لآلئُ مِنْ بحرِ لُغتِنا
بقلم: أحمد عكاش
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أكرمَنا المولى تعالى بِلُغةٍ هيَ أُمُّ اللُّغاتِ، أجملُها جِرْساً، وأعذبُها لَفْظاً، وأقدرُها على جَلاءِ المعْنى، وأغناها في الألفاظِ التي تعبّر عن المعنى الواحدِ، حتّى نفى بعضُهمْ أن يكونَ فِي العربيّةِ تَرادُفٌ في المعْنى، فلا تُوجدُ – بحسبِ قولهمْ - كلمتانِ بمعنى واحدٍ، فلا بُدَّ من وُجودِ فرقٍ في المعنى بين مُفردَةٍ وَأُخرى، وإن كانَ هَذا الفرقُ دقيقاً لا يُدركُهُ إلاَّ ذوو الأفهامِ، والمتخصِّصونَ في اللُّغَةِ.
فللسيفِ –عِندَ هَؤلاءِ- اسمٌ واحدٌ هوَ (السّيْفُ)، وما بقي مثل: الصّارمُ، الباترُ، الهنْدِيُّ، المهنَّدُ، الهِنْدِوانِيُّ، الأبْيضُ، المشْرِفِيُّ، المصْقُولُ، الصَّقيلُ، الحُسامُ، المرهفُ، الصّفيحةُ، الفِرِنْدُ، الفَيْصَلُ، الماضِي، البارقَةُ، الصّمْصامُ، والصَّمْصامَةُ .. حتّى قالَ بعضُهُمْ: للسّيفِ ثَلاثُمِائَةِ اسْمٍ، فهي صِفاتٌ لهُ.
ولكن لما فَشتِ الأُمّيَّةُ، ونَدَرَ وُجودُ الذين يعرِفُونَ هذه الفروقَ، وللتقاربِ الشّديدِ بينَها، صار النّاسُ يستخدمون هذه الألفاظَ بمعنىً واحدٍ، جاهلينَ موضعَ كلّ مُفردةٍ، فاختلطَ الحابلُ بالنّابلِ، حتّى بلغَ بنا الأمرُ درجةً أَمسيْنا فيها لا نعرف المعنى العامّ الجامعَ لهذه المفرداتِ التي تنتسبُ إلى أُسرةٍ واحدةٍ في (المعنى)، ومن هنا أتتْ حاجتُنا إلى وضعِ المعجماتِ اللُّغويّةِ، وكلّما تعدّدتِ المعجماتُ وتنوّعَتْ، كانَ هذا دليلاً ساطعاً على فقرنا في فِقهِ لُغتِنا.
فالأقدمونَ منَ السّلفِ الصّالحِ الفَصِيحِ كانوا يدركونَ بالسَّليقةِ والبَداهةِ الفرقَ بينَ قولنَا: (ذَهَبَ) و(مَضى) و(غدا) ... أمَّا نحنُ في أيّامنا هذه فنكادُ لا نُميّزُ بينها.
ولاقْتران الفعل بحرفِ جرٍّ أهميّةٌ كبرى في العربيّةِ، فقدْ يتغيّرُ المعنى، أو ينعكسُ إذا تغيّر حرفُ الجرِّ: مثلُ: (أخَذَ بيدِهِ) و(أخذَ على يدِهِ).
فالأولى بمعنى: أعانَهُ وَأرشَدَهُ، والثّانيةُ بمعنى: مَنعَهُ وردَّهُ عنْ فِعلِهِ.
وجَاءَ فِي تاج العروس: ... وقَالَ بعضُ أَئمة اللغةِ والصَّرْفِ: إِنْ عُدِّيَ (الذَّهَابُ) بالبَاءِ فمَعْنَاهُ الإِذْهَابُ، أَو بعَلَى فمعناه النِّسْيَانُ، أَو بعَنْ فالتَّرْكُ، أَو بإِلَى فالتَّوَجُّهُ (انتهى).
فتعدِّي الفعلِ (ذهبَ) بِـ (البَاءِ): مثلُ: ذَهَبَ الغُلامُ بِالمالِ:
أيْ: أَذهبَهُ، وقَضَى عليهِ، وبدَّدَهُ.
وتعدّيهِ بِـ (على): مثل: ذَهبَ عليَّ أنْ أقُولَ لَكَ كذا.
أيْ: نسيتُ أنْ أقُولهُ لكَ.
وتعدّيهِ بِـ (عَنْ) مثلُ: زيدٌ يذْهبُ عَنِ الكذِبِ.
أيْ: يتْرُكُ الكذِبَ ولا يأتيهِ.
وتعدّيهِ بِـ (إِلى) مثلُ: ذهبْتُ إِلى المسجدِ.
أيْ: توجَهْتُ إليهِ وقَصَدْتُهُ.
ولقدْ أبدعَ العربُ في وضعِ مُفردات (ألفاظٍ) لكلّ شيءٍ لهُ مساسٌ بحياتهمُ اليوميّةِ والمعيشيّة، كَـ (النّاقَةِ) مثلاً، فهيَ راحلتُهمْ ومُطْعِمَتُهمْ لبناً ولحماً، ورفيقتُهم في حِلِّهمْ وترحالهِمْ، ومؤْنسَتُهمْ برُغائها وحنينِها ...، لِذا وضعوا لكلّ عُضوٍ من أعضائها اسماً، بلْ وضعوا لكلّ عَظمٍ منْ أَعْظُمِها اسماً، ولكلِّ حال منْ أحوالها كسُكونها أو مشيِها أو عَدْوِها أو رِضاها أو سُخطها، أو داءٍ من أدوائها أو لَوْنِها ... اسماً، وقدْ يصِلُ مجمُوعُ هذا إلى المئات، ولا غرابةَ في هذا ولا عجبَ، فهذه لغةُ العربِ، لُغةُ (الضّادِ)، فهلْ بعد هذا من قولٍ؟!.
أمّا فُنُونُها فحدّثْ عنها وعن المحيطِ الزّاخرِ ولا حرجَ، منْ ذاكَ ما ذكرْتُهُ في مقالٍ سابقٍ عنوانُهُ (العربيّةُ عسلٌ مُصفًّى)، ذكرْتُ فيهِ أنَّ في لُغتنا ما يُسمّيهِ علماءُ اللغة (ما لا يستحيلُ بالانعكاسِ)، بيّنْتُ فيهِ أنَّ ثمَّةَ في لُغتِنا الغرّاءِ كلماتٍ وجُملاً وأبياتَ شعرٍ تُقرأُ منَ اليمينِ إلى اليسارِ كما تُقرأُ منَ اليسار إلى اليمينِ، بالألفاظِ والمعاني نفسِها، ونذكرُ هذهِ النّوبةَ نوعاً آخرَ منْ هذهِ الأعاجيب في لُغتنا الحبيبةِ، وهِيَ أنَّكَ تقرأُ قصيدةً، فتجدُها مَدْحاً وثناءً، والمدْحُ فَنٌّ منْ فُنونِ الأدبَ بَرَعَ فيهِ العربُ مُنذُ أوَّلِ عهدِهِمْ إلى يومِنا هذا، وسيبقى هذا الفنُّ ما دُمنا نرى في الحياةِ ما يستحقُ الثناءَ، أمَّا أن يتحوّلَ هذا المدحُ نفسُهُ إلى ذَمٍّ وتوبيخٍ .. فذاك هو العَجَبُ العُجابُ، الذي تتفرّدُ بِهِ لُغتُنا.
فالبيتانِ التاليانِ جزءٌ منَ (القصيدةِ الرجبيّة)، إذا قرأْناهما منَ اليمينِ إلى اليسارِ كالعادةِ، نجدُهما في المدحِ والثّناءِ، وهُما:
حَلُموافَمَا سَاءَتْ لَهُمْ شِيَمٌ -- سَمَحُوا فَمَا شَحَّتْ لَهُمْ مِنَنُ
سَلِمُوا فَلا زَلّتْ لَهُمْ قَدَمٌ - - رَشَدُوا فَلا ضَلَّتْ لَهُمْ سُنَنُ
- حَلُموا: سَكَنُوا وصَفحُوا عِندَ الغضَبِ، معَ القُوَّةِ والاقْتدارِ. الشّيَمُ: جَمْعُ شِيمةٍ: وهيَ الخَصْلَةُ الحَميدَةُ. سَمَحُوا: كَانُوا كرماءَ. شَحّتْ: بَخِلَتْ؛ الشُّحُّ: البُخلُ. المِنَنُ: جَمْعُ (المِنَّةِ) وهيَ الإحسَانُ وَالإنْعامُ. رَشَدوا: كَانُوا رَاشدينَ، أيْ: ذوي عقْلٍ واستِقامةٍ. ضَلَّتْ: لَمْ تَهْتَدِ إلى الحقِّ، تَاهَتْ. السُّنَنُ: جَمْعُ السُّنَّةِ: وهيَ الطَّريقةُ وَالسّيرةُ.
- زَلَّتْ لَهُمْ قَدَمٌ: أَخْطَؤُوا وَعَثَرُوا وَسَقَطُوا.
ولكنْ عِندَما نقرؤُهما كلمةً كلمةً بِالعَكْسِ (أَيْ: منْ نِهايَةِ البيتِ إِلى أَوَّلِهِ) سيصيران هِجاءً وذَمّاً، وَيبقيانِ موزونيْنِ ومُقفّيَيْنِ.
وَها هُما بعدَ قَلْبِهما:
مِنَنٌ لهمْ شَحّتْ فَمَا سَمَحُوا -- شِيَمٌ لهمْ ساءَتْ فما حَلُمُوا
سُنَنٌ لهمْ ضلّتْ فلا رَشَدُوا -- قَدَمٌ لهمْ زَلّتْ فَما سَلِمُوا
ألا ترى معي أنَّ لُغةَ التّنزيلِ الكريمِ هذهِ تستحقُّ منّا أكثرَ منَ الانحناءِ لها والتّبجيلِ؟!.
***
مثالٌ آخرُ:
قَصيدةٌ فِي مدحِ (نَوْفَلِ بْنِ دَارِمٍ)، إِذا قَرَأْتَها كَامِلَةً مِنَ اليَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ، كَانَتْ مَدْحاً، وهيَ ستَّةُ أبياتٍ:
إِذا أتيْتَ نوفلَ بنَ دارمِ -- أَميرَ مَخْزُومٍ وَسيفَ هاشمِ
وَجَدْتَهُ أظلمَ كلِّ ظالمِ -- عَلَى الدَّنانيرِ أَوِ الدَّراهِمِ (1)
وَأبخلَ الأعرابِ وَالأعاجمِ -- بِعِرْضِهِ وَسِرِّهِ المكاتَمِ (2)
لا يَسْتَحِي مِنْ لَوْمِ كُلِّ لائمِ -- إِذَا قَضَى بِالحقِّ فِي الجَرائمِ (3)
وَلا يُراعي جانبَ المكارمِ -- فِي جانبِ الحقِّ وَعَدْلِ الحاكمِ(4)
يَقْرَعُ مَنْ يَأْتيهِ سِنَّ النَّادِمِ -- إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ قَدِمَ بِقَادِمِ (5)
1- مَعنى البيت: نَوفَلُ بنُ دارمٍ، كَريمٌ لِدَرَجَةِ الإسْرَافِ، فَإذا قَصدْتَهُ طَالِباً عَطَاءَهُ، أَعْطى مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّراهِمِ عَطَاءَ مَنْ لا يُقِيمُ لِلنُّقُودِ قَدْراً.
2- الممْدُوحُ لَيْسَ كَريماً فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ أَحْرَصُ العُرْبِ وَالعَجَمِ عَلَى شَرَفِهِ وَعِرْضِهِ، وَأَصْوَنُ البَرِيَّةِ عَلى السِّرِ إِذا اسْتُكْتِمَ سِرّاً.
3- إذا حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي جَرِيمَةٍ وَقَعَتْ، حَكَمَ بِالعَدْلِ وَلَمْ يَبالِ فِي قَولِ الحَقِّ عَذْلَ العَاذِلينَ.
4-إذا قَضَى بَيْنَ المتخاصِمِينَ حَكَمَ بِالعَدْلِ، فَلا يَنْحَازُ إِلى جَانِبٍ تَأَثُّراً بِجَاهٍ أوْ سُلْطانٍ ...
5- لِكَرَمِهِ وَعَظِيمِ عَطائِهِ فَإنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَأْتِهِ لِيَنالَ كَرَمَهُ سَيَنْدَمُ نَدامَةً كُبْرَى، لأنَّه فوَّتَ على نفسِهِ خيراً عظيماً.
وَإِذَا اكتَفَيْتَ بِقراءةِ الشَّطْرِ الأوَّلِ مِنْ كُلِّ بَيْتٍ؛ فَإِنَّ القصيدةَ تنقلبُ قصيدةَ ذمٍّ لا مدحٍ، وهيَ ثَلاثَةُ أَبياتٍ:
إِذا أَتَيْتَ نَوْفَلَ بْنَ دَارِمِ -- وَجَدْتَهُ أَظْلَمَ كُلِّ ظَالِمِ
وَأَبْخَلَ الأَعْرَابِ وَالأَعَاجِمِ -- لا يَسْتَحِي مِنْ لَوْمِ كُلِّ لائِمِ
وَلا يُرَاعِي جَانِبَ المكَارِمِ -- يَقْرَعُ مَنْ يَأْتِيهِ سِنَّ النَّادِمِ
هذه أنموذجاتٌ من لآلئِ لُغتنا، فهي بحرٌ زاخرٌ باللّؤلؤِ،
فَجِئْني بِبعضٍ منها في اللّغاتِ الأخرياتِ (إنْ جمعَتْنا يا جريرُ المجامعُ).
عجمان- النعيمية 27/6/2012
انتهت
بقلم: أحمد عكاش
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أكرمَنا المولى تعالى بِلُغةٍ هيَ أُمُّ اللُّغاتِ، أجملُها جِرْساً، وأعذبُها لَفْظاً، وأقدرُها على جَلاءِ المعْنى، وأغناها في الألفاظِ التي تعبّر عن المعنى الواحدِ، حتّى نفى بعضُهمْ أن يكونَ فِي العربيّةِ تَرادُفٌ في المعْنى، فلا تُوجدُ – بحسبِ قولهمْ - كلمتانِ بمعنى واحدٍ، فلا بُدَّ من وُجودِ فرقٍ في المعنى بين مُفردَةٍ وَأُخرى، وإن كانَ هَذا الفرقُ دقيقاً لا يُدركُهُ إلاَّ ذوو الأفهامِ، والمتخصِّصونَ في اللُّغَةِ.
فللسيفِ –عِندَ هَؤلاءِ- اسمٌ واحدٌ هوَ (السّيْفُ)، وما بقي مثل: الصّارمُ، الباترُ، الهنْدِيُّ، المهنَّدُ، الهِنْدِوانِيُّ، الأبْيضُ، المشْرِفِيُّ، المصْقُولُ، الصَّقيلُ، الحُسامُ، المرهفُ، الصّفيحةُ، الفِرِنْدُ، الفَيْصَلُ، الماضِي، البارقَةُ، الصّمْصامُ، والصَّمْصامَةُ .. حتّى قالَ بعضُهُمْ: للسّيفِ ثَلاثُمِائَةِ اسْمٍ، فهي صِفاتٌ لهُ.
ولكن لما فَشتِ الأُمّيَّةُ، ونَدَرَ وُجودُ الذين يعرِفُونَ هذه الفروقَ، وللتقاربِ الشّديدِ بينَها، صار النّاسُ يستخدمون هذه الألفاظَ بمعنىً واحدٍ، جاهلينَ موضعَ كلّ مُفردةٍ، فاختلطَ الحابلُ بالنّابلِ، حتّى بلغَ بنا الأمرُ درجةً أَمسيْنا فيها لا نعرف المعنى العامّ الجامعَ لهذه المفرداتِ التي تنتسبُ إلى أُسرةٍ واحدةٍ في (المعنى)، ومن هنا أتتْ حاجتُنا إلى وضعِ المعجماتِ اللُّغويّةِ، وكلّما تعدّدتِ المعجماتُ وتنوّعَتْ، كانَ هذا دليلاً ساطعاً على فقرنا في فِقهِ لُغتِنا.
فالأقدمونَ منَ السّلفِ الصّالحِ الفَصِيحِ كانوا يدركونَ بالسَّليقةِ والبَداهةِ الفرقَ بينَ قولنَا: (ذَهَبَ) و(مَضى) و(غدا) ... أمَّا نحنُ في أيّامنا هذه فنكادُ لا نُميّزُ بينها.
ولاقْتران الفعل بحرفِ جرٍّ أهميّةٌ كبرى في العربيّةِ، فقدْ يتغيّرُ المعنى، أو ينعكسُ إذا تغيّر حرفُ الجرِّ: مثلُ: (أخَذَ بيدِهِ) و(أخذَ على يدِهِ).
فالأولى بمعنى: أعانَهُ وَأرشَدَهُ، والثّانيةُ بمعنى: مَنعَهُ وردَّهُ عنْ فِعلِهِ.
وجَاءَ فِي تاج العروس: ... وقَالَ بعضُ أَئمة اللغةِ والصَّرْفِ: إِنْ عُدِّيَ (الذَّهَابُ) بالبَاءِ فمَعْنَاهُ الإِذْهَابُ، أَو بعَلَى فمعناه النِّسْيَانُ، أَو بعَنْ فالتَّرْكُ، أَو بإِلَى فالتَّوَجُّهُ (انتهى).
فتعدِّي الفعلِ (ذهبَ) بِـ (البَاءِ): مثلُ: ذَهَبَ الغُلامُ بِالمالِ:
أيْ: أَذهبَهُ، وقَضَى عليهِ، وبدَّدَهُ.
وتعدّيهِ بِـ (على): مثل: ذَهبَ عليَّ أنْ أقُولَ لَكَ كذا.
أيْ: نسيتُ أنْ أقُولهُ لكَ.
وتعدّيهِ بِـ (عَنْ) مثلُ: زيدٌ يذْهبُ عَنِ الكذِبِ.
أيْ: يتْرُكُ الكذِبَ ولا يأتيهِ.
وتعدّيهِ بِـ (إِلى) مثلُ: ذهبْتُ إِلى المسجدِ.
أيْ: توجَهْتُ إليهِ وقَصَدْتُهُ.
ولقدْ أبدعَ العربُ في وضعِ مُفردات (ألفاظٍ) لكلّ شيءٍ لهُ مساسٌ بحياتهمُ اليوميّةِ والمعيشيّة، كَـ (النّاقَةِ) مثلاً، فهيَ راحلتُهمْ ومُطْعِمَتُهمْ لبناً ولحماً، ورفيقتُهم في حِلِّهمْ وترحالهِمْ، ومؤْنسَتُهمْ برُغائها وحنينِها ...، لِذا وضعوا لكلّ عُضوٍ من أعضائها اسماً، بلْ وضعوا لكلّ عَظمٍ منْ أَعْظُمِها اسماً، ولكلِّ حال منْ أحوالها كسُكونها أو مشيِها أو عَدْوِها أو رِضاها أو سُخطها، أو داءٍ من أدوائها أو لَوْنِها ... اسماً، وقدْ يصِلُ مجمُوعُ هذا إلى المئات، ولا غرابةَ في هذا ولا عجبَ، فهذه لغةُ العربِ، لُغةُ (الضّادِ)، فهلْ بعد هذا من قولٍ؟!.
أمّا فُنُونُها فحدّثْ عنها وعن المحيطِ الزّاخرِ ولا حرجَ، منْ ذاكَ ما ذكرْتُهُ في مقالٍ سابقٍ عنوانُهُ (العربيّةُ عسلٌ مُصفًّى)، ذكرْتُ فيهِ أنَّ في لُغتنا ما يُسمّيهِ علماءُ اللغة (ما لا يستحيلُ بالانعكاسِ)، بيّنْتُ فيهِ أنَّ ثمَّةَ في لُغتِنا الغرّاءِ كلماتٍ وجُملاً وأبياتَ شعرٍ تُقرأُ منَ اليمينِ إلى اليسارِ كما تُقرأُ منَ اليسار إلى اليمينِ، بالألفاظِ والمعاني نفسِها، ونذكرُ هذهِ النّوبةَ نوعاً آخرَ منْ هذهِ الأعاجيب في لُغتنا الحبيبةِ، وهِيَ أنَّكَ تقرأُ قصيدةً، فتجدُها مَدْحاً وثناءً، والمدْحُ فَنٌّ منْ فُنونِ الأدبَ بَرَعَ فيهِ العربُ مُنذُ أوَّلِ عهدِهِمْ إلى يومِنا هذا، وسيبقى هذا الفنُّ ما دُمنا نرى في الحياةِ ما يستحقُ الثناءَ، أمَّا أن يتحوّلَ هذا المدحُ نفسُهُ إلى ذَمٍّ وتوبيخٍ .. فذاك هو العَجَبُ العُجابُ، الذي تتفرّدُ بِهِ لُغتُنا.
فالبيتانِ التاليانِ جزءٌ منَ (القصيدةِ الرجبيّة)، إذا قرأْناهما منَ اليمينِ إلى اليسارِ كالعادةِ، نجدُهما في المدحِ والثّناءِ، وهُما:
حَلُموافَمَا سَاءَتْ لَهُمْ شِيَمٌ -- سَمَحُوا فَمَا شَحَّتْ لَهُمْ مِنَنُ
سَلِمُوا فَلا زَلّتْ لَهُمْ قَدَمٌ - - رَشَدُوا فَلا ضَلَّتْ لَهُمْ سُنَنُ
- حَلُموا: سَكَنُوا وصَفحُوا عِندَ الغضَبِ، معَ القُوَّةِ والاقْتدارِ. الشّيَمُ: جَمْعُ شِيمةٍ: وهيَ الخَصْلَةُ الحَميدَةُ. سَمَحُوا: كَانُوا كرماءَ. شَحّتْ: بَخِلَتْ؛ الشُّحُّ: البُخلُ. المِنَنُ: جَمْعُ (المِنَّةِ) وهيَ الإحسَانُ وَالإنْعامُ. رَشَدوا: كَانُوا رَاشدينَ، أيْ: ذوي عقْلٍ واستِقامةٍ. ضَلَّتْ: لَمْ تَهْتَدِ إلى الحقِّ، تَاهَتْ. السُّنَنُ: جَمْعُ السُّنَّةِ: وهيَ الطَّريقةُ وَالسّيرةُ.
- زَلَّتْ لَهُمْ قَدَمٌ: أَخْطَؤُوا وَعَثَرُوا وَسَقَطُوا.
ولكنْ عِندَما نقرؤُهما كلمةً كلمةً بِالعَكْسِ (أَيْ: منْ نِهايَةِ البيتِ إِلى أَوَّلِهِ) سيصيران هِجاءً وذَمّاً، وَيبقيانِ موزونيْنِ ومُقفّيَيْنِ.
وَها هُما بعدَ قَلْبِهما:
مِنَنٌ لهمْ شَحّتْ فَمَا سَمَحُوا -- شِيَمٌ لهمْ ساءَتْ فما حَلُمُوا
سُنَنٌ لهمْ ضلّتْ فلا رَشَدُوا -- قَدَمٌ لهمْ زَلّتْ فَما سَلِمُوا
ألا ترى معي أنَّ لُغةَ التّنزيلِ الكريمِ هذهِ تستحقُّ منّا أكثرَ منَ الانحناءِ لها والتّبجيلِ؟!.
***
مثالٌ آخرُ:
قَصيدةٌ فِي مدحِ (نَوْفَلِ بْنِ دَارِمٍ)، إِذا قَرَأْتَها كَامِلَةً مِنَ اليَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ، كَانَتْ مَدْحاً، وهيَ ستَّةُ أبياتٍ:
إِذا أتيْتَ نوفلَ بنَ دارمِ -- أَميرَ مَخْزُومٍ وَسيفَ هاشمِ
وَجَدْتَهُ أظلمَ كلِّ ظالمِ -- عَلَى الدَّنانيرِ أَوِ الدَّراهِمِ (1)
وَأبخلَ الأعرابِ وَالأعاجمِ -- بِعِرْضِهِ وَسِرِّهِ المكاتَمِ (2)
لا يَسْتَحِي مِنْ لَوْمِ كُلِّ لائمِ -- إِذَا قَضَى بِالحقِّ فِي الجَرائمِ (3)
وَلا يُراعي جانبَ المكارمِ -- فِي جانبِ الحقِّ وَعَدْلِ الحاكمِ(4)
يَقْرَعُ مَنْ يَأْتيهِ سِنَّ النَّادِمِ -- إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْ قَدِمَ بِقَادِمِ (5)
1- مَعنى البيت: نَوفَلُ بنُ دارمٍ، كَريمٌ لِدَرَجَةِ الإسْرَافِ، فَإذا قَصدْتَهُ طَالِباً عَطَاءَهُ، أَعْطى مِنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّراهِمِ عَطَاءَ مَنْ لا يُقِيمُ لِلنُّقُودِ قَدْراً.
2- الممْدُوحُ لَيْسَ كَريماً فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ أَحْرَصُ العُرْبِ وَالعَجَمِ عَلَى شَرَفِهِ وَعِرْضِهِ، وَأَصْوَنُ البَرِيَّةِ عَلى السِّرِ إِذا اسْتُكْتِمَ سِرّاً.
3- إذا حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي جَرِيمَةٍ وَقَعَتْ، حَكَمَ بِالعَدْلِ وَلَمْ يَبالِ فِي قَولِ الحَقِّ عَذْلَ العَاذِلينَ.
4-إذا قَضَى بَيْنَ المتخاصِمِينَ حَكَمَ بِالعَدْلِ، فَلا يَنْحَازُ إِلى جَانِبٍ تَأَثُّراً بِجَاهٍ أوْ سُلْطانٍ ...
5- لِكَرَمِهِ وَعَظِيمِ عَطائِهِ فَإنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَأْتِهِ لِيَنالَ كَرَمَهُ سَيَنْدَمُ نَدامَةً كُبْرَى، لأنَّه فوَّتَ على نفسِهِ خيراً عظيماً.
وَإِذَا اكتَفَيْتَ بِقراءةِ الشَّطْرِ الأوَّلِ مِنْ كُلِّ بَيْتٍ؛ فَإِنَّ القصيدةَ تنقلبُ قصيدةَ ذمٍّ لا مدحٍ، وهيَ ثَلاثَةُ أَبياتٍ:
إِذا أَتَيْتَ نَوْفَلَ بْنَ دَارِمِ -- وَجَدْتَهُ أَظْلَمَ كُلِّ ظَالِمِ
وَأَبْخَلَ الأَعْرَابِ وَالأَعَاجِمِ -- لا يَسْتَحِي مِنْ لَوْمِ كُلِّ لائِمِ
وَلا يُرَاعِي جَانِبَ المكَارِمِ -- يَقْرَعُ مَنْ يَأْتِيهِ سِنَّ النَّادِمِ
هذه أنموذجاتٌ من لآلئِ لُغتنا، فهي بحرٌ زاخرٌ باللّؤلؤِ،
فَجِئْني بِبعضٍ منها في اللّغاتِ الأخرياتِ (إنْ جمعَتْنا يا جريرُ المجامعُ).
عجمان- النعيمية 27/6/2012
انتهت
تعليق