جوهرة يدويّة الصّنع
في طريقهما إلى المطار، لوّنت العبارات المُحترقة صمتهما بالقاتم الموحش. المشاهد المشحونة التي ضاق بها جمعهما على امتداد الأربع سنوات الفارطة، تعود الآن ثقيلة لتحاصرهما في مكان ضيّق دون أن تلوّح لهما سوى بعناوين هلاميّة مقتضبة، مُحوّلة السيّارة إلى ما يشبه كبسولة زمن. التمعت العناوين في مخيّلاتهما كشهب متناثرة في ليل معتم: "ذبح أوّل مدفوع الثّمن، يليه آخر كان في حينه قابلا للإرجاء".."في أعماقي لم أحبّ غيرك، أبي!" .. "حفيدتي، عصفورتي النادرة!".. "لم يكن بدافع منّي أبي، صدّقني".."الجواهر اليدويّة الصّنع هي الأفضل لو تدري". تقاطر الصّمت عرقا باردا على جبين يوسف و هو يرى العلبة الحمراء في صندوق السيّارة من جهته. بدت كتلك الأشباح التي لا أحد يُصدَّقنا لو قلنا بأنّنا رأيناها تمرّ أو سمعناها تطقطق أو تخطو. سيكون موكلا لهذا الصّمت وحده أن يؤلّف بين يقين يوسف بأنّه سبّب لأبيه أذى كبيرا، و بين حاجته المُلحّة للمواساة من طرفه هو دون غيره.
كان يوسف منكمشا في كرسيّه يراقب الطّريق الممتدّة أمامه كعقبة، بسط ساقيه إلى الأمام، ثمّ ثناهما، صرّ يديه بين فخذيه، أخذ يهرش سرواله بتوتّر واضح. عيناه تقعان على الأشياء فلا يرتسم في مخيّلته شيء منها. عاد ليفرك يديه و يجمع قبضتيه متحسّسا أظافره حارصا على أن تؤلم راحتيه، كان أبوه في تلك الأثناء غارقا وسط كمّ هائل من الحركات الصّغيرة، موزّعا اهتمامه بين قهوته و بين البلور العاكس و التفاصيل الصّغيرة المُحيطة به من كلّ جانب كما ليوحي بأنّ القيادة لا تسمح بربع كلمة. مطر خفيف بدأ بالتّساقط تلقّفها الأب بماسح الزّجاج ليضيفها إلى قائمة مشاغله اليدويّة الأخرى.
تبادلا نظرة سريعة ثمّ لم يعد يسود بينهما سوى صوت دوران العجلات تزدرد الطّريق المبتلّ.
شيخ نضج الصّيف في صدره و لم يصب بالخرف على حدّ تعبيره، بم تراه يفكّر و هو يقلّ ابنه الوحيد لتوديعه دون سابق علم، رغم أنّه يسكن الشّقة السفليّة لشقّته، و ينام في الحجرة التي تقع تماما تحت حجرة نوم ابنه؟ فقط قبل السّفرة بيوم أخبره بأمر البعثة التي ستدوم سنتين.
رصّف الأب الحقائب بنفسه. تعلّلت زوجة يوسف بموعد عند الطّبيب. لن تأت معهما إذن مصطحبة الصّغيرة كما تخيّلاها تدفعها في الصّالة الكبيرة و قد ارتسم على ملامحها تذمّر مكتوم.
ليلة السّفر، انغمس يكتب في دفتره كما لم يفعل طوال حياته. النّتيجة كانت ورقة.
ورقة عمرها ليلة فاجأت صاحبها كما لو أنّه عثر عليها و لم يكتبها بنفسه؛ تساءل: كيف أمكنها أن تُعلّم الأيّام الأسماء كلّها و تضجّ بالعلامات كما لو أنّها تُطلع الوقائع عمّا غاب عنها؟ ألا ينبغي أن تكون قد استغرقت وقتا أطول كي تقدر على ذلك؟
الورقة ذات مطويّة إذن؟؛
ورقة لا تُصهَر و لا تُصَبّ و لا تُسبَك. بعثها ، فقط ، ليتحقّق من أنّه وأد ما بداخلها.. كذا فكّر.
انتهى من كتابتها عندما شارف الليل على الانتهاء:
***
"يوسف..كنتَ دائما الحياة في نظري، كان يضحكك أنّي وجبتها المُفضّلة. نعم بإمكانك أن تصدّقني، أنت لا تذكر.. أحيانا كنتَ تنفجر ضاحكا و أنت تراني أتعثّر في الأشياء أو أنسى الأغراض فأعود حانقا من حيث أتيت أو حين تشنّ عليّ الأعطال حربا شرسة. أكثر ما كان يغضبني حينها هو تربّصها بيوم عطلتي كي تقع على رأسي دفعة واحدة.بالأمس كدتُ أصطدم بسيّارة أخرى. كلانا لم تكن لديه مكابح جيّدة..شأني، شأن القلق الذي صار يسكنني.. كما قد تلاحظ، تغيّر شكل عدوّي مع تقدّمي في السنّ.. حتّى عهد قريب كان حلمي أن يتحوّل رأسي بيتا للجميع، أمضيتُ حياتي متنقّلا بين شخصيّات عديدة، فمن مُحوّل لوجهة القدر. إلى الرّجل الأقوى من كلّ المواقف مهما اشتدّت حدّتها. كنتُ كطفل يتقمّص بطلا من أبطال التلفزيون في كلّ مرّة. بعدما انتهت كلّ هذه الأدوار اشتعل النّدم بداخلي لأنّي لم أشتغل على أن أصير أبا يُذكر في سياق الكلام بجمل تبدأ بكان أبي، أو كان دائما أبي...
بدأت تظهر على البيت الذي كبُرتَ فيه أوّل التّجاعيد، بنيّ؛ ذاك الغبار الرّكيك الذي ألمحه يبقّع الحائط حول الأبواب الخشبيّة للبيوت المُعدّة للبيع و الذي لا شيء يطرده غير سكّان جدد. البيت فقد وسامته القديمة، هو الآن جميل فقط من باب أنّه ليس غير ذلك، تماما كما يُقال عن أحدهم: المسكين مات صغيرا، بالكاد تخطّى عقده السّابع. بياضه الناصع فيما مضى أصبح بلا رجعة بياضا شاحبا كبطن تمساح. علاقتنا أيضا أصبحت شاحبة بعدما تزوّجتَ و استقللت، بدأتَ تبتعد عنّي رويدا رويدا، كنتَ كأمّ تغافل صغيرها و هي تخرج من غرفته على أطراف أصابعها كي لا توقظه. أمّا أنا فكنتُ ممثّلا بارعا، ألوّح بتصرّفات غريبة عن أطواري، من قبيل اصطناع طقوس يوميّة مضبوطة: كتبي، شجيراتي، ساعة المشي المسائيّة، ميلي للعزلة، كوب الزّعطر اليوميّ. كنتُ أبالغ في الامتثال لها فقط لأؤكّد لكما بأنّ ابتعادكما عنّي في محلّه بل أكثر من ذلك لعلّي أحبّذه. كنتُ أدري أنّ انكفائي التّلقائيّ على نفسي سيخفّف عنكما الكثير من طرق الضّمير.
الحكاية عندي تبدأ منذ علمتُ منك بأنّك تنتظر بنتا. كان عمر الجنين إذاك ثلاثة أشهر كما أخبرتني.
بيني و بين نفسي سمّيتها حوّاء، لم أتردّد في هديّتي لها. منذ الوهلة الأولى حسمت أمري على أن أطوّق معصمها الصّغير بسوار مرصّع بجواهر يديوّية الصّنع، تماما كما يفعل مربّو طيور الكناري، و هم يطوّقون سيقان الأفراخ التي تفقس خلال الثلاث أيّام الأولى كأقصى أجل، أي قبل أن يستحيل الأمر، يفعلون للدّلالة على أنّها ولدت في عشّ رغد و ليست لقيطة البرّيّة. بذا كان يرتفع شأنها أضعافا. أعجبني في الحكاية الجزء المتعلّق بعشّ الرّغد. درس رائع آخر علّمتني إيّاه أذواق النّاس: يبدو، بنيّ، أنّ الحرّيّة هي أسوأ التّجار على الإطلاق.
قصدتُ العاصمة مُتخفّيا بقضاء بعض الشّؤون. و أنا أتجوّل بين الأزقّة الشّعبيّة، تساءلت بسخرية ما إذا كان ما أقدم عليه وجها من وجوهي الأخرى التي لا أعرفها و لا أحد يعرفها، أم حياة سرّيّة عارضة لا يُستحسن أن ينطبع منها سوى النّتيجة. حين طال مكوثي هاتفتني، فهمت من نبرة صوتك أنّ عديد الهواجس قد عبثت برأسك. أخبرتك أنّي انتهزت الفرصة لأقوم بزيارة بعض الأقارب. بالفعل زرتُ عمّتك، لكنّي سرعان ما عدتُ إلى غرفتي بالنّزل، كان زوج عمّتك مغتاظا جدّا من طاووسه، أراني مخالب الطاووس و قد لفّها في ورقة ممزّقه من كراس أحد أبنائه، قال لي إنّ الطاووس حاول الفرار فعاقبته. كان القرطاس يحتوي على كلّ مخالب الطاووس.. أعتقد أنّنا نشبه وسائل عقابنا كثيرا، أعتقد أيضا أنّ العقاب نوع من الفضيحة، لذلك لم أحبّ ممارسته يوما، لا معك و لا مع أيّ كائن كان، ثمّ إنّ أحدا ليس بوسعه أن يعاقب أحدا، نحن إمّا نبيع أو نشتري، تلك حدودنا. ألا ترى معي؟
اجتزتُ المشقّة الأولى عندما عثرتُ على الصّائغ الوحيد الذي يصقل الجواهر يدويّا، لم يكن دكّانه نائيا عن بقيّة الدّكاكين مع ذلك لا أحد أضاف حرفا فوق عبارة: "عذرا لا أصنع يدويّا".
كان دكّان العم "روجييه" عبارة عن نفق ينتهي بمغارة دانية السّقف، في وسطها تنتصب طاولة مغطّاة بملاقط و أدوات صقل دقيقة و عدسات مكبّرة. اتّفقنا بسرعة على جميع التّفاصيل فالعمّ " روجيه" لا يتفاوض أبدا، هو يبيعك قطعة من عمره المتبقّي. الذين يأتون إلى هنا، ينشأ بينهم و بينه اتّفاق غير صريح يقضي بأن تدفع له مالا مضاعفا مقابل انكبابه أيّاما و ليالي، مسخّرا كلّ حواسّه و أعصابه و وجدانه من أجل عزيز قلبك.. كنتُ أزوره كلّ يوم. أجلس بجواره أحاول استدراجه لخوض المواضيع. عندما اقترب موعد التّسليم بدا لي أنّ الجوهرة هي الأيّام التي استغرقه صقلها، ثمّ حين قدّمها لي جاهزة في أتمّ رونقها، و أمكنني أن ألحظ على وجهه شيخوخة مضاعفة. آمنتُ أنّ الجوهرة هي العمر الذي التهمته. لم ألق ترحيبا كبيرا يوم زرتك لأقدّم الهديّة لعصفورتي، مع ذلك لم أنصرف قبل أن أطوّق معصمها بنفسي. ما هي إلاّ أيام حتّى زرتني في غير موعدك الأسبوعيّ. كنتَ مرتبكا، سألتني عن الصّائغ، عن اسمه و مكانه. قلتَ إنّه غشّني. الجواهر ليست متساوية و لا هي دقيقة في الشّكل. فهمتُ أنّك في مهمّة، لن تكون بسلام إلاّ إذا أعدت لي السّوار. قبلتها، حاولتُ تغيير الموضوع لكنّك عدتَ لتحدّثني عن الجوهرة و كيف ينبغي أن نبلّغ الشّرطة. في الأخير وعدتك بأن أعود إليه ليصلح غلطه و إلاّ رفعتُ به قضيّة. كلانا كان يدري أنّ شيئا من هذا لن يحصل. كان لابدّ أن تُعاد الهديّة إلى صاحبها، هذا كلّ شيء.
ما حدث هو أنّ زوجتك قد صدّقت كلام امرأة غريبة ادّعت أنّ السّوار مغشوش، بل أخذت المرأة على عاتقها مهمّة عرضه على صائغ تثق به. عادت بعد أيّام لتؤكّد بأنّ الجواهر مغشوشة و بأنّها لا تساوي شيئا. سمعتُ النّقاش الذي دار بينكما ليلا و أمكنني أن أربط العلاقات. كنتُ على وشك النّوم، لم أقصد سماع شيء. قرّرت بعد تلك الليلة أن أنتقل للعيش في غرفة الجلوس. أتدري؟ ثمّة ثمالة لا ينبغي إذا حَضَرتْ أن يطيل المرء المكوث مراقبا الحركة و السّكون من الشّرفة، مخافة أن يُفتضح أمر الحقائق في عينيه. أعذر زوجتك لأنّها تجهل. لا تغضب أرجوك..أتدري ما معنى أن تجهل أمرا؟ يعني أنّ كلّ التفاسير المُتعلّقة به ستبدو لك جميعها مٌقنعة للغاية، مهما تضاربت، تماما كالقِبلة في مكان تزوره لأوّل مرّة. و أنتما تجهلان تماما ما معنى أن تنحت جوهرة بالروح لا بمبرد رحى كهربائية. عليك أن تعتّق فهمك للطّبيعة و إلاّ ظلمت بنيّ!.. لكن و لكي لا يتسلّل الكذب إلى ما أقول، لقد تجاوزت الحكاية كأنّي تعثّرت في فردة حذاء، إلاّ أنّ العبارة التي لامست لساني مباشرة و التي لم أقو على قمعها كانت: " كم أنت وحدي بنيّ!"
***
أعلنت المضيفة في مكبّرات الصّوت عن وجوب التحاق المسافرين بالطّائرة المتجهة إلى برلين. انتبه الأب من نعاس تدلّى له رأسه جهة صدره. وقف منهكا، استند بكلتا يديه على فخذيه، فرد ذراعيه و على وجهه ابتسامة وديعة، انبسطت لها تقاسيمه، مُطبقا شفتيه على نحو يوحي بأنّ الأوان قد حان كما هي عادته دائما. قال: يوسف..لا تشغل بالك من ناحيتي. أنا سعيد. سأتسلّى بتعلّم الألمانيّة ريثما تعود..
تكلّم الابن: سامحني أبي..أعرف أّنّك انزعجت كثيرا، كم أتمنّى أن يمّحي من قلبك الأذى الذي ألحقته بك..حين لمحتُ العلبة الحمراء في صندوق السيّارة انتابني شعور بأنّي...
- لا تكمل بنيّ...لا تكمل وانس الأمر...أمّا إن كنتَ مصرّا، فلديّ عرض لك... هناك ورقة دسستها بين أغراضك في الحقيبة البنّيّة.. بإمكانك أن تشتري منّي كلّ ما بدا لك رائعا من جهتي لو أتلفتها دون أن تقرأ حرفا واحدا منها...
تطلّع يوسف إلى أبيه بارتياب ثمّ عطفت ملامحه فجأة نحو سرور غامض.
احتضن الأب ابنه.. طبطب عليه. ثمّ برفق راح يدلّك بأنامله أسفل كتفه حيث من المفترض أن يكون موضع الألم في ظهره هو.
محمد فطومي
تعليق