غداة إطلاق سراحه، جاء المحقّق الذي باشر القضيّة يطرق بابه،
قتح له.. فدخل مقطبا، وقال متوعّدًا:
- قضاء محكوميّتك بالكامل، لا يعفيك من المطالبة بالمال الذي اختلسته.. وسأستمر في مطاردتك ولن أجعلك تهنأ به، سلبته دون وجه حق ويجب أن تعيده لأصحابه..
رسم الرجل ابتسامة ودية.. وقام بالتقاط حقيبة رجل أعمال في متناول يدّه، فتحها ووجدها مملوءة بأوراق نقدية جديدة، بعد إغلاقها ناولها له قائلا:
- هاك المبلغ كاملا غير منقوص.. انتفت حاجتي له..
ابتسم ابتسامة صفراء حين فغر المفتش فاه بعد أن كادت الدهشة تعقد لسانه، سأل محتارًا:
- ماذا؟ كيف ولماذا؟ّ
- لا بأس سأوضح، ولك الحكم...
قبل خمسة عسرة عاما قمتبإيداع النقود في أحد البنوك، وحصلت على سعر عال للفائدة طبلة المدّة الماضية وتساوي الفترة الّتي استغرقتها فترة حبسي.. واستحقت الوديعة الآجلة منذ أيام بسيطة.. فور إطلاق سراحي سحبت المبلغ وفوائده،وكنت أنوي إعادته اليكم.
توقف هنيهة يتذكّر، ثمّ أردف قائلا:
- شخصيّا تكفيني قيمة الفوائد، تكاد توازي المبلغ الأصلي الذي استوليت عليه بمثابة ديْن... وأضاف: لقد درستُ الأمرَ جيدا.. بكل مضاعفاته.. وخطّطت، ومن ثم نفذتُ في يوم الرواتب، في ذلك اليوم كنت أساعد رئيس المحاسبين في عد الفلوس مثل العادة، وحملتها معه والمدير الهرم كي نودعها في الخزنة...
لكني قمت بوضع التقود في كيس قماش، وطالبتهما بأن يتنحيا جانبا حتى لا أوذيهما، انصاعا لأمري بسهولة، كانا كبيرين في العمر على وشك التقاعد، لم يرغبا بالتورط.. ثم انسحبت بالمال دون أي عائق غير عابئٍ بكاميرات المراقبة..
غير عابئٍ بالقبض علييّ، متقبّلًًٍا عقابي... لو عملت طيلة حياتي ما استطعت جمع هذا المبلغ، كنتُ خائفّا من انتهاء عمري وحيدا خائبا.. براتب وضيع بعد سنوات الخدمة الطويلة، مثل مديري. وشجعني على هذا أن المرأة الوحيدة التي أحببتها، هجرتني إلى أحد الأثرياء...
صمت هنيهة مفكرا، واسترسل قائلا:
- ما زال في العمر بقية - لما أبلغ الأربعين بعد - درست في السجن وأتممت تعليمي بالمراسلة.. ونلت شهادة عليا في الإدارة والتخطيط.. بإمكاني تغيير اسمي، وسأهاجر إلى بلد آخر بهوية جديدة وبداية نظيفة.. وأشرق مبتسما:
- كل الصعوبات ستذلل.. بانتظاري إحدى الصبايا التي راسلتها بالسجن، سأتزوجها... وأنعم معها برغد العيش والرفاه... فلا شيء يعجز المال عن تأمينه... !
مد المحقق يده بصمت يتناول الحقيبة، وينصرف.. يحك رأسه
مستغرقا في التفكير؛ بخصوص تقاعده القريب، وزوجته المريضة.. ابنه ومصاريف جامعته الباهظة... يا ترى ماذا لو؟!
***********
(النص اقتناصة من الذاكرة... بتصرف)...
تعليق