وجها لوجه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مناف بن مسلم
    أديب وكاتب
    • 19-09-2013
    • 72

    وجها لوجه

    وجها لوجه
    سار بخطوات بطيئة ثابتة دون تردد . امامه امتد الممر طويلا بلا نهاية , ساكنا بلا رحمة . نعم لقد رأهم في اخر الممر واقفين كالاشباح الموحشة يتقدمهم الرجل الضخم ماسكا بكلتا يديه عصا غليضة لوح بها في الهواء تحديا له ومهددا اياه بالموت الذي انتظره كل تلك السنين الطويلة لكنه لم يفكر به بمثل هذه الحدة ولم يحس به بمثل هذه الواقعية المشؤومة . فكر انه يستطيع التراجع والهرب مثلما اوصته قبل قليل لو كان لديه قليلا من الحذر , قليلا جدا , لكنه تقدم بتوجس نحو قدره المتغلغل بدمائه الحارة وبحزن كبير جاثما على قلبه الذي لا يتوقف لحظة واحدة عن هديره الصاخب منذ الولادة . في اخر الممر كان الرجل العملاق يحرك يده اليمنى في الهواء بحركة دائرية مستفزة كي يثير خوفه وكي يحفزه على الغضب الاعمى . وعندما رأى يد العملاق السابحة في الهواء فكر بأمه الحزينة وهي ترتدي ملابس الحداد عازمة على الرحيل خلف جثمان والده الذي تركها تواجه مصيرها وحيدة دون حماية خلف جدران غرفتها الصغيرة المتهالكة وفوق سريرها التي لم تنام فيه وحيدة طيلة ايام زواجها الا ايام قليلة منسية فأصبحت الان ارملة لا تستطيع ان تعطي لأولادها حنين الكلمات الدافئة من فمها الصغير . وفيما هو يفكر بامه تذكر والده عندما كان يأخذه لصلاة الجمعة فيما مضى من الايام البعيدة . وظهرت امامه صور مشوشة قديمة كان قد سمع عنها منذ ان كان صغيرا . لقد اخبرته امه ان والده قد ترك الزراعة والريف وصار عاملا متعبا دائما في هذه المدينة الزائفة بكل موروثاتها وقيمها السطحية . كان قد ترك الحياة البسيطة الجميلة ودخل في دهاليز الكذب والخداع والركض وراء لقمة العيش . ( لماذا ... لماذا يا ابي ) كان يردد مع نفسه شاعرا بغصة وحزن يعتصر قلبه الصغير . ولم يكن حظ جده احسن من حظ ابيه كانت ملامح جده قد ظهرت ضبابية سابحة في اغوار زمن لم يشهده ولم يعرفه الا من خلال تصورات ربما كانت شخصية جدا . لكنه احس بالاختناق وهو يتسائل لماذا ترك جده تلك البلاد السعيدة واتى الى هذه البلاد التي لم يحصد منها الا الباطل ولم يقبض الا الريح وسخرية القدر . ولما اصبح السؤال حادا موقظا اسئلة اخرى لا اجوبة لها تنقذه من الخطر الذي ينتظره بلا شفقة في اخر الممر احس برغبة قوية للبكاء في حضن جدته التي امتلكت طفولته بعنايتها الصارمة وعنادها الذي لا يقهر راسمة مسار حياته بحكاياتها الطويلة عن احوال جده وشخصيته الاسطورية والذي لم يستطع لحد الان ان يحدد ملامحه . ولم يتحرر من عاطفتها جدته الا بعد ان حولها المرض الى كيان متفسخ غائبة في عالم لا يعرفه الا الاموات . فكر بكل الذين يعرفهم , الواحد بعد الاخر , لكنه الان اصبح بعيدا متلاشيا عنهم . لم يبقى في ذهنه سوى صور ضبابية تغيب في دهاليز مظلمة , مظلمة جدا , ( يا الهي الظلام دامس جدا اين انا .... اين انا ) والان وهو يقترب من الاشباح الغاضبة في اخر الممر والذي لم يعرف لماذا يريدون قتله بمثل هذه الوحشية , لم يستطيع تأجيل ما يحس به او لا يعترف به بكل صلابة , الان فقط عرف انه كان انعكاسا لتلك الخيالات المزدحمة في ذهنه . تدفق الدم مندفعا في اجزاء جسمه , والتهب وجهه , وصارت ضربات قلبه سريعا جدا . وفيما هو يقترب منهم احس بالفراغ ثقيلا لا يتشتت . وبالموت مخيفا لا يتجدد . لكنه لم يتراجع خظوة واحدة للخلف , لم يكن يحمل سلاحا يدافع به عن نفسه , لقد كان اعزلا , مستسلما لكل شيء قد يحدث , لهذا فقد اقترب منهم بخطوات بطيئة ثابتة دون تردد.
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    #2
    أخي مناف، كنتَ بارعا في رسم المشهد بمنطق السّرد، متنقّلا بسلاسة بين الحالات و الوضعيات و الشّخوص.
    أثني أيضا على نجاحك في المزج بين العاطفة الموجّهة إلى الأهل على أرض الواقع(و إن كانوا رحلوا) و بين طقس الكابوس الذي ألم بالشخصيّة محوّلا إيّاه إلى ما يشبه شبح نفسه.
    أطلت الجمل و أهملت الترقيم أخي العزيز.
    طابت أوقاتك.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة

    تعليق

    • مناف بن مسلم
      أديب وكاتب
      • 19-09-2013
      • 72

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركة
      أخي مناف، كنتَ بارعا في رسم المشهد بمنطق السّرد، متنقّلا بسلاسة بين الحالات و الوضعيات و الشّخوص.
      أثني أيضا على نجاحك في المزج بين العاطفة الموجّهة إلى الأهل على أرض الواقع(و إن كانوا رحلوا) و بين طقس الكابوس الذي ألم بالشخصيّة محوّلا إيّاه إلى ما يشبه شبح نفسه.
      أطلت الجمل و أهملت الترقيم أخي العزيز.
      طابت أوقاتك.
      الاستاذ محمد فطومي المحترم
      افرحني فعلا تحليلك الرائع لنصي المتواضع وملاحظاتك القيمة قمرا منيرا لكاتب مبتدأ مثلي من كاتب كبير مثلك شكرا لك اخي محمد
      متمنيا ان توضح لي قصدك عن اخر جملة (أطلت الجمل و أهملت الترقيم ) ؟ لم افهم ماذا تعني . اعتبرني تلميذك ووضح لي لكي اتعلم منك قليلا فلربما هذا القليل يكون كثيرا لي .
      تحياتي وتقديري لك
      مناف بن مسلم

      تعليق

      • محمد فطومي
        رئيس ملتقى فرعي
        • 05-06-2010
        • 2433

        #4
        العفو أخي مناف،
        ما يصنع الفرق فقط في سفرة الإبداع هو أنّهم في محطّة لاحقة ربّما و نحن في محطّة متأخرّة بعض الشيء، لكن الجميع سيصل في النهاية لو تواصل البحث، حينها لن يكون هناك اعتبار للوقت المقضّى في الرّحلة.
        عودة إلى الملاحظة، أشرت لك بأنّ الجمل طويلة في النصّ بوصفها ترهق الفعل السّردي و تشتت تفكير القارىء و تحيد به عن المقاصد التي أرادها الكاتب.
        الجمل الطّويلة ليست عيبا بين يدي كبار الكتاب، فبروست مثلا يكتب الجمل الطويلة و هو ما هو، لكنّها تحتاج مراسا و فهما لضرورتها.
        و الأحرى في القصّة القصيرة استعمال جمل قصيرة باترة موحية ذات مفردات منتخبة بعناية و غير مجانية أو تقريرية أو ذات منحى تفسيريّ.
        أعطيك مثلا من النصّ:
        نعم لقد رأهم في اخر الممر واقفين كالاشباح الموحشة يتقدمهم الرجل الضخم ماسكا بكلتا يديه عصا غليضة لوح بها في الهواء تحديا له ومهددا اياه بالموت الذي انتظره كل تلك السنين الطويلة لكنه لم يفكر به بمثل هذه الحدة ولم يحس به بمثل هذه الواقعية المشؤومة.

        جملة واحدة، وردت فيها شخصيّتان و ستة أفعال.عدا أربعة مواضع للحال ( ماسكا، مهدّدا...) و هي أسماء في الإعراب لكنّها أفعال تعبيرا.
        ما ينبغي الإشارة إليه هنا، هو أنّ جملة واحدة لا يمكن بشكل من الأشكال أن تنطوي على مشهد برمّته.
        أمّا التّرقيم فيعود أساسا لثقتك بأنّ جملة واحدة يمكن أن تنقل مقطعا قصصيّا بأسره.

        مثال آخر على ما أقول:

        "وعندما رأى يد العملاق السابحة في الهواء فكر بأمه الحزينة وهي ترتدي ملابس الحداد عازمة على الرحيل خلف جثمان والده الذي تركها تواجه مصيرها وحيدة دون حماية خلف جدران غرفتها الصغيرة المتهالكة وفوق سريرها التي لم تنام فيه وحيدة طيلة ايام زواجها الا ايام قليلة منسية فأصبحت الان ارملة لا تستطيع ان تعطي لأولادها حنين الكلمات الدافئة من فمها الصغير ."

        و أقترح لتقريب وجهة النّظر أكثر:
        "وعندما رأى يد العملاق السابحة في الهواء فكر بأمه الحزينة. لاح له المشهد وهي ترتدي ملابس الحداد عازمة على الرحيل خلف جثمان والده الذي تركها تواجه مصيرها وحيدة دون حماية خلف جدران غرفتها الصغيرة المتهالكة. و كيف لم يعد بوسعها الآن ان تعطي لأولادها حنين الكلمات الدافئة من فمها الصغير ."

        محبّتي أخي ..سعيد بالتواصل معك.
        مدوّنة

        فلكُ القصّة القصيرة

        تعليق

        يعمل...
        X