة ثمّ عادت إلى حيث كانت .
يا للغرابة !! أليس من الطبيعي أن يتودّد إليها هو ؟ يعرض عليها كلّ طاقاته ويسلّط عليها قوّة جاذبيّته ؟
أليس من سنن الطّبيعة السّويّة أن يسعى الذّكر لأنثاه ؟
فجأة قفز العصفور ثمّ حلّق ودار في الفضاء دورات متتالية ثمّ حطّ غير بعيد عنها فاجتاحها فيض من الارتياح .ها قد أثمرت مساعيها أخيرا ،ولم تبؤ بالفشل .
غير أنّ الطّائر أقلع ثانية على ارتفاع ساحق إلى أن اختفى.
خفق قلبها واعتصره الألم وهي ترى العصفورة مهزومة بلا حول ،تجترّ فشلها .لو كان لها على الكون سلطة ....لو كانت تستطيع مخاطبة العصفور،لتلومه على جفائه وقلّة ذوقه .
كيف يتجاهل كل هذا العالم الّذي رسمته له العصفورة ؟ كيف يدير له ظهره غير عابئ بمعاناتها ؟
بدت الأنثى المسمّرة على الماجل أكثر انشغالا وحزنا من الأنثى المنتصبة على حافة الجدار .كيف لا تتألّم لرحيله وقد تفجّرت عيون الحيرة بالسّماء والأرض معا ؟
ألا يؤذي كبرياءها هجره ؟كيف ترضى بالهزيمة لأنوثتها ولا تثور ولا يفتك الحزن بريشاتها ؟
على العكس بدت الأنثى على غاية من الزّهو فتدفّقت ألحانها في عزف شجيّ.
ما أيسر حياة الطيور ! أهكذا كان يجب أن يتفاعل المرء مع ما يدور حوله لو باءت مشاريعه بالفشل ؟ أهكذا يمكن أن يتخلّى المرء عن الأطراف الّتي يعنيه وبقوّة أن يكون معهم ؟ أصاخت للأنثى العاشقة بتركيز عساها تفهم ما يفي بفكّ رموز ما يحصل بينهما .
ما سرّ هذا الطرب والحال يشي بالتوتّر والإحراج ؟
فاضت زغردات العصفورة وجدا ، ورغم أنّها لم تجد مبرّرا لما يحصل إلاّ أنّ الإيقاع أوحى لها بفرح قادم ، فخفّت روحها وتدفّقت دماء أشعلت بين أضلعها حنينا لشيء لا تستطيع تحديده ولكنّه يدفعها للطّيران لتكون بجانب ذلك الكائن الغريب .
وتهادى الجواب تسوقه نسائم الرّبيع اللّيّنة.وقع الطّائر العائد باسطا جناحيه .مثل بين يدي حبيبته وقد تدلّت من منقاره قشّة عكست شعاع شمس الزّوال .
كادت تنطّ من الغبطة بعودة العصفور .أشدّ من الفرح فرح مشوب بمرارة الحرمان وأرحب من الانتظار عودة غائب حيث لا ترقّب.
لولا خوفها ممّا يقطع صلاة العصفورين ويعكّر صفو مناجاتهما لضحكت بصوت مسموع .
ماذا لو..........
لزمت الصّمت وحاولت ألاّ يرمش لها جفن فعادت للتّمثال روحه وتجسّدت ، في نظرته نزعة جنونيّة هي بعض من جنون الفنّان وهيامه .
الآن عرفت، هي لا تذكر الحدث بتفاصيله ولكنّها تستشعر في زاوية من الذّاكرة هذه الحرارة أو هي برودة أو هي مزيج منهما الاثنين يسري مخالطا دماءها فتنتفض دون حراك.
لو يثبتان في مكانهما ولا يغادران قبل أن تشبع من رؤيتهما ،لو تحصل المعجزة فيختاران مكانا في متناول عينيها يبنيان فيه العشّ ،لو يتركان لها أن تبني لهما عشّا قادرا على مواجهة كلّ التّقلّبات .
يكفيها أن تراقب مسيرتهما الوجوديّة ، وتتابع رحلة العشق المحفوفة بالغرابة .
ستختار لهما مكانا لا تطاله العواصف ولا تعبث به أيدي الفضوليين من الأطفال . ستساعد في توفير أسباب الرّاحة في العشّ الّذي يحمل العصفور حجر أساسه .ألا تعدّ الحيوانات محظوظة ألّيس في نواميسها أن يتدخّل الحم والحماة بالشؤون الخاصّة للعائلة ؟
فجأة أقلع الذّكر وكأنّما أشار لها باللّحاق فتبعته .ذاهلة عن كل شيء عداهما ،لا تدري أتحزن لفراقهما أم تفرح لهذا الإحساس الّذي أضاء ظلمة صدرها .
ما زال العصفوران يحلّقان في فضاء الحوش الكبير يتبادلان الأنغام ومازالت خلجاتها مشدودة إلى أجنحتهما وهما يضربان الهواء في رقصة شبه مهووسة ،بين تدان وتباعد ،انطلاق فتراجع ،كانا كمن يهمس أحدهما للآخر بأمر على غاية من الأهمّيّة والسرّيّة .
انتهت الرّقصة بدخول العصفور إلى السقيفة أوّلا ثمّ لحقت به خليلته .
لم تكن لتختار لهما أحسن من المكان الّذي اختاراه .هناك في السّقف تحت أعواد النّخيل الصامدة وبين نسيج الحصير المصنوع من جريد
النّخيل المنزوع سعفه وحبال الحلفاء التي فتلت النّسوة تحت ضوء القمر .
قد أحسنا الاختيار إذ هما لم يغادرا البيت الّذي شهد قصّة تعارفهما ،
الأهمّ النّسبة إليها أنّها ستواكب التّحوّلات أوّلا بأوّل .
هبّت واقفة .باغتها العطش ،فملأت الماء من الماجل وشربت .وجدت في الماء عذوبة لم تعهدها .
نظرت إلى الساعة،بعد قليل تعود عبير من المدرسة.
لم تخف عبير دهشتها حين وجدت المائدة بانتظارها ،ألقت بنفسها بين ذراعيها وهمست :" هل جاء أخي ؟"
هزّت الأمّ رأسها نفيا وطبعت على خدّها قبلة قائلة :"سنزوره يوم الأحد ."
ــ لقد اشتقت إليه كثيرا .
ــ أعلم ،أنا أيضا أشتاق إليه .
ــ ولماذا لا نكون معا ؟
ــ سنكون قريبا معا .
ــ ولكنّك دائما تقولين لي نفس الكلام .
ــ هيّا كلي وأنت صامتة .
ــ هل تعنين أنّ هذا الطعام لنا وحدنا ؟ألن يأتي أحد إلينا؟
وخزها ضميرها فضمّت البنت إليها قائلة :" كنت بانتظارك أنت ،وقد أعددت لك الوجبة الّتي تحبين خصّيصا ،هيّا كلي وكفّي عن الأسئلة ."
أثناء مغادرتهما للسّقيفة حانت من الطفلة التفاتة إلى السّقف فأفلتت يدها من قبضة أمّها وصاحت:"انظري عصفور ،لا ،لا ،عصفوران ."
ــ لا تهتمي بهما .هيّا جدّتك بانتظارنا .
ــ أرجوك أريد أن أراهما،ارفعيني إلى الأعلى قليلا.
ــ لن تستطيعي رؤيتهما حتّى وإن رفعتك فالسّقف أبعد منا الاثنتين.
ــ إيتي بالسّلّم ،لن أؤذيهما ،سأراهما فقط .
ــ ألا تريدين أن يمتلئ البيت عصافير مزقزقة ؟
ــ بلى ..بلى ..
ــ احذري الاقتراب منهما إذن ودعيهما يواصلا بناء عشّهما وإلاّ فإنّهما سيفرّان إلى مكان آخر .
ــ سآتيهما بالقمح والشعير ،ذكّريني يا أمّي .
هزّت الأمّ رأسها علامة الإيجاب وانطلقتا .
لم تمانع الأمّ أن تنثر عبير الحبّ على أرضيّة السقيفة .كما لم تتبرّم بما يتساقط من فضلات الطّيور على البلاط ،لا بل حرصت على تنظيف المكان في غدوّها ورواحها من العمل عن طيب خاطر فقد أصبح ذلك المكان من البيت محفوفا بالشوق والانتظار .
أحيانا كانت تطيل التّحديق متسائلة :" أولا تكون العصفورة قد وضعت أولى بيضاتها ؟"
كلّما تطلّعت ببصرها إلى الأعلى راودها هاجس يزعجها ويسبّب لها وخزا أليما.
ما مرارة الألم الّذي سيعتصر فؤاد تلك المسكينة لو تدحرجت إحدى البيضات في غفلة من العش وسقطت؟
غيّر وجود العصفورين جوّ الكآبة المخيّم على البيت الهرم .لقد وجدت في صخبهما أنسا .ملآ المنزل حيويّة وأضفيا عليه بهجة ما كانا ليعرفاها لولاهما .
ألفتهما عبير وألفاها ،كلّما افتقدا الحبّ اقتحما الغرفة وشرعا يلتقطان ما تناثر من فتات خبز وبذور عبّد الشمس على المائدة دون حذر ولا تحسّب .
كان يحلو لأمّ عبير أن تنثر بعض الحب ّمن وراء ابنتها وتجلس على حافة الماجل تبادلهما حديثا لا يمكن ترجمته أو نقله إلى أيّ لغة أخرى .كانت إذا دخلت المطبخ تبعاها وإذا غادرته سبقاها .هكذا يمرّ اليوم وهما يتقافزان من حولها حتّى ذهب في ظنّها أن يومهما لا يبدأ إلاّ مع عودتها بعد العمل أو عند دخول الطفلة بعد الدّرس .
كم قاومت رغبتها في إفشاء سرّهما لأحد المقرّبين إليها، غير أنّ الخوف من أن يقابل ذلك بالسّخرية أو أن تفقد ثقة الطّائرين بها جعلها
تتراجع ولا تفعل .أتراهما يعيان ما تكنّه لهما من مشاعر جميلة ؟
أتراهما يبادلانها الإحساس ويخصّانها بنفس المكانة ؟
عجبا ! كيف استطاع طائران أن يبدّلا حياتها ويحوّلا شرودها العقيم إلى تأمّلات وجوديّة مزهرة بالأمل ؟
صارت تميّز صوت العصفورة عن العصفور وتقدّر أنّهما في العشّ أو خارجه .
هو الخالق ما أبدع صنعه وما أحكم تقسيمه ! أكان من الممكن أن تحافظ العصفورة على خفّتها ورشاقتها لو ناءت بحمل أجنّتها بين جنبيها ؟ترى أيّ نوع من الحوار تخوض الأمّ مع بيضها وهو كالحجارة لا حرارة تنتقل منه إليها ؟
كم كان غريبا ما يتفاعل بداخلها من مشاعر الغيرة وهي تواكب الإطراق الّذي يشوب الذّكر والبهجة التي تتعاظم في عيون الأنثى !
كم كان ينهشها الحسد وهي تتابع تلازمهما وسعادتهما !
اتراهما لا يختلفان ؟
ألا يثور الزوج في وجه أنثاه لأيّ سبب من الأسباب؟
ألا يختلفان فيكيل لها الشتائم ؟
أولا تملّ حضوره الدّائم في العشّ؟ ألا يجمعه بأبناء جنسه مواعيد ؟ألا ترافق الأنثى صديقاتها لأيّ شأن من الشؤون ؟
قالت عبير محدّثة أمّها :
ــ ليتني أصير عصفورة .
ضحكت صديقتها وقاطعت إجابة أمّها قائلة :
ــ وإذا عجزت عن العودة إلى ما كنت عليه ؟أه.. ماذا تراك تفعلين ؟
ــ سأطير حيث أخي ،حبّذا لو يحصل ذلك .
ضمّت أمال عبير إليها وقالت:
ــ سيأتي هو إليك ،أعدك .
****
عادت أمال ذات زوال وانتظرت أن تسمع الأنشودة التي يستقبلانها بها...لا أجنحة تضرب الهواء ...لا رفرفة عند الباب ..ما الأمر ؟
خيّم سكون محيّر ..شكّت صدرها وخزة فتنبّات بطارئ غير حميد .
أبت أن تستسلم لوسوسةالشيطان .
لم تخبر عبير أحدا بأمر العشّ إنّها واثقة .
همهم الشيطان ساخرا .تظاهرت بأنّها لا تراه .
إلاّ أنّ عناده أطلق عنان الأفكار السّوداويّة لديها .
هل اشتدّ عود الفراخ الصغيرة فهجرتها العائلة بلا رجعة ودون أن تعير للعشرة أدنى اهتمام ؟
أتجرؤ الطيور على فعل ذلك قبل توديعها ؟
قاد الفضول خطاها فخرجت تستطلع الأمر .قابلتها العصفورة على حافة السّطح ،خرساء كانت ذاهلة عن كلّ ما حولها ....
اشدّ جمودا من الجدار الّذي تقف عليه .
نظرت حولها عساها تفهم شيئا ولمّا استعصى ذلك أسرعت إلى العشّ الّذي بدا ساكنا خاليا من أية حركة .
لوت شفتيها حائرة وانتظرت أن تتضح الأمور مع مرور الوقت.
مرّ يومان والحال على ما هو عليه،لا جديد يسدّ فوهة الدّهشة ،تسوق نسائم الرّبيع الحبّ هنا وهناك وعبير لا تكفّ عن رش ّ المزيد .لا مناقير تلتقط القمح المتناثر ،لا حناجر تزغرد لقدوم عبير المساء .لا فراخ تملأ السّقف صخبا، ولا فضلات على الأرضيّة .
باكرا شقّ صوت العصفورة صدر الفضاء الغافل .كانت في نفس المكان الّذي لا تجد القدرة على مغادرته .زادت حيرتها حين رأت
أحد الفراخ متعثّرا تحت الجدار .
استغربت ظهوره المفاجئ ،بدا أكبر حجما من أمّه لكنّه لم يكن يستطيع الطّيران فجناحاه قصيران لم يكتمل بعد نموّ ريشهما .
****
هيّا انزلي أيّتها العصفورة ،هذا فلذة كبدك !تعالي وارفعيه إليك ....أيّ حريق اندلع في وكرك ؟
أهي الخيانة الزوجيّة ؟هل غدر بك أب أولادك ؟هل استمالته أخرى فباع الأ يّام التي جمعتكما وبدأ حياة جديدة مع أخرى ؟
هل ضرب عرض الحائط بالعشرة والماء والملح ؟
فليكن ...كان لابدّ أن تكملي رسالتك وتحضني فراخك حتّى يشتدّ عودها ...
أيّ حبّ قاتل هذا الّذي عصف بك فجعلك تهجرين عشّك وتهملين أبناءك ؟ أيّ ذنب لهذه الفراخ لتتشرّد باكرا وتدفع ثمن خطإ لم تقترفه يداها ؟
أفي الأمر سرّ خطير لا تريدين البوح به ؟أيخفى عليّ ما ألمّ بعائلتك وأنا أعايشك نبضا بنبض ونفسا بنفس ؟
انحنت أمال ،التقطت الطّويّر الذي انتصب على راحتها في استسلام وكأنّما قرأ نواياها ،بسطت يدها ورفعته إلى أمّه التي أخذت تنظر إليهما وقد زاد صراخها حتّى صار أشبه بالنواح .
تعالي ! تعالي، أرجوك حتّى لا تكون وصمة عار أبديّة ..لا تتركيه ..خذيه بين جناحيك ،من له غيرك ؟ لما لا تنزلين إليه ؟ هو لا يستطيع الطّيران ..ما أقسى قلبك ، لماذا تنظرين إليّ هكذا ؟أنت تعلمين أنّني أريد بك وبه خيرا ،لن أؤذيه والله.
أدرك أنّك لا تستطيعين نقله من مكان إلى آخر شأن القطّة ولكنّني سأساعدك .سأعيده بنفسي إلى العشّ ،هيّا ، اقتربي ولا تسيئي الظّنّ بي .سأعيد للعشّ سعادته واستقراره ،ثقي بي .
قلبت أمال المكنسة ووضعت الطّويّر على خصلاتها ثمّ رفعته شيئا فشيئا ...تعالت بالفضاء صيحات الأمّ وكأنّما أصابها مسّ ،فزعت إلى السّقيفة دارت دورات متتالية ثمّ سقطت أرضا ..
قفز الفرخ مبتعدا عن العشّ ..حثّ القفزات نحو أمّه .
راود المرأة أمل في أن يجتمع شتاتهما غير أنّ العصفورة تحاملت على نفسها إلى مرصدها الّذي تراقب منه الأحداث .
كرّرت أمال محاولة إعادة الصغير إلى العشّ ممنّية النّفس بأن تحرق العصفورة أمومتها فتعود إلى وكرها .باءت كلّ محاولاتها بالفشل ،
كلّما أدنت المكنسة من العشّ زاد الوجع والارتباك .
استعارت أمال سلّم الجيران ،لم تترك ابنتها ترتقيه .
أمسكت بالطّويّر في محاولة أخيرة ،والأمّ من حولها تولول وتستغيث .
ارتقت السلّم درجة درجة وحين صار العشّ في متناولها مدّت يدها تدني الصّغير غصبا وإذا بالثّعبان المتربّص يخطف منها صرختها وإذا الطّويّر في كفّ عبير، والأمّ أرضا تتلوّى من الألم .
دلفت وأغلقت الباب ،دفعته بقدمها دون التفات ...همّت بالاستدارة لتحكم شدّ المزلاج ولكنّها عدلت عن ذلك فلربّما يعنّ لأحدهم أن يمرّ بها فيهدم جدار الصّمت ..بتثاقل شديد دفعت باب الغرفة الوحيدة في الحوش الممتدّ ،أجالت بصرها .غشيتها رائحة بخور خالطها النّدى فصارت أشبه ما تكون بالعفن ....فتحت الشبّاك على مصراعيه ...تعثّرت بمائدة تعلوها بقايا طعام ...كادت تسقط فانفلت لسانها يسبّ في غير وضوح ...ألقت بالحقيبة وتهالكت على أقرب أريكة .
حين يلتقي رأسها المنهك بالأرض تضع عنها بعض همومها .
أغمضت وأسلمت نفسها لبرودة الفراش .حاولت الإغفاء غير أنّ الحركة الشبيهة بدوران الرّحى تسحب خيوط أعصابها خيطا خيطا فتستجيب أطرافها وعيناها وكل أعضائها لهذا الشدّ العنيف فركت جبينها في محاولة لطرد الصّور .
ـــ يا إلهي متى ينقطع هذا الرّنين ؟
أولا يسمعه أحد سواها ؟كيف لا يتبرّم به الآخرون ؟
ألحدّة سمعها يلازمها ؟علمت أن لا حدّ لسيل الأسئلة فهبّت واقفة .نفضت كلّ الأفكار وانصرفت لترتيب الغرفة .كانت إذا دخلت المطبخ تنسى ما يربطها بالغرفة والعكس .اكتفت بما أعاد للمكان بعض نظامه .كان الوقت يدهسها أثناء مروره .كلّ همّها أن تنتزع من عذاب جدل عقيم روحها ....لماذا ....؟ كيف ...؟ هل...؟ لم يكن في الحوش كلّه غير الماجل تحسّ ببعض السّكينة وهي تجلس على حافته .كلّ العتبات تلتقي بالبلاط الشّاحب وقد تقاربت الحفر على مساحته .
أجالت بصرها، لا حبل يشدها إلى الجدار ،لا مرآة تهزّها إلى طفولتها لا ذكرى تدغدغ وجدانها فتنفرج أساريرها .هذا المنزل الصّحراء لم يشهد تفتّحها ولا بقايا لطيب أمّها فيه .
تحسّست جبينها ،غامت عيناها وكأنّها للتّوّ تفيق من إغماءة أصابتها إثر اصطدامها بحافة الجدار الّذي قبع يتأمّلها بعين واحدة والعين الثانية فقئت وهو يطبع على جبينها ذلك الشرخ الّذي امتدّ عميقا حسب محور عمودي في عظام الجبين .ورغم أنها لم تنزف يومها إلاّ أنّها تهاوت ولفّ العفريت ذيله حول رقبتها ،لم تعد تذكر دافع الفرار ولا من قطع خلوتها مع صديقتها فتحيّة الّتي أشبعتها صفعا، وأغرقتها ماء باردا في محاولة لإعادة الحياة إليها. أكان الجدار يدري أنّ الفرصة ستواتيه ليشمت بها ثانية ؟ يشهد ألمها وانكسارها ؟ لم تعد فتحيّة صديقتها الآن .هي لم تعد صديقة أحد ،لا وقت لذلك .لا بل لا شهيّة لذلك .
لم تقو على ابتلاع ريق أفاضته الذّكرى فجمعت ريقها ووقفت لتتخلّص منه في أقرب حوض إليها .أيّة أحواض هذه التي تتحدّث عنها ؟
كان عليها أن تخرج أمام السّقيفة لتدفن بصاقها مباشرة في التّربة .
انتقل صاحب البيت إلى فيلاّ عصريّة ومخافة أن تسكن العفاريت بيته هذا تكرّم عليها بالمفتاح ،مفتاح يزن أكثر من رطل .وذلك بعد أن شرحت له مشكلتها .أشهر مرّت وهي بانتظار أن يجرى البحث الاجتماعي الذي يفترض أن يعيد إليها حضانة ابنها بحكم استقلالها بالسّكن عن أهلها.
يفوت الطّائر أحيانا أن يختار المكان المناسب لبناء عشّه وحين يعي حقيقة الأمر ،يكون قد أدرك استحالة نقل فلذات كبده إلى مأمن .
فإمّا أن يطأ على قلبه وينسى فراخه أو يستسلم عن وعي لشرك تكون فيه نهاية الجميع .
لو يجيء المشرف الاجتماعي بسرعة ، لو يدرك عذابها ويتعاطف معها ،من قلب الجدار اندفع تيار هواء لفح وجهها ،فهمّت بالوقوف ،ثمّ عدلت عن ذلك وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ما فتئت تتّسع ومع اقتراب الخيال الذي انتصب فجأة أمامها فتحت ذراعيها لتحضن الطّفل الّذي وقف يرنو إليها وملأ أنفها شذى أنفاسه .
ــ عزيزي !هيّا إليّ ،تعال يا بنيّ ،يا غالي ...يا روحي ...اشتقت إلى أمّك ؟ أنا أيضا مشتاقة، مشتاقة حدّ العذاب .
أرادت إبعاد وجهه عن صدرها لتتأمّله ،تشمّ رقبته وتضع من جديد خدّها على خدّه الصّغير.
لاشيء سوى الفراغ ...
بكت ،علا نشيجها ،رفعت عينيها إلى السّماء "يا إلهي !فرّج كربي ."
استعذبت أنينها فاستسلمت لذبذبات الأمواج الصّوتيّة تتكسّر على ميناء أذنيها .ذهلت عن دموعها وتوقّف السّيل .
هناك غير بعيد عن ألمها وقفت غير آبهة لوجودها ولا نشيجها...
كانت تطرح خطاها على زجاج الجدار كملكة .تدلّت ريشات جناحيها تنثر حبّات الوله في حركات رشيقة .ترسل صفيرا خجولا تقطعه التفاتات إلى إحدى الزوايا حيث وقف العصفور متكوّر الصّدر ،مرتفع الرّأس ،يقفز من حين لآخر قفزة متنطّعة ويدور حول نفسه في رقصة استفزازيّة وكأنّه لا يعبأ بنداءات أنوثتها .
أخذت تنقل بصرها بينهما وقد خبا صوت نشيجها وجفّت دموع عينيها .
عدّلت جلستها فأحسّت العصفورة بحركتها فجفلت وقفزت متراجعة .
كاد قلبها يتوقّف مخافة أن تغادر هذه الأنثى مسرحها وتغيب عنها بقيّة الأحداث .
قطعت أنفاسها وجمدت في مكانها كتمثال مغروس على طرف الماجل .
عادت للعصفورة طمأنينتها فانحنت ثمّ ما لبثت أن جثت حتّى بدت وكأنّها في حالة سجود .طالت سجدتها والعصفور منصرف عنها إلى تنقية ريشاته وتسويتها حينا وشحذ منقاره على شفا حجارة ناتئة في الجدار حينا آخر .
أدركت المسكينة أنّها مدعوّة لجهد إضافي فلم تفقد صبرها ولا فتر عزمها عن التودّد إليه بشتّى الطّرق .
تفنّنت في إبداء خضوعها وضاعفت مسعاها في استمالته ولفت انتباهه إلى مفاتن أنوثتها .
زاد استمتاع رفيقها بالفرجة عليها فوقف يتأمّلها بعين متفحّصة ولعلّ وقفته هذه قد أذنت لها بالتوقّف عن ممارسة طقوس الإغراء ،فطارت ثمّ حطّت بجانبه فأدنت منقارها من منقاره كأنّما تلثمه لثمة خاطفة ثمّ عادت إلى حيث كانت .
يا للغرابة !! أليس من الطبيعي أن يتودّد إليها هو ؟ يعرض عليها كلّ طاقاته ويسلّط عليها قوّة جاذبيّته ؟
أليس من سنن الطّبيعة السّويّة أن يسعى الذّكر لأنثاه ؟
فجأة قفز العصفور ثمّ حلّق ودار في الفضاء دورات متتالية ثمّ حطّ غير بعيد عنها فاجتاحها فيض من الارتياح .ها قد أثمرت مساعيها أخيرا ،ولم تبؤ بالفشل .
غير أنّ الطّائر أقلع ثانية على ارتفاع ساحق إلى أن اختفى.
خفق قلبها واعتصره الألم وهي ترى العصفورة مهزومة بلا حول ،تجترّ فشلها .لو كان لها على الكون سلطة ....لو كانت تستطيع مخاطبة العصفور،لتلومه على جفائه وقلّة ذوقه .
كيف يتجاهل كل هذا العالم الّذي رسمته له العصفورة ؟ كيف يدير له ظهره غير عابئ بمعاناتها ؟
بدت الأنثى المسمّرة على الماجل أكثر انشغالا وحزنا من الأنثى المنتصبة على حافة الجدار .كيف لا تتألّم لرحيله وقد تفجّرت عيون الحيرة بالسّماء والأرض معا ؟
ألا يؤذي كبرياءها هجره ؟كيف ترضى بالهزيمة لأنوثتها ولا تثور ولا يفتك الحزن بريشاتها ؟
على العكس بدت الأنثى على غاية من الزّهو فتدفّقت ألحانها في عزف شجيّ.
ما أيسر حياة الطيور ! أهكذا كان يجب أن يتفاعل المرء مع ما يدور حوله لو باءت مشاريعه بالفشل ؟ أهكذا يمكن أن يتخلّى المرء عن الأطراف الّتي يعنيه وبقوّة أن يكون معهم ؟ أصاخت للأنثى العاشقة بتركيز عساها تفهم ما يفي بفكّ رموز ما يحصل بينهما .
ما سرّ هذا الطرب والحال يشي بالتوتّر والإحراج ؟
فاضت زغردات العصفورة وجدا ، ورغم أنّها لم تجد مبرّرا لما يحصل إلاّ أنّ الإيقاع أوحى لها بفرح قادم ، فخفّت روحها وتدفّقت دماء أشعلت بين أضلعها حنينا لشيء لا تستطيع تحديده ولكنّه يدفعها للطّيران لتكون بجانب ذلك الكائن الغريب .
وتهادى الجواب تسوقه نسائم الرّبيع اللّيّنة.وقع الطّائر العائد باسطا جناحيه .مثل بين يدي حبيبته وقد تدلّت من منقاره قشّة عكست شعاع شمس الزّوال .
كادت تنطّ من الغبطة بعودة العصفور .أشدّ من الفرح فرح مشوب بمرارة الحرمان وأرحب من الانتظار عودة غائب حيث لا ترقّب.
لولا خوفها ممّا يقطع صلاة العصفورين ويعكّر صفو مناجاتهما لضحكت بصوت مسموع .
ماذا لو..........
لزمت الصّمت وحاولت ألاّ يرمش لها جفن فعادت للتّمثال روحه وتجسّدت ، في نظرته نزعة جنونيّة هي بعض من جنون الفنّان وهيامه .
الآن عرفت، هي لا تذكر الحدث بتفاصيله ولكنّها تستشعر في زاوية من الذّاكرة هذه الحرارة أو هي برودة أو هي مزيج منهما الاثنين يسري مخالطا دماءها فتنتفض دون حراك.
لو يثبتان في مكانهما ولا يغادران قبل أن تشبع من رؤيتهما ،لو تحصل المعجزة فيختاران مكانا في متناول عينيها يبنيان فيه العشّ ،لو يتركان لها أن تبني لهما عشّا قادرا على مواجهة كلّ التّقلّبات .
يكفيها أن تراقب مسيرتهما الوجوديّة ، وتتابع رحلة العشق المحفوفة بالغرابة .
ستختار لهما مكانا لا تطاله العواصف ولا تعبث به أيدي الفضوليين من الأطفال . ستساعد في توفير أسباب الرّاحة في العشّ الّذي يحمل العصفور حجر أساسه .ألا تعدّ الحيوانات محظوظة ألّيس في نواميسها أن يتدخّل الحم والحماة بالشؤون الخاصّة للعائلة ؟
فجأة أقلع الذّكر وكأنّما أشار لها باللّحاق فتبعته .ذاهلة عن كل شيء عداهما ،لا تدري أتحزن لفراقهما أم تفرح لهذا الإحساس الّذي أضاء ظلمة صدرها .
ما زال العصفوران يحلّقان في فضاء الحوش الكبير يتبادلان الأنغام ومازالت خلجاتها مشدودة إلى أجنحتهما وهما يضربان الهواء في رقصة شبه مهووسة ،بين تدان وتباعد ،انطلاق فتراجع ،كانا كمن يهمس أحدهما للآخر بأمر على غاية من الأهمّيّة والسرّيّة .
انتهت الرّقصة بدخول العصفور إلى السقيفة أوّلا ثمّ لحقت به خليلته .
لم تكن لتختار لهما أحسن من المكان الّذي اختاراه .هناك في السّقف تحت أعواد النّخيل الصامدة وبين نسيج الحصير المصنوع من جريد
النّخيل المنزوع سعفه وحبال الحلفاء التي فتلت النّسوة تحت ضوء القمر .
قد أحسنا الاختيار إذ هما لم يغادرا البيت الّذي شهد قصّة تعارفهما ،
الأهمّ النّسبة إليها أنّها ستواكب التّحوّلات أوّلا بأوّل .
هبّت واقفة .باغتها العطش ،فملأت الماء من الماجل وشربت .وجدت في الماء عذوبة لم تعهدها .
نظرت إلى الساعة،بعد قليل تعود عبير من المدرسة.
لم تخف عبير دهشتها حين وجدت المائدة بانتظارها ،ألقت بنفسها بين ذراعيها وهمست :" هل جاء أخي ؟"
هزّت الأمّ رأسها نفيا وطبعت على خدّها قبلة قائلة :"سنزوره يوم الأحد ."
ــ لقد اشتقت إليه كثيرا .
ــ أعلم ،أنا أيضا أشتاق إليه .
ــ ولماذا لا نكون معا ؟
ــ سنكون قريبا معا .
ــ ولكنّك دائما تقولين لي نفس الكلام .
ــ هيّا كلي وأنت صامتة .
ــ هل تعنين أنّ هذا الطعام لنا وحدنا ؟ألن يأتي أحد إلينا؟
وخزها ضميرها فضمّت البنت إليها قائلة :" كنت بانتظارك أنت ،وقد أعددت لك الوجبة الّتي تحبين خصّيصا ،هيّا كلي وكفّي عن الأسئلة ."
أثناء مغادرتهما للسّقيفة حانت من الطفلة التفاتة إلى السّقف فأفلتت يدها من قبضة أمّها وصاحت:"انظري عصفور ،لا ،لا ،عصفوران ."
ــ لا تهتمي بهما .هيّا جدّتك بانتظارنا .
ــ أرجوك أريد أن أراهما،ارفعيني إلى الأعلى قليلا.
ــ لن تستطيعي رؤيتهما حتّى وإن رفعتك فالسّقف أبعد منا الاثنتين.
ــ إيتي بالسّلّم ،لن أؤذيهما ،سأراهما فقط .
ــ ألا تريدين أن يمتلئ البيت عصافير مزقزقة ؟
ــ بلى ..بلى ..
ــ احذري الاقتراب منهما إذن ودعيهما يواصلا بناء عشّهما وإلاّ فإنّهما سيفرّان إلى مكان آخر .
ــ سآتيهما بالقمح والشعير ،ذكّريني يا أمّي .
هزّت الأمّ رأسها علامة الإيجاب وانطلقتا .
لم تمانع الأمّ أن تنثر عبير الحبّ على أرضيّة السقيفة .كما لم تتبرّم بما يتساقط من فضلات الطّيور على البلاط ،لا بل حرصت على تنظيف المكان في غدوّها ورواحها من العمل عن طيب خاطر فقد أصبح ذلك المكان من البيت محفوفا بالشوق والانتظار .
أحيانا كانت تطيل التّحديق متسائلة :" أولا تكون العصفورة قد وضعت أولى بيضاتها ؟"
كلّما تطلّعت ببصرها إلى الأعلى راودها هاجس يزعجها ويسبّب لها وخزا أليما.
ما مرارة الألم الّذي سيعتصر فؤاد تلك المسكينة لو تدحرجت إحدى البيضات في غفلة من العش وسقطت؟
غيّر وجود العصفورين جوّ الكآبة المخيّم على البيت الهرم .لقد وجدت في صخبهما أنسا .ملآ المنزل حيويّة وأضفيا عليه بهجة ما كانا ليعرفاها لولاهما .
ألفتهما عبير وألفاها ،كلّما افتقدا الحبّ اقتحما الغرفة وشرعا يلتقطان ما تناثر من فتات خبز وبذور عبّد الشمس على المائدة دون حذر ولا تحسّب .
كان يحلو لأمّ عبير أن تنثر بعض الحب ّمن وراء ابنتها وتجلس على حافة الماجل تبادلهما حديثا لا يمكن ترجمته أو نقله إلى أيّ لغة أخرى .كانت إذا دخلت المطبخ تبعاها وإذا غادرته سبقاها .هكذا يمرّ اليوم وهما يتقافزان من حولها حتّى ذهب في ظنّها أن يومهما لا يبدأ إلاّ مع عودتها بعد العمل أو عند دخول الطفلة بعد الدّرس .
كم قاومت رغبتها في إفشاء سرّهما لأحد المقرّبين إليها، غير أنّ الخوف من أن يقابل ذلك بالسّخرية أو أن تفقد ثقة الطّائرين بها جعلها
تتراجع ولا تفعل .أتراهما يعيان ما تكنّه لهما من مشاعر جميلة ؟
أتراهما يبادلانها الإحساس ويخصّانها بنفس المكانة ؟
عجبا ! كيف استطاع طائران أن يبدّلا حياتها ويحوّلا شرودها العقيم إلى تأمّلات وجوديّة مزهرة بالأمل ؟
صارت تميّز صوت العصفورة عن العصفور وتقدّر أنّهما في العشّ أو خارجه .
هو الخالق ما أبدع صنعه وما أحكم تقسيمه ! أكان من الممكن أن تحافظ العصفورة على خفّتها ورشاقتها لو ناءت بحمل أجنّتها بين جنبيها ؟ترى أيّ نوع من الحوار تخوض الأمّ مع بيضها وهو كالحجارة لا حرارة تنتقل منه إليها ؟
كم كان غريبا ما يتفاعل بداخلها من مشاعر الغيرة وهي تواكب الإطراق الّذي يشوب الذّكر والبهجة التي تتعاظم في عيون الأنثى !
كم كان ينهشها الحسد وهي تتابع تلازمهما وسعادتهما !
اتراهما لا يختلفان ؟
ألا يثور الزوج في وجه أنثاه لأيّ سبب من الأسباب؟
ألا يختلفان فيكيل لها الشتائم ؟
أولا تملّ حضوره الدّائم في العشّ؟ ألا يجمعه بأبناء جنسه مواعيد ؟ألا ترافق الأنثى صديقاتها لأيّ شأن من الشؤون ؟
قالت عبير محدّثة أمّها :
ــ ليتني أصير عصفورة .
ضحكت صديقتها وقاطعت إجابة أمّها قائلة :
ــ وإذا عجزت عن العودة إلى ما كنت عليه ؟أه.. ماذا تراك تفعلين ؟
ــ سأطير حيث أخي ،حبّذا لو يحصل ذلك .
ضمّت أمال عبير إليها وقالت:
ــ سيأتي هو إليك ،أعدك .
****
عادت أمال ذات زوال وانتظرت أن تسمع الأنشودة التي يستقبلانها بها...لا أجنحة تضرب الهواء ...لا رفرفة عند الباب ..ما الأمر ؟
خيّم سكون محيّر ..شكّت صدرها وخزة فتنبّات بطارئ غير حميد .
أبت أن تستسلم لوسوسةالشيطان .
لم تخبر عبير أحدا بأمر العشّ إنّها واثقة .
همهم الشيطان ساخرا .تظاهرت بأنّها لا تراه .
إلاّ أنّ عناده أطلق عنان الأفكار السّوداويّة لديها .
هل اشتدّ عود الفراخ الصغيرة فهجرتها العائلة بلا رجعة ودون أن تعير للعشرة أدنى اهتمام ؟
أتجرؤ الطيور على فعل ذلك قبل توديعها ؟
قاد الفضول خطاها فخرجت تستطلع الأمر .قابلتها العصفورة على حافة السّطح ،خرساء كانت ذاهلة عن كلّ ما حولها ....
اشدّ جمودا من الجدار الّذي تقف عليه .
نظرت حولها عساها تفهم شيئا ولمّا استعصى ذلك أسرعت إلى العشّ الّذي بدا ساكنا خاليا من أية حركة .
لوت شفتيها حائرة وانتظرت أن تتضح الأمور مع مرور الوقت.
مرّ يومان والحال على ما هو عليه،لا جديد يسدّ فوهة الدّهشة ،تسوق نسائم الرّبيع الحبّ هنا وهناك وعبير لا تكفّ عن رش ّ المزيد .لا مناقير تلتقط القمح المتناثر ،لا حناجر تزغرد لقدوم عبير المساء .لا فراخ تملأ السّقف صخبا، ولا فضلات على الأرضيّة .
باكرا شقّ صوت العصفورة صدر الفضاء الغافل .كانت في نفس المكان الّذي لا تجد القدرة على مغادرته .زادت حيرتها حين رأت
أحد الفراخ متعثّرا تحت الجدار .
استغربت ظهوره المفاجئ ،بدا أكبر حجما من أمّه لكنّه لم يكن يستطيع الطّيران فجناحاه قصيران لم يكتمل بعد نموّ ريشهما .
****
هيّا انزلي أيّتها العصفورة ،هذا فلذة كبدك !تعالي وارفعيه إليك ....أيّ حريق اندلع في وكرك ؟
أهي الخيانة الزوجيّة ؟هل غدر بك أب أولادك ؟هل استمالته أخرى فباع الأ يّام التي جمعتكما وبدأ حياة جديدة مع أخرى ؟
هل ضرب عرض الحائط بالعشرة والماء والملح ؟
فليكن ...كان لابدّ أن تكملي رسالتك وتحضني فراخك حتّى يشتدّ عودها ...
أيّ حبّ قاتل هذا الّذي عصف بك فجعلك تهجرين عشّك وتهملين أبناءك ؟ أيّ ذنب لهذه الفراخ لتتشرّد باكرا وتدفع ثمن خطإ لم تقترفه يداها ؟
أفي الأمر سرّ خطير لا تريدين البوح به ؟أيخفى عليّ ما ألمّ بعائلتك وأنا أعايشك نبضا بنبض ونفسا بنفس ؟
انحنت أمال ،التقطت الطّويّر الذي انتصب على راحتها في استسلام وكأنّما قرأ نواياها ،بسطت يدها ورفعته إلى أمّه التي أخذت تنظر إليهما وقد زاد صراخها حتّى صار أشبه بالنواح .
تعالي ! تعالي، أرجوك حتّى لا تكون وصمة عار أبديّة ..لا تتركيه ..خذيه بين جناحيك ،من له غيرك ؟ لما لا تنزلين إليه ؟ هو لا يستطيع الطّيران ..ما أقسى قلبك ، لماذا تنظرين إليّ هكذا ؟أنت تعلمين أنّني أريد بك وبه خيرا ،لن أؤذيه والله.
أدرك أنّك لا تستطيعين نقله من مكان إلى آخر شأن القطّة ولكنّني سأساعدك .سأعيده بنفسي إلى العشّ ،هيّا ، اقتربي ولا تسيئي الظّنّ بي .سأعيد للعشّ سعادته واستقراره ،ثقي بي .
قلبت أمال المكنسة ووضعت الطّويّر على خصلاتها ثمّ رفعته شيئا فشيئا ...تعالت بالفضاء صيحات الأمّ وكأنّما أصابها مسّ ،فزعت إلى السّقيفة دارت دورات متتالية ثمّ سقطت أرضا ..
قفز الفرخ مبتعدا عن العشّ ..حثّ القفزات نحو أمّه .
راود المرأة أمل في أن يجتمع شتاتهما غير أنّ العصفورة تحاملت على نفسها إلى مرصدها الّذي تراقب منه الأحداث .
كرّرت أمال محاولة إعادة الصغير إلى العشّ ممنّية النّفس بأن تحرق العصفورة أمومتها فتعود إلى وكرها .باءت كلّ محاولاتها بالفشل ،
كلّما أدنت المكنسة من العشّ زاد الوجع والارتباك .
استعارت أمال سلّم الجيران ،لم تترك ابنتها ترتقيه .
أمسكت بالطّويّر في محاولة أخيرة ،والأمّ من حولها تولول وتستغيث .
ارتقت السلّم درجة درجة وحين صار العشّ في متناولها مدّت يدها تدني الصّغير غصبا وإذا بالثّعبان المتربّص يخطف منها صرختها وإذا الطّويّر في كفّ عبير، والأمّ أرضا تتلوّى من الألم .
تعليق