علا صراخنا، لكن.. هل سينقذنا الصراخ، والليل قد خيم بدجاه السرمد وسط العدم؟!
قبضة الباب الخشبي المتهالك تهتز بعنف، والباب يعود للخلف بقوة..
ويا لحسن حظنا اننا نسكن وسط كومة من أشجار النخيل الطويلة التي تتلاعب بسعفها ريح الحَرْجَف، في منزل بناه والدنا من القصب المتين والسعف اليبوس.
في كل ليلة يطوقنا الغلس والزمهرير، وحين يخيم الليل فوق منزلنا تسعى أضواء القمر الجليدية وسقيط الأجواء الضارية من شقوق القصب فتلسع أجسادنا، أو ترمي لنا بنزر من ضوء القمر الخافت.
•••
ارتدى والدي ملابسه للعمل، ومن ثم قبلنا وخرج، لكنه هذه الليلة قبل أن يغادرنا ألقى نظرة طويلة على أمي ومن ثم غادر! اعتدت أن اتسلل خلف والدي لأراه يغادر، وقف والدي وشمخ برأسه نحو سقف الفضاء وقال: هل هذا فضاء خاوٍ.. وبلا نجوم؟
ياللعجب! غدرت النجوم بالسماء وهجرتها، بعد عشرة عمر طويلة استمرت من الأزل.. حتى النجوم لا تتنازل عن الأمل، ذهبت تبحث لها عن مجدٍ آخر أو كون آخر يضج بالنفوس الحية.
ثم غادر بعيداً عن منزلنا، وسرعان ما طرقت اسماعنا دمدمة الريح القوية وأنين الليل السقيم. قالت والدتي متعجبة: يا لغرابة هذه الليلة! كل ما سحبت رداء عتمتها كل ما زادت حدة ظلمتها!
•••
ألقت لمحة علينا، فحديثها صيرنا نأوي ببعضنا البعض، تزاحمنا كالفقمات في ركن الدار، وانصبت على قلوبنا موجة وجيب، وراحت قلوبنا الرثيثة تنشد لنا "النسيم الدافئ". ربما ستشعرنا عند سماع طنطنتها بالأمان أو ربما ستشحذ النعاس إلى جفوننا الذابلة.
وإذ بصفير الرياح يزأر من حولنا.. تجلدت خلايا الدفء في اجسادنا، فتسارعنا إلى فانوسنا اليتيم، وتزاحمنا عليه.. وكل واحدة منا تتصارع مع الثانية من أجل ذرة دفء تدثر خنصرها الهزيل، وفجأة.. بدأ فانوسنا يحتضر.. فتجمدت نظراتنا وتصدعت قلوبنا وتهاوت مشاعرنا.. حططنا ايدينا الهزيلة فوق وجناتنا وبقينا ننتظر المصباح ليموت.
ومات مصباحنا.. فتركنا ميتمات منكسرات، نعاني مرارة يتم النور والدفء.
•••
العزاء يشتد، وتوالينا في الرثاء، قالت شقيقتي البكر: نحن لا نسكن هذا الكون وحدنا، ثمة أرواح تائهة سمعت أنها تحيط بنا..
قاطعتها شقيقتي الوسطى قائلة: كان المصباح حارسنا الضرغام، يمنع عنا تلك الأشياء من القدوم إلينا.
فصاحت شقيقتي الصغرى: وما نحن فاعلات؟ فقلت: مات حارسنا، فلننتظر المجهول.. كيف يأتينا.
رفعت والدتي يديها إلى ثغرها وقبضت عليه، وكأنها ستهشمه، حبست نحيبها لئلا يطرق آذاننا.
- الجن ليسوا موجودين يا عمتي، اين هم؟ ألم تدّعي أنك تحدثينهم كل عشية؟ ها، دعيني أراهم.
- هل أنت تلحي على هذا.. يا قلب عمتك ويا مهجتها؟
- نعم أصر.
- فقط اصبري حتى نصل إلى "الدالية".
سارت والدتي تعانق أديم التراب برجليها العاريتين. وترامت اطراف خمارها فوق التراب ليشارك رجليها رحلة السمر.
توقفت عمة والدتي:
- هذه هي "الدالية"..
بصرت والدتي إلى الدالية.. أرض فقيرة التربة، نخيلها هرمت، وعين مياها ضحلت.
صاحت عمة والدتي بأعلى صوتها:
بنت شمسة..
بنت شمسة..
يا بنت شمسة..
وها هو الصوت يجيب مناديه، ولم تتمكن والدتي ان تميز من أين قرع سمعها. هل هو من أسفل قدمها؟
أو وراء النخيل الهرمة؟ من تحت عين الماء الضحل على يمينها؟
لا ولن تكذب ما سمعت.. فقد اجاب عمتها بلا شك وبلا ريب، ارتعدت فرائص والدتي، اطلقت للريح ساقيها وغادرت (الدالية) بكل ما أوتيت من قوة..
ما زال صدى ذاك الصوت يلهب سمعها:
بنت شمسة..
بنت شمسة..
يا بنت شمسة..
•••
هذه الحكاية التي تخنق امي، وقعت لها حينما كانت طفلة، أراها في عينيها كل ما اشتدت حلكة الظلام.
أطرقت أسماعنا "خشخشة" الحشائش الجافة التي تحيط منزلنا، حفيف قادم الينا لا شك.. فحدة وقعات خطواته تزداد كل ما دنا من منزلنا، ولم تكن أمي قادرة على حمل جسدها على النهوض من فراش المرض حتى تحتضننا في حجرها، فطلبت منا القدوم إليها.
واهتزت قبضة الباب الخشبي بعنف وبدأ الباب يعود للخلف بقوة. وعلى صراخنا.. لكن هل سينقذنا الصراخ والليل قد خيم بدجاه السرمد وسط العدم؟!
حدة صراخنا، طغت على أنين الليل. وانطلق لسان أمي يرتل آيات من القرآن:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ
لَا يُبْصِرُون
باب منزلنا فتح من الخارج بقوة، وارتفعت نبراتنا بحدة. قالت امي صارخة: اماه!
ترامينا بأجسادنا الهزيلة التعبة فوق المهاد.. تنهدت والدتي بشدة وشدت لجام قلبها. رفعنا اجفاننا المرتعشة نسترق النظر، فإذا بجدتي واقفة تحمل بين يديها زيتًا للفانوس وطعامًا للعشاء.
•••
قهقهنا بقوة، ودرنا حول والدتي نحتضنها، وأخذنا في مزاحمة بعضنا البعض، وكل واحدة منا تسخر من الثانية.. وبينما كان أفواهنا منفرجة نظرنا الى جدتي، فلم تكن تحت الباب، لم تكن في منزلنا، أو ربما لم تكن هنا اصلاً.
حواء الأزداني
قبضة الباب الخشبي المتهالك تهتز بعنف، والباب يعود للخلف بقوة..
ويا لحسن حظنا اننا نسكن وسط كومة من أشجار النخيل الطويلة التي تتلاعب بسعفها ريح الحَرْجَف، في منزل بناه والدنا من القصب المتين والسعف اليبوس.
في كل ليلة يطوقنا الغلس والزمهرير، وحين يخيم الليل فوق منزلنا تسعى أضواء القمر الجليدية وسقيط الأجواء الضارية من شقوق القصب فتلسع أجسادنا، أو ترمي لنا بنزر من ضوء القمر الخافت.
•••
ارتدى والدي ملابسه للعمل، ومن ثم قبلنا وخرج، لكنه هذه الليلة قبل أن يغادرنا ألقى نظرة طويلة على أمي ومن ثم غادر! اعتدت أن اتسلل خلف والدي لأراه يغادر، وقف والدي وشمخ برأسه نحو سقف الفضاء وقال: هل هذا فضاء خاوٍ.. وبلا نجوم؟
ياللعجب! غدرت النجوم بالسماء وهجرتها، بعد عشرة عمر طويلة استمرت من الأزل.. حتى النجوم لا تتنازل عن الأمل، ذهبت تبحث لها عن مجدٍ آخر أو كون آخر يضج بالنفوس الحية.
ثم غادر بعيداً عن منزلنا، وسرعان ما طرقت اسماعنا دمدمة الريح القوية وأنين الليل السقيم. قالت والدتي متعجبة: يا لغرابة هذه الليلة! كل ما سحبت رداء عتمتها كل ما زادت حدة ظلمتها!
•••
ألقت لمحة علينا، فحديثها صيرنا نأوي ببعضنا البعض، تزاحمنا كالفقمات في ركن الدار، وانصبت على قلوبنا موجة وجيب، وراحت قلوبنا الرثيثة تنشد لنا "النسيم الدافئ". ربما ستشعرنا عند سماع طنطنتها بالأمان أو ربما ستشحذ النعاس إلى جفوننا الذابلة.
وإذ بصفير الرياح يزأر من حولنا.. تجلدت خلايا الدفء في اجسادنا، فتسارعنا إلى فانوسنا اليتيم، وتزاحمنا عليه.. وكل واحدة منا تتصارع مع الثانية من أجل ذرة دفء تدثر خنصرها الهزيل، وفجأة.. بدأ فانوسنا يحتضر.. فتجمدت نظراتنا وتصدعت قلوبنا وتهاوت مشاعرنا.. حططنا ايدينا الهزيلة فوق وجناتنا وبقينا ننتظر المصباح ليموت.
ومات مصباحنا.. فتركنا ميتمات منكسرات، نعاني مرارة يتم النور والدفء.
•••
العزاء يشتد، وتوالينا في الرثاء، قالت شقيقتي البكر: نحن لا نسكن هذا الكون وحدنا، ثمة أرواح تائهة سمعت أنها تحيط بنا..
قاطعتها شقيقتي الوسطى قائلة: كان المصباح حارسنا الضرغام، يمنع عنا تلك الأشياء من القدوم إلينا.
فصاحت شقيقتي الصغرى: وما نحن فاعلات؟ فقلت: مات حارسنا، فلننتظر المجهول.. كيف يأتينا.
رفعت والدتي يديها إلى ثغرها وقبضت عليه، وكأنها ستهشمه، حبست نحيبها لئلا يطرق آذاننا.
- الجن ليسوا موجودين يا عمتي، اين هم؟ ألم تدّعي أنك تحدثينهم كل عشية؟ ها، دعيني أراهم.
- هل أنت تلحي على هذا.. يا قلب عمتك ويا مهجتها؟
- نعم أصر.
- فقط اصبري حتى نصل إلى "الدالية".
سارت والدتي تعانق أديم التراب برجليها العاريتين. وترامت اطراف خمارها فوق التراب ليشارك رجليها رحلة السمر.
توقفت عمة والدتي:
- هذه هي "الدالية"..
بصرت والدتي إلى الدالية.. أرض فقيرة التربة، نخيلها هرمت، وعين مياها ضحلت.
صاحت عمة والدتي بأعلى صوتها:
بنت شمسة..
بنت شمسة..
يا بنت شمسة..
وها هو الصوت يجيب مناديه، ولم تتمكن والدتي ان تميز من أين قرع سمعها. هل هو من أسفل قدمها؟
أو وراء النخيل الهرمة؟ من تحت عين الماء الضحل على يمينها؟
لا ولن تكذب ما سمعت.. فقد اجاب عمتها بلا شك وبلا ريب، ارتعدت فرائص والدتي، اطلقت للريح ساقيها وغادرت (الدالية) بكل ما أوتيت من قوة..
ما زال صدى ذاك الصوت يلهب سمعها:
بنت شمسة..
بنت شمسة..
يا بنت شمسة..
•••
هذه الحكاية التي تخنق امي، وقعت لها حينما كانت طفلة، أراها في عينيها كل ما اشتدت حلكة الظلام.
أطرقت أسماعنا "خشخشة" الحشائش الجافة التي تحيط منزلنا، حفيف قادم الينا لا شك.. فحدة وقعات خطواته تزداد كل ما دنا من منزلنا، ولم تكن أمي قادرة على حمل جسدها على النهوض من فراش المرض حتى تحتضننا في حجرها، فطلبت منا القدوم إليها.
واهتزت قبضة الباب الخشبي بعنف وبدأ الباب يعود للخلف بقوة. وعلى صراخنا.. لكن هل سينقذنا الصراخ والليل قد خيم بدجاه السرمد وسط العدم؟!
حدة صراخنا، طغت على أنين الليل. وانطلق لسان أمي يرتل آيات من القرآن:
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ
لَا يُبْصِرُون
باب منزلنا فتح من الخارج بقوة، وارتفعت نبراتنا بحدة. قالت امي صارخة: اماه!
ترامينا بأجسادنا الهزيلة التعبة فوق المهاد.. تنهدت والدتي بشدة وشدت لجام قلبها. رفعنا اجفاننا المرتعشة نسترق النظر، فإذا بجدتي واقفة تحمل بين يديها زيتًا للفانوس وطعامًا للعشاء.
•••
قهقهنا بقوة، ودرنا حول والدتي نحتضنها، وأخذنا في مزاحمة بعضنا البعض، وكل واحدة منا تسخر من الثانية.. وبينما كان أفواهنا منفرجة نظرنا الى جدتي، فلم تكن تحت الباب، لم تكن في منزلنا، أو ربما لم تكن هنا اصلاً.
حواء الأزداني
تعليق