
*****
الجد يقوم للصلاة..يؤدي تكبيرة الإحرام..غيرآبه،يتعلق الصغير بتلابيب جلبابه الفضفاض؛يحاول إبعاده برفق،لكنه يدور نصف دورة وقد أمسك بطرف ثوبه بقوة ملتويا بين ثناياه مثل عارضة تعيق حركته..فقد الرجل توازنه وكاد أن يتهاوى إلى الأرض لولا أن استدار على التو لاويا عنقه مستندا بإحدى يديه إلى الجدار الطيني..دفعه برفق بعيدا..وما أن جلس للتشهد،حتى عاد الطفل ووجهه يطفح بالبشر،وجدها فرصة للتعلق به بلا أدنى جهد..امتطى ظهره بيسر مطوقا عنقه بيديه..شرع في مداعبة لحيته بوجهه وقد ملأ الجو بضحكاته المعتادة..لم يبال الجد،واستعاد في ذاكرته رواية حمل النبي لأحد الحسنين على ظهره أثناء الصلاة..يقوم من التشهد فيرتفع الصبي في الهواء،مثل عصفور حديث عهد بالطيران،وبعدما انحنى بحذر للركوع،نصف انحناءة،فقد الحفيد توازنه وانفلتت الأصابع الرخوة من عقالها،بعد أن بقي معلقا بجيد الرجل لبضع ثوان،ثم تداعى متهاويا على قنة رأسه فوق السجادة..استجمع شتاته وقد انطلق صراخه في أرجاء المكان..هرولت الأم صوبه وشرارة غضب غير معهود يصفع محياها الممتقع،لكنه أفلت منها بخفة القط وفرهاربا عبر البوابة الرئيسية وصيحته تصم الأذان :بابا..بابا..بابا..*****
نكهة الروائح الشهية لطبق الكسكس المحشو بلحم البقر وأصناف من الخضر تتسلل إلى الجيوب الأنفية للأسرة الصغيرة..أقداح من فخار ممتلئة لبنا تصطف في استدارة فوق مائدة الطعام..يتحلق الجميع حولها بمجرد أن انضمت إليهم شقيقة الصبي القادمة لتوها من الحقول المجاورة..الأم تحاول صرف ابنها المشاغب بعيدا،بعد أن أعدت له آنيته الخاصة،إلا أن الجد أجلسه إلى جواره وقال لزوجة ابنه مطمئنا:"دعيه..فاليوم يوم جمعة،وقد وعدني بالا يحرك ساكنا.."سحبت الأكمام إلى المرافق وانكشفت السواعد..وشرع الجميع في اللقم بتجميع وتكوير حبات الكسكس بحجم كرة المضرب،بواسطة الأكف،في حركات متتابعة من غير حاجة لاستعمال الملاعق،التي كان يرى فيها الحاج بدعة هذا الزمن ويوصي أهله باستعمال اليد،لأن في "استعمالها بركة" كما كان يقول...وكانت اللعبة دوما تستهوي الصبي،فيحاول التكوير على شاكلتهم،لكنه يفشل فتتناثر حبات الكسكس في كل الاتجاهات..يحاول الحاج تلقينه طريق العمل..يعيد الكرة..فيفشل ثانية..تنهره والدته..وعندما حاول إعادة التجربة للمرة الأخيرة انزاحت يده،بفعل حركة لا إرادية،في اتجاه أقداح اللبن فهوت إلى الأرض متناثرة الأجزاء بعد أن تلطخت الوجوه والأردية...هوت الأم بقبضتها الفولاذية على وجه الطفل بعنف..تلقى الضربة وانسل هاربا..كبت قدماه وسقط أرضا..اعتدل منتصبا ثم اندفع صوب المدخل الخارجي يصرخ مستغيثا : بابا..بابا..بابا..*****
صحا الطفل من نومه مبكرا على قوقآت مزعجة لا تنقطع لإحدى الدجاجات التي كانت توشك أن تبيض..فراخها الصغيرة تتعلق بها مشرئبة الأعناق،يسمع أنين كتكتاتها من داخل الخم..أدركت بغريزتها أن مكروها ما لا محالة قد حل بالأم.اندفع الطفل إلى مصدر الصوت مأخوذا بالمشهد الذي طالما استهواه مرارا..أمسك بعصا وشرع يطارد الدجاجة وكتاكيتها،وتباشير الفرح تشع من محياه..امتزجت أصوات السرب الحيواني بصياح الديكة،وبدا المنظر كما لو انه يجري داخل سوق للطيورأوالدجاج..على حين غرة،هرولت الأم في عجالة،وقد استبدت بكيانها نوبة انفعال..انقضت على الطفل تنهال على قفاه بقوة بضربات مؤلمة مؤنبة إياه:" كفى تهريجا أيها المعتوه المشاكس..لقد أزعجتنا وأزعجت جدك المريض..تبا لك.."..انفلت من ربقتها كما القريد وولى هاربا وصياحه يمتزج بصياح الدواجن : بابا..بابا ..بابا..بابا..*****
الحاج إبراهيم ممدد على السرير يشكو ألما ممضا يسري في جسده المعلول..كان يحدق إلى الفراغ بنظرات تائهة يعتريها الذبول..مخافة أن يثير أشجان ذويه وتساؤلات عائديه،يحاول بجلد إخفاء علته بمظهر السليم المعافى من خلال ابتسامة وديعة يوزعها في كل الاتجاهات..اتجه الصبي نحوه ودهشة الطفولة تملأ عينيه..يراه مضطجعا على سريره،على غير عادته كل صبيحة،فيمد إليه ذراعيه الصغيرتين يروم إلى إجلاسه..يلامس خشونة الأصابع المرتعشة معاودا الكرة:- قم..بابا..ألم تستيقظ بعد؟- سوف أنهض يابني ..لا تقلق..- لا..ينبغي أن تقوم الآن..دخلت الأم على التو ودعت ابنها إلى الانصراف:"هيا..اخرج..جدك في حاجة إلى الراحة".تردد الطفل هنيهة..على غير عادته،انزوى هناك بعيدا،بلاحراك،يراقب بنظرات حائرة خطى الرائحين والغادين من الزوار..أدرك بحدسه الطفولي أن ثمة خطبا ما ألم لا محالة بجده..واغلب الظن أنه كان يردد في دخيلته:"بابا بابا بابا"..تلك الكلمة المألوفة..نبراتها كان لها صدى مختلف عما كانت عليه في السابق..لقد عاودته هذه المرة بشعور فيه انكسار،وبنوع من الحسرة والأسى والأمل الضائع.....*****
[/align]
تعليق