صف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرحيم التدلاوي
    أديب وكاتب
    • 18-09-2010
    • 8473

    صف

    لأمر ما أجلسني المعلم في الطاولة الأولى ، و الحال ، أن من يجلس في هذا المكان هم من أبناء السلالة الكريمة. كنت مقابلا بشكل مباشر للجانب الأيسر من السبورة السوداء الممتلئة بنص عن " العلاقة الجدلية بين الطغيان و الفساد " ؛ و كانت قبالتي خارطة بلدي الحبيب ، و إلى جانبي ، و على الطاولة المباركة نفسها ، يجلس تلميذ مسبل الجفنين حتى إنه ليخيل إليك أنه نائم ، لكنه ليس كذلك ، كما أنه ليس من أولئك الذين يجلبون الصواعق، فقد كان وجهه باسما باستمرار ، لا يجعلك محايدا تجاهه ، و لا راغبا في إيذائه ، بل يدفعك دفعا إلى أن تحبه ؛ بخلافي ، إذ كنت أرى وجهي عابسا رغم أنفي و ضد إرادتي ،و رغم أني بذلت الكثير من الجهد لجعله ينشرح ، فالنتيجة كانت الخسران المبين، إذ لم يصر طلقا كما وددت ، و من هنا رأيت أن كل مساعي من أجل هاته الغاية ستفضي إلى الفشل الذريع ، و أنا أدرك ، في قرارة نفسي ، أن بداخلي طفلا بريئا و مرحا ، يعشق اللعب ، و يحب الناس ، و لا ينتظر إلا فرصة الانطلاق للتعبير عن ذاته ، لكن عوائق مجهولة أبت إلا أن تضيق عليه و تبقيه سجين ذاتي المتيبسة. و هذا جعلني أدرك سر عزلتي و فشلي في تكوين أصدقاء دائمين.
    الفصل ضيق ، بجدران رمادية كالحة ، و سقف واطئ يكتم الأنفاس ، و نوافذ لا تحب أشعة الشمس ، تكره النور كما لو برمجت على محبة السواد.

    أنظر إلى المعلم بطرف خفي ، و القلب قد نبتت فيه طيور مبللة ،
    فأجده قصيرا و نحيفا ، بقسمات صارمة ، و عيون تجول في الفصل باستعلاء ، و كأنه عقاب بانتظار فريسة ، يحمل قضيب زيتون للسع الغافلين ،و غير الغافلين ، إلا من رحم ربك . يطلب منا إعراب النص الطويل كهذا الزمن الذي أبى ان ينصرم رفقا بي ، فالشمس لم تبارح مكانها ، أتابع أشعتها بلهفة عساها تبلغ جناح السبورة ، ليعلن الجرس انتهاء الحصة ، لكن الجرس ظل يرن في داخلي محذرا إياي من معبة السقوط في كمين عيني المعلم المتسلط ، و هما تجولان في هذه الحجرة الضيقة و قد ضمت رؤوسا قد أينعت ، كانت بعدد النجوم لا تسمح للهواء بأن يتجدد ، تمنيت لو كانت إحدى نوافذه تطل على حديقة ما ، إذن ، لصار الهواء منعشا ، و لسمعنا أصوات الطيور ، و لتكسر زجاج الغم من قلبي الأسيان ، لكن ، هيهات ، النوافذ لا تطل إلا على الداخل ، لا تجعلك تبصر إلا الحيطان الرمادية.
    كم أكره العربية ، لقد نفرني منها هذا الوغد اللئيم .
    تذكرت تلك المعلمة الجميلة التي درستني أول ما التحقت بالمدرسة ، و هي تسألنا بصوتها الناعم كالحرير على إيقاع خطواتها الراقصة و هي تجوب القسم ؛ توزع علينا ابتسامتها العذبة بالتساوي ، ماذا نريد أن نكون في المستقبل ؟
    لا أريد أن أكون لا طبيبا و لا مهندسا و لادركيا حتى ، أريد أن أصاحب أبي إلى حقله ، أغرس الأشجار و أحرث الأرض مثله، فذلك يشعرني بالمتعة و الفائدة.
    ما كان يرعبني ، أن يشر إلي بأصبعه التي تشبه رمحا مسننا ، و يقول :
    أنت ، ما إعراب هذه الجملة ؟
    لو فعل لكنت بللت سروالي ! و هو بالمناسبة ، سروال خيط لي من ثوب أحد جلابيب أبي القديمة.
    انصرفت إلى الخريطة ألاعب صديقي و يلاعبني ، و نحن نطرح بيننا بصمت أسئلة حول معالم الخريطة و ما تحويه من أسرار ، حذرين من أن يكشفنا المعلم ، و كنت أدعو الله أن يصيرني غير مرئي ، أو على الأقل ، كالسمسمة ، حتى أتلذذ بمعرفة دقائق وطني ، و أعرف مكان أرض أبي..و بمجرد ما دق الجرس وجدت نفسي قد جمعت أدواتي بسرعة و انسللت هاربا من سطوة القضيب الحاد؛ انطلقت ثملا فلم أهتم لا باصطدامي بالباب ، و لا بسخرية التلاميذ.
    حين بلغت الشارع شعرت بتحسن كبير ، و بانتعاش ، جعلاني أرقص فرحا ، و أمشي مرحا لا لخرق الأرض و لا لبلوغ الجبال طولا، و لكن للتعبير عن خلاصي من بسطة رجل أظنه يعشق تعذيب الأطفال.
    في الطريق أبصرت أناسا فزعين ، تبدو على بعضهم أمارات الخوف ، و البعض منهم كان يصرخ هلعا . أطلقت ضحكة عالية الصوت لما تبينت السبب. فأر ضخم كان يجوب المكان باعتزاز ..
    جريت نحوه ،

    و قد تمثل لي وجها أعرفه ، و بقذفة من رجلي ، المنتعلة لحذاء بلاستيكي ، لا يأتيها إلا أمهر لاعبي كرة القدم ، طوحت به عاليا ، فارتطم بجدار مخفر شرطة ، ثم سقط أرضا . انتفض قليلا ثم أسلم الروح.
    لم أبال بنظرات الناس ، تابعت مرحي و طريقي ،لا أبغي إلا الوصول إلى منزلنا لأنام و أستريح ، و بذا ، أتخلص من كابوس المدرسة.
  • محمد الشرادي
    أديب وكاتب
    • 24-04-2013
    • 651

    #2
    أهلا أخي عبد الرحيم
    المدرسة سجن بأسوار عالية...و زمنها ثقيل كالرصاص...و فضاؤها باعث عن السأم...و معلمها جلاد لا يرحم. مواصفات لا تليق إلا بفزاعة تثير الرعب في قلوب العصافير فتولي عنها هاربة. لقد وصفت مشاعر التلميذ بكل دقة، و وصفت المدرسة بكل الأوصاف اللائقة بها.
    تحياتي

    تعليق

    • بسباس عبدالرزاق
      أديب وكاتب
      • 01-09-2012
      • 2008

      #3
      ذكرتني في الحذاء البلاستيكي الذي نسميه السوبر فوحة و معناه أن رائحتة قوية جدا

      القصة حاولت فيها معالجة قضية التدريس المتبلد و المقيد لروح الطفل
      فعوض تحريره أكثر و إطلاق طاقاته و تنظيم نشاطاته و تهذيب ذوقه

      نقوم بقتله و استنساخ طفل مشوه الداخل

      عهدي بك مبدع و كاتب كبير و ما زلت كذلك أستاذي عبدالرحيم
      السؤال مصباح عنيد
      لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        القراءة لك عبد الرحيم صديقي متعة
        و قد استمتعت كثيرا .. و جدا

        محبتي
        sigpic

        تعليق

        • عبدالرحيم التدلاوي
          أديب وكاتب
          • 18-09-2010
          • 8473

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة محمد الشرادي مشاهدة المشاركة
          أهلا أخي عبد الرحيم
          المدرسة سجن بأسوار عالية...و زمنها ثقيل كالرصاص...و فضاؤها باعث عن السأم...و معلمها جلاد لا يرحم. مواصفات لا تليق إلا بفزاعة تثير الرعب في قلوب العصافير فتولي عنها هاربة. لقد وصفت مشاعر التلميذ بكل دقة، و وصفت المدرسة بكل الأوصاف اللائقة بها.
          تحياتي
          أخي الغالي ، السي محمد الشرادي
          نحن معا نشتغل في حقل التعليم ، و ندرك أن المدرسة تسير باتجاه التغيير ، تغيير المعادلة من عنف تجاه المتعلم إلى عنف تجاه المعلم.
          و يا للسخرية ، عانيت من الأولى ، و عانيت من الثانية ، و كأن قدري أن أكون هدف العنف بامتياز، جالب صواعق ، يعني. ههههه
          أشبعني معلم القسم الثاني ضربا ، فقط لأني تغيبت يوم عودة أبي من الحج.
          أشبعتني معلمة الرابع ضربا لأنه تعذر علي جدول الضرب.
          كرهت المدرسة ، و كنت على وشك مغادرتها.
          شكرا لك على تعليقك العميق.
          مودتي

          تعليق

          • عبدالرحيم التدلاوي
            أديب وكاتب
            • 18-09-2010
            • 8473

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة بسباس عبدالرزاق مشاهدة المشاركة
            ذكرتني في الحذاء البلاستيكي الذي نسميه السوبر فوحة و معناه أن رائحتة قوية جداالقصة حاولت فيها معالجة قضية التدريس المتبلد و المقيد لروح الطفلفعوض تحريره أكثر و إطلاق طاقاته و تنظيم نشاطاته و تهذيب ذوقهنقوم بقتله و استنساخ طفل مشوه الداخلعهدي بك مبدع و كاتب كبير و ما زلت كذلك أستاذي عبدالرحيم
            أخي البهي ، بسباسأشكرك من أعماق قلبي على ثقتك بي ، أرجو أن أظل عند حسن ظنك.هي الفواحة التي كنت أنتعلها ، و كنت أظن نفسي محظوظا ، فرغم رائحتها كانت تساعدني على تسجيل الأهداف.صدقت ، تعليم ممل ، يقتل الرغبة و يعطل الموهبة و يقتل التفكير ، يتغير لكن ببطء.مودتي

            تعليق

            • عبدالرحيم التدلاوي
              أديب وكاتب
              • 18-09-2010
              • 8473

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
              القراءة لك عبد الرحيم صديقي متعة
              و قد استمتعت كثيرا .. و جدا

              محبتي
              أستاذي الراقي ، ربيع
              أشكرك حار الشكر على تشجيعاتك الدائمة ، و دعمك المستمر .
              أشكرك ثانية و دائما على مساعداتك القيمة و توجيهاتك السديدة.
              شرف لي أن تنال نصوصي رضاك.
              بوركت.
              محبتي و عظيم امتناني.

              تعليق

              • ادريس الحديدوي
                أديب وكاتب
                • 06-10-2013
                • 962

                #8
                نص رائع وجميل .. و أنا أقرأ أبتسم وكأنني أعيش القصة فعلا
                كنت جميلا هنا أخي عبد الرحيم
                مودتي و تقديري لقلم بارع
                ما أجمل أن يبتسم القلم..و ما أروعه عندما تنير سطوره الدرب..!!

                تعليق

                • عبدالرحيم التدلاوي
                  أديب وكاتب
                  • 18-09-2010
                  • 8473

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة ادريس الحديدوي مشاهدة المشاركة
                  نص رائع وجميل .. و أنا أقرأ أبتسم وكأنني أعيش القصة فعلا
                  كنت جميلا هنا أخي عبد الرحيم
                  مودتي و تقديري لقلم بارع
                  أخي البهي ، سي إدريس
                  شكرا لك على جمال تعليقك و طيب تشجيعك.
                  بوركت.
                  مودتي

                  تعليق

                  • زكرياء قانت
                    أديب وكاتب
                    • 24-02-2013
                    • 120

                    #10
                    إستمتعت أشد الإستمتاع بقراءة نصك دمت مبدعا
                    الاختلاف أنت و ما تكتب لا ما أنت عليه

                    تعليق

                    • عبدالرحيم التدلاوي
                      أديب وكاتب
                      • 18-09-2010
                      • 8473

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة زكرياء قانت مشاهدة المشاركة
                      إستمتعت أشد الإستمتاع بقراءة نصك دمت مبدعا
                      شكرا لك أخي العزيز ، زكرياء ، سعيد برضاك و استمتاعك.
                      مودتي

                      تعليق

                      • عاشقة الادب
                        أديب وكاتب
                        • 16-11-2013
                        • 240

                        #12
                        تدري كنت اول من قرأ النص
                        لم اتمكن من الرد ..
                        ربما لم ارد لانك خنقت انفاسي في الحجرة داتها التي لا ازال ارتادها
                        فكل شئ يذكرني بمعاناتنا مع عقول متحجرة لاترا فينا الا عبئ ثقيل
                        قتلت الحلم فينا بكلماتها المتقنة التي تقتلنا كل شئ فينا
                        ابدعت
                        لن ازيد

                        تعليق

                        • حسن لختام
                          أديب وكاتب
                          • 26-08-2011
                          • 2603

                          #13
                          حضر القص هنا، ومتعة القراءة. ههههه راقت لي جدا نهاية النص الساخرة والمعبرة
                          فعلا قص ممتع وشيّق ..لغة سلسلة منسابة، ووصف دقيق ومكثف.استمتعت هنا، شكرا لك
                          محبتي وتقديري، أيها العزيز

                          تعليق

                          • عبدالرحيم التدلاوي
                            أديب وكاتب
                            • 18-09-2010
                            • 8473

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة عاشقة الادب مشاهدة المشاركة
                            تدري كنت اول من قرأ النص
                            لم اتمكن من الرد ..
                            ربما لم ارد لانك خنقت انفاسي في الحجرة داتها التي لا ازال ارتادها
                            فكل شئ يذكرني بمعاناتنا مع عقول متحجرة لاترا فينا الا عبئ ثقيل
                            قتلت الحلم فينا بكلماتها المتقنة التي تقتلنا كل شئ فينا
                            ابدعت
                            لن ازيد
                            أختي القديرة ، عاشقة الأدب
                            أشكرك على تناولك القيم.
                            عشت سنوات رعب في الابتدائي ، و الحمد لله ، بقيت في نفسي ندوب.
                            مودتي

                            تعليق

                            • عبدالرحيم التدلاوي
                              أديب وكاتب
                              • 18-09-2010
                              • 8473

                              #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة حسن لختام مشاهدة المشاركة
                              حضر القص هنا، ومتعة القراءة. ههههه راقت لي جدا نهاية النص الساخرة والمعبرة
                              فعلا قص ممتع وشيّق ..لغة سلسلة منسابة، ووصف دقيق ومكثف.استمتعت هنا، شكرا لك
                              محبتي وتقديري، أيها العزيز
                              أخي الغالي ، سي حسن لختام
                              أشكرك على تعليقك السديد ، و تفاعلك العميق ، و إشادتك المحفزة.
                              محبتي

                              تعليق

                              يعمل...
                              X