سرقهم الوقت، الحديث المبعثر هنا وهناك، وبطولات لا يعرف حقيقتها إلا أصحابها، كلّما ارتفعت نبرة الراوية فيسرد مغامرتها التي لا تنتهي،ازدادت شدة تعلقها بالقلم والورقة البيضاء، التي سرعان ما تحولت بأشكالها غير المنتظمة إلى ملامح وشعور وإحساس يهزه الحنين والشوق لشيء لم تدركه حتى الآن.
ترفع رأسها، تبتسم بنظرة سارقة، تترنح برأسها لترسل علامات الإعجاب، لشيء قيل، لم تسمع منه حرفا. لا أدري ماذا رسمت، ولكن شدتني تلك البقعة الأسطوانية، في أعلى الجدار المهشمة أطرافه.
الجدار الجدار!! هذا الحائط الذي طالما تحلم أن تقفز منه أو تهشمه وتقطعه إرباً إرباً، كم تمنتْ لو كان مصنوعا من ورق، لمزقته والتاعت فتاته وامتصت منه الغضب الساكن في حجرة قلبها الوديع!!.
عجبا لم لمْ ترسم بابا أو نافذة صغيرة، لتهرب منها وتتخلص من هذا الجمود المحدق في أقفال عينيها، لكانت ارتاحت !! ولم هذه البقعة الرطبة أعلى الجدار!! وخطوط تكوينها دقيقة جدا، متماسكة وكأنها نتوءات خرجت لتقص لنا حكاية أو بقعة ضوء شاحبة من تاريخ الذكريات، لماذا لا ترسم التفاؤل وتمحو من حياتها كل هم زائد؟، لماذا لا تجدد ابتساماتها العفوية؟.
أعلم أنها وحيدة ولا ترى سواها في الوحدة العتيقة، أعلم أن خجلها أطّر عالمها منذ صرختها الأولى، هي هكذا تغفو على صدر النسيان، الطريق أمامها مخيفة وطويلة، وأيادي العبث تداعب خصلات شعرها الحريري، الغياب يمازحها ويرسم السهاد بين جفونها، مشتتة، فلا هي أخذتني معها لمكنونات أسرارها، ولا تركتني أقتات فتات الشوق.
كل شيء هنا في الغرفة ساكن، ضجيجهم وضحكاتهم تتعالى في بقعة الجدار، وضجيج تدفق خلجات قلبها يصدأ دون حراك، تشدّ بيراعها لترسم حدود السماء المعلقة، وترسل إليه أحاديث الحزن التي باتت تسكنني، هناك دائما ذاكرة ترفرف فوق العيون، لا تستطيع الدموع غسلها، تترك في القلب غصة ووجعا. حتى أنت ذكراك موجع !.
أشارت إحداهن إلي بإصبعها : ( سحقا لك أتمارسين القوة عليّ، أتتعالين عليّ بإشارتك الحقيرة هذه، من أنت تكونين، أيتها الباحثة عن الأنا )،
اسمع – اسمع- نحن لا نصدق أنّك اعترفت؟ .
تبسمت قليلا، وعيناي لا تفارقان السواد المنسكب على البياض، وان كان بعيدا بعض الشيء، رفعت بصيرتها، وتوقف قطار اليراع عن سفره، لا لعطب أو لخلل، والهامة المنقبة على الورق، أخذت تتحرك إلى الأعلى، (هل أنهت رسمتها؟ أم شدّها عابر السؤال؟ أم تنتظر إجابتي؟)
- أجبتها بفلسفة: هناك مع حكايتي، مع العمر المحصور في خرم الإبرة، اعترفت واعترفت، وكلما استجوبت للاعتراف، يبتسمون وتتساما ضحكاتهم من حدة احترافي على الاعتراف ويحيوني بشرف وشرف!. إلى متى يا سيدتي –الفاضلة- أبقى اعترف ؟ أراني رغم تمردي على الكلام ! إني راحل إلى حيث الكلمة أو الحرف، إلى وكري القديم وزنزانتي، أين أنت أيها الإله؟ كي تقنع ذاكرتي ! أن مدينتي قد أغلقت أبوابها !! وانّ الجنون استوطن أشلاءَ المنفى، حرقني الحزنُ ! ووقفت عالقةً بحنجرتي حدودُ الصلوات! اغتسل الليل مني دمعا!. نعم أنا من صوب ببندقيته، وأطلق جميع رصاصاته، وأوقعته قتيلا، انّه ذئب، يعتاش السرقة، وله في الدنيا قصاص.
-أنت كما أنت، تتفنن في اختيار الكلام المسجوع، كيف كان السجن والسجان؟
- السجن جدار والسجان بقعة على الجدار!!!.
فزعت فرائسها، وأدركت تجسس عيوني لها، ولكنها ابتسمت خجلا، وتابعت في بوح مشاعرها، على شكل خطوط، شعرت بمرارة اليتم، ولأول مرة تسمع صراخ القلب الموجوع، وشهقات الولع المبعثرة على جسدها، كحبات العطر تسيل ندية من أوردتها.
- كيف يكون السجان بقعة على الجدار!!!.
عندما قيدوني بأسلاكهم، ورموا بيّ الزنزانة، وأغلقوها بأقفالهم الحديدية، لم يكن سوى جدار دائري، ورُسم أعلاه بقعة على شكل نافذة، بثلاثة قضبان حديدية مرتفعة، لا اقدر الوصول إليها إلا قفزا، وكلما قفزت أكثر،لأتعلق بها لعلّني أبصر الشمس والنور، أصاب بخيبة أمل، فأعاود الكرة بعد الكرة، كم كنت غبيا!! يحرسني وهمٌ على جدار من الأسى، كم كنت غبيا!!.
توقفتْ عن الرسم، وبخفة ألقت القلم على اللوحة، وأنصتت لما سردته من أحاديث، وبريق في عينيها يخاطبني بصمته المعتاد، أنا في خطاك، أنا في وحدتك، أنا في أنين أحلامك، ليلُنا يسرق السمع لأوجاعنا، يهدينا جمرة ساخنة، نرطب شوق الرحيل، تشبهني أنت في الغياب، يا سحابة السحر، يا ظلّي الكبير، انك تحمل اسمي، فلا تتركني كما فعل الآخرون.
وقفت وبخطى ثابتة، تقدمتُ نحوها، وألقيت نظرة إلى ما خطت يداها، وقلت لها همسا :
ما عاد الكلام يطاق.
تعليق