خبتت الأنوار وسكت الليل، أجل لايدري كم كانت الساعة بالضبط حين سمع جلجلة البساطير، ونباح كلب لم يشرب جوعه بعد.
مفاتيح كثيرة، وأبواب حديدية، لا شيء إلاّ العتمة وأطراف السجائر المتوهّجة، ترسل أحبال رائحتها إلى جسده المنهك، وتشتّت أفكاره معها.
ماذا يريدون مني الآن؟ في مثل هذا الوقت!.
تقدم...
اجلس، أعط لنا وجهك، ولا تتكلم بشيء.
اسمع ما نود أن نقول إليك : ..
.. شعر بالدموع الحبيسة كادت أن تغرق عينيه، خجل فأدار رأسه ليمسحها بالسبابة، لقد تعود على مداراة ألمه الخجول،
ولكنه في هذه المرة لم يستطع، بل لم يصدّق أن له جفون ترتعش، تذكر رفاقه، فوجد في سجنهم فجّعاً يسوق الدمع إلى عينيه مرة ثانية.
متى؟
ألم نقل لك ألا تتكلم، أيها الأبله الصغير، ولكن، الآن .. وهذا عقاب لك، لا وداعا لأحد.
امتزجت دموع الألم والفرح وتلعثمت أفكاره، ماذا سيقول؟ ماذا يفعل؟ والى أين سيذهب؟ واختار الخير له - أن يبكي صامتا كما تعود، ألماً يجسّد انسحاقه في الغياهب.
تنفس الصبح وشرب البرد منه حتى ارتوى، اغتسل بضباب الشمس وتعطر بأريج عيد الغفران،
أيقن أن جميع الصلوات لا تقوى على وصف شعوره المتناثر كأوراق الخريف، كفنون الجمال والصمت، فقد تمرس على غياب الكلام، ومنح لعيونه أسرار الحياة.
صعد الحافلة، وجلس قرب النافذة، وجلست بالقرب منه مقابلة فتاة جميلة فاتنة، أخذت تسرق بعض الأحلام وتخفيها من وراء اللثام،
تدنو من نافذة الحافلة، التي رسم لها التاريخ معالمها، وسلبها الدهر محاسنها، فعجت بعبق الفلاحين وأتعاب العاملين والصيادين العائدين إلى أكواخهم المستأجرة بين غابات الزيتون.
دنوها من النافذة ما كان إلا لتأملات تقطع وحشة الطريق، فتبرم وجهها تارة، وتعبس أخرى وللابتسامات حظ ليس بقليل.
"عجبا لتقلب المزاج" .
لقد أدرك هذا من تلك العيون الجائعة، التي ما كفت عن سرقة النظرات، حتى هناك آخر الحافلة !! اهتزازاتهم وتنقلاتهم فقط باتجاه واحد إلى الأمام حيث مجلسهم،
والسائق مرآته أعلنت الثورة والنضال، فقد اشمأزت من الوجوه أنفسها رجال سحقهم الزمن وكسرتهم لقمة العيش، ونساء حرمت من الأنوثة، تراهن أن الموت لهم يريح أجسادهم المهجورة ويتمنونه،
وخاصة مع ربيع العيون وطيف الوجه المخملي وأنوثة امرأة تسحر كلّ العيون.
التفت إلى نفسه في المرآة المعلّقة .. وضحك "لأول مرة منذ زمن" على سخفه وهو يتأمل نفسه !
ويقول : ترى ليلى كيف تكون؟ وهل تعلم أني من فدائيي حيفا الأحرار؟ هل ما زالت تنتظرني كما عهدتها خلف جامع الاستقلال؟ مرت سنين يا ليل!! سبع بعدد السموات، أنا قادم ليلى،
وانشد في صمته الغائب : وطني ليس بحراً ومراكب صيادين، وطني ليس نخيلاً وحقول تين، وطني عينا ليلى. وغابت الدنيا في عينيه، ووقع على نافذته مسلوب الشعور!.
ليلى أشبعته قصائد الحبّ الطويلة، رائحة شعرها الخروبي في أنفه أبدية، وحرير خديها يغازل ربيع عمرها، والبحر يسكن في عينيها .
صفرت العجلات، توقفت الحافلة، وتوقف قلبه عن النبض واسترجع الحياة من جديد
ولكن بخفقان سريع يسابق الريح، ومع قراءته للافتة حيفا، انفجرت عيناه بالبكاء الحار.
- صاح السائق هنا البهائية..هنا ساحة الملك فيصل..هنا شارع الراهبات..هنا هنا هنا.
وقف مستعدا للنزول وهي ابتعدت قليلا، فناداها، لماذا لا يسألها عن اسمها؟ ماذا في الأمر معيب؟!
يا سيدتي وتقدم منها :- آسف هل يمكن لي أن أعرف اسمك؟ أنا من هنا من حيفا .
ضحكت قبل أن تقول: لم لا ! نحن هنا أخوة .. اسمي فاطمة من حي عبّاس.. وفقط بالأمس ليلا !! حررت من الأسر، وأنت؟
أصبح كومةً من الدهشة والاستغراب، قال والبحة تخنق صوته أنا ميلاد وفقط بالأمس ليلا !! حررت من الأسر...
حلت برهة من الصمت لتمنح هذا العناق المقدس حقّه، وليتقابل الجرحان في آن واحد، أبت الدموع أن تفارق الحناجر العطشى
وبحياء مرير قال : ألا نتصافح؟
مدّت يدها ضاحكة بدمعة خجولة ثم انسلّت بخفة كما جاءت.
- هنا مسجد الاستقلال ووادي الصليب المحطة الأخيرة .
نزلا، هي ذهبت،
وهو نظر إلى مرآة الأنا، فانعكست صورة فاطمة بضحكتها البريئة، فبكى على ليلى وافترقا.
ابو وديع 21-4-2014
مفاتيح كثيرة، وأبواب حديدية، لا شيء إلاّ العتمة وأطراف السجائر المتوهّجة، ترسل أحبال رائحتها إلى جسده المنهك، وتشتّت أفكاره معها.
ماذا يريدون مني الآن؟ في مثل هذا الوقت!.
تقدم...
اجلس، أعط لنا وجهك، ولا تتكلم بشيء.
اسمع ما نود أن نقول إليك : ..
.. شعر بالدموع الحبيسة كادت أن تغرق عينيه، خجل فأدار رأسه ليمسحها بالسبابة، لقد تعود على مداراة ألمه الخجول،
ولكنه في هذه المرة لم يستطع، بل لم يصدّق أن له جفون ترتعش، تذكر رفاقه، فوجد في سجنهم فجّعاً يسوق الدمع إلى عينيه مرة ثانية.
متى؟
ألم نقل لك ألا تتكلم، أيها الأبله الصغير، ولكن، الآن .. وهذا عقاب لك، لا وداعا لأحد.
امتزجت دموع الألم والفرح وتلعثمت أفكاره، ماذا سيقول؟ ماذا يفعل؟ والى أين سيذهب؟ واختار الخير له - أن يبكي صامتا كما تعود، ألماً يجسّد انسحاقه في الغياهب.
تنفس الصبح وشرب البرد منه حتى ارتوى، اغتسل بضباب الشمس وتعطر بأريج عيد الغفران،
أيقن أن جميع الصلوات لا تقوى على وصف شعوره المتناثر كأوراق الخريف، كفنون الجمال والصمت، فقد تمرس على غياب الكلام، ومنح لعيونه أسرار الحياة.
صعد الحافلة، وجلس قرب النافذة، وجلست بالقرب منه مقابلة فتاة جميلة فاتنة، أخذت تسرق بعض الأحلام وتخفيها من وراء اللثام،
تدنو من نافذة الحافلة، التي رسم لها التاريخ معالمها، وسلبها الدهر محاسنها، فعجت بعبق الفلاحين وأتعاب العاملين والصيادين العائدين إلى أكواخهم المستأجرة بين غابات الزيتون.
دنوها من النافذة ما كان إلا لتأملات تقطع وحشة الطريق، فتبرم وجهها تارة، وتعبس أخرى وللابتسامات حظ ليس بقليل.
"عجبا لتقلب المزاج" .
لقد أدرك هذا من تلك العيون الجائعة، التي ما كفت عن سرقة النظرات، حتى هناك آخر الحافلة !! اهتزازاتهم وتنقلاتهم فقط باتجاه واحد إلى الأمام حيث مجلسهم،
والسائق مرآته أعلنت الثورة والنضال، فقد اشمأزت من الوجوه أنفسها رجال سحقهم الزمن وكسرتهم لقمة العيش، ونساء حرمت من الأنوثة، تراهن أن الموت لهم يريح أجسادهم المهجورة ويتمنونه،
وخاصة مع ربيع العيون وطيف الوجه المخملي وأنوثة امرأة تسحر كلّ العيون.
التفت إلى نفسه في المرآة المعلّقة .. وضحك "لأول مرة منذ زمن" على سخفه وهو يتأمل نفسه !
ويقول : ترى ليلى كيف تكون؟ وهل تعلم أني من فدائيي حيفا الأحرار؟ هل ما زالت تنتظرني كما عهدتها خلف جامع الاستقلال؟ مرت سنين يا ليل!! سبع بعدد السموات، أنا قادم ليلى،
وانشد في صمته الغائب : وطني ليس بحراً ومراكب صيادين، وطني ليس نخيلاً وحقول تين، وطني عينا ليلى. وغابت الدنيا في عينيه، ووقع على نافذته مسلوب الشعور!.
ليلى أشبعته قصائد الحبّ الطويلة، رائحة شعرها الخروبي في أنفه أبدية، وحرير خديها يغازل ربيع عمرها، والبحر يسكن في عينيها .
صفرت العجلات، توقفت الحافلة، وتوقف قلبه عن النبض واسترجع الحياة من جديد
ولكن بخفقان سريع يسابق الريح، ومع قراءته للافتة حيفا، انفجرت عيناه بالبكاء الحار.
- صاح السائق هنا البهائية..هنا ساحة الملك فيصل..هنا شارع الراهبات..هنا هنا هنا.
وقف مستعدا للنزول وهي ابتعدت قليلا، فناداها، لماذا لا يسألها عن اسمها؟ ماذا في الأمر معيب؟!
يا سيدتي وتقدم منها :- آسف هل يمكن لي أن أعرف اسمك؟ أنا من هنا من حيفا .
ضحكت قبل أن تقول: لم لا ! نحن هنا أخوة .. اسمي فاطمة من حي عبّاس.. وفقط بالأمس ليلا !! حررت من الأسر، وأنت؟
أصبح كومةً من الدهشة والاستغراب، قال والبحة تخنق صوته أنا ميلاد وفقط بالأمس ليلا !! حررت من الأسر...
حلت برهة من الصمت لتمنح هذا العناق المقدس حقّه، وليتقابل الجرحان في آن واحد، أبت الدموع أن تفارق الحناجر العطشى
وبحياء مرير قال : ألا نتصافح؟
مدّت يدها ضاحكة بدمعة خجولة ثم انسلّت بخفة كما جاءت.
- هنا مسجد الاستقلال ووادي الصليب المحطة الأخيرة .
نزلا، هي ذهبت،
وهو نظر إلى مرآة الأنا، فانعكست صورة فاطمة بضحكتها البريئة، فبكى على ليلى وافترقا.
ابو وديع 21-4-2014
تعليق