عفوا أيها الروتين
قصة قصيرة للأديب ( محمد محمود شعبان )
هذه هي المرة الثانية التي تحضر فيها لهذه المكان الذي يعج بالجمهور .. تقترب من مكتبه الذي شاخ وتهالكت جوانبه في هذه الغرفة العتيقة ذات الأرضية الخشبية التي تئط تحت الأقدام بنوافذها الزجاجية الباهتة ، وضوئها الغائم المُعمي .. تقترب منه هذه المرة بخطى ثابتة واثقة .. لكن .. غريبة ... هذه المرة يقابلها بابتسامة عريضة على عكس المرة السابقة والتي رسمت على وجهه ابتسامة صفراء وأنطقت على لسانه ردودا جافة كانت العبارة الوحيدة على لسانه ، وقبل أن تتحدث بأي كلمة : لا يمكن .. لا يمكن .
.
هذه المرة يقف لها .. يكاد ينخلع من خلف مكتبه .. يمد يده مصافحا .. يتناول منها الملف ودون أن تنبس ببنت شفه ينهي لها كل الإجراءات بسرعة لم تعتدْها من موظف حكومي يعكف على لائحة ستينية أكل الدهر عليها وشرب ... طلب منها ـ مغلفا طلبه باعتذار ـ أن تنتظر على هذا الكرسي ذي الثلاثة أرجل المرتكز في زاوية الغرفة ، فلا يوجد غيره .
:ـ يا سعيد ـ ينادي حاجب المكتب ـ ابحث لي ـ يا بني ـ عن كرسي للـسيدة هنا .. أحرجتمونا أمام الخلق .. ، وهي تقول :ـ لا عليك .. الخدمة الوحيدة التي أريدها أن تنهي لي طلبي .
:ـ حالا ـ يا سيدتي ـ .. لا تقلقي .. حالا .
.
في المرة الأولى كانت كلها أمل في أن ينهي لها إجراءات النقل.. وهي ترجوه أن يسرع ؛ لتلحق بزوجها حيث مقر عمله الجديد والذي كان ينتظرها فيه بفارغ الصبر فقد كانا عروسين جديدين ، لكنه عقــَّد لها الأمور ، بل أوقفها بحجة الروتين وعدم وجود من يحل محلها حتى اضطرت إلى إلغاء فكرة السفر ؛ ليسافر زوجها بمفرده لهذه المحافظة البعيدة ...
.
في الفترة الأخيرة ، و قبل أن يتزوج بغيرها .. أكثر من الاتصال بها .. يتحايل حينا ويأمرها حينا بأن تستقيل من عملها أو تأخذ إجازة بدون راتب ، لكنها لم تستجب لصعوبة كلا الأمرين عليها ، فالعمل كان جزءا من شخصيتها والتي لم تتصور حياتها بدونه ، فلم يكن يناسبها سوي الانتقال معه لتعمل لدى فرع الشركة بتلك المحافظة ، وأمام رفضها ، وبسبب وحدته القاتلة هناك ، وكذلك ضغوط أمه عليه بأن العمر يجري ، وسنه التي لم تعد صغيرة ، وأنها تريد أن تفرح بأولاده قبل أن تموت .. أمام كل ذلك لم يجد بدا من تطليقها ، ثم الزواج بأخرى ، والتي لم يعقها شيء في السفر معه والإقامة حيث أراد .
.
كان القرار صعبا عليها لا سيما وأن الإنسان الذي أحبته ، ثم تزوجته ، ثم انفصلت عنه كانت قد عاشت معه قصة حب منذ أول سنة لها بالجامعة ، ولم تتخيل يوما أن يفترقا على هذا النحو .. رغم أنهما تواعدا ألا يفرق بينهما شيء إلا الموت .. كان أكبر منها سنا عندما تعرف إليها بالكلية ، كان بالفرقة الرابعة وهي بالفرقة الأولى ، وما زالا يخططان مستقبلهما حتى حدث ما حدث .
.
ما زالت تجلس تنتظر على هذا الكرسي الكسيح المرتكز في زاوية الغرفة المعتمة في هذا المبني الحكومي الذي عفا عليه الزمن ريثما ينهي لها هذا الموظف ـ دون تعقيد هذه المرة ـ كل الإجراءات وقد أحضر لها كوبا من الليمون المثلج بعدما شربت لتوها علبة ( كنز ) ، وهو يستأذنها في إحضار فنجان قهوة ، كما أنه أمر حاجبه الخاص ألا يدخل أحدا الآن من الجمهور حتى ينهي طلب السيدة ... كانت تعلم علاقته القوية بمديرها بالشركة ، وأنه يخبره بكل صغيرة وكبيرة تحدث هنا بالإدارة التي تتبعها الشركة ، ولا يحضر أحد من موظفي الشركة إلى هنا إلا ويخبره بما يريد فينجز لهذا طلبا ويوقف لهذا آخر ، ومع ذلك حضرت المرة الأولى وبحسن نية قدمت طلب نقلها و الذي رفضه بالطبع بعدما أجرى اتصالا هاتفيا بصديقه ومديرها بالشركة .
.
لكن هذه المرة لم يتصل بمديرها بالشركة ولم يؤزِّم لها الإجراءات ولم يتعلل بالروتين أو غيره ، مع أن الطلب هو الطلب ( طلب نقل للعمل بفرع الشركة بمحافظة أخرى ) ... فقط .. قد سبقتها الأخبار بأن زوجها الجديد هو ( ضابط شرطة ) .
===================
قصة قصيرة للأديب ( محمد محمود شعبان )
هذه هي المرة الثانية التي تحضر فيها لهذه المكان الذي يعج بالجمهور .. تقترب من مكتبه الذي شاخ وتهالكت جوانبه في هذه الغرفة العتيقة ذات الأرضية الخشبية التي تئط تحت الأقدام بنوافذها الزجاجية الباهتة ، وضوئها الغائم المُعمي .. تقترب منه هذه المرة بخطى ثابتة واثقة .. لكن .. غريبة ... هذه المرة يقابلها بابتسامة عريضة على عكس المرة السابقة والتي رسمت على وجهه ابتسامة صفراء وأنطقت على لسانه ردودا جافة كانت العبارة الوحيدة على لسانه ، وقبل أن تتحدث بأي كلمة : لا يمكن .. لا يمكن .
.
هذه المرة يقف لها .. يكاد ينخلع من خلف مكتبه .. يمد يده مصافحا .. يتناول منها الملف ودون أن تنبس ببنت شفه ينهي لها كل الإجراءات بسرعة لم تعتدْها من موظف حكومي يعكف على لائحة ستينية أكل الدهر عليها وشرب ... طلب منها ـ مغلفا طلبه باعتذار ـ أن تنتظر على هذا الكرسي ذي الثلاثة أرجل المرتكز في زاوية الغرفة ، فلا يوجد غيره .
:ـ يا سعيد ـ ينادي حاجب المكتب ـ ابحث لي ـ يا بني ـ عن كرسي للـسيدة هنا .. أحرجتمونا أمام الخلق .. ، وهي تقول :ـ لا عليك .. الخدمة الوحيدة التي أريدها أن تنهي لي طلبي .
:ـ حالا ـ يا سيدتي ـ .. لا تقلقي .. حالا .
.
في المرة الأولى كانت كلها أمل في أن ينهي لها إجراءات النقل.. وهي ترجوه أن يسرع ؛ لتلحق بزوجها حيث مقر عمله الجديد والذي كان ينتظرها فيه بفارغ الصبر فقد كانا عروسين جديدين ، لكنه عقــَّد لها الأمور ، بل أوقفها بحجة الروتين وعدم وجود من يحل محلها حتى اضطرت إلى إلغاء فكرة السفر ؛ ليسافر زوجها بمفرده لهذه المحافظة البعيدة ...
.
في الفترة الأخيرة ، و قبل أن يتزوج بغيرها .. أكثر من الاتصال بها .. يتحايل حينا ويأمرها حينا بأن تستقيل من عملها أو تأخذ إجازة بدون راتب ، لكنها لم تستجب لصعوبة كلا الأمرين عليها ، فالعمل كان جزءا من شخصيتها والتي لم تتصور حياتها بدونه ، فلم يكن يناسبها سوي الانتقال معه لتعمل لدى فرع الشركة بتلك المحافظة ، وأمام رفضها ، وبسبب وحدته القاتلة هناك ، وكذلك ضغوط أمه عليه بأن العمر يجري ، وسنه التي لم تعد صغيرة ، وأنها تريد أن تفرح بأولاده قبل أن تموت .. أمام كل ذلك لم يجد بدا من تطليقها ، ثم الزواج بأخرى ، والتي لم يعقها شيء في السفر معه والإقامة حيث أراد .
.
كان القرار صعبا عليها لا سيما وأن الإنسان الذي أحبته ، ثم تزوجته ، ثم انفصلت عنه كانت قد عاشت معه قصة حب منذ أول سنة لها بالجامعة ، ولم تتخيل يوما أن يفترقا على هذا النحو .. رغم أنهما تواعدا ألا يفرق بينهما شيء إلا الموت .. كان أكبر منها سنا عندما تعرف إليها بالكلية ، كان بالفرقة الرابعة وهي بالفرقة الأولى ، وما زالا يخططان مستقبلهما حتى حدث ما حدث .
.
ما زالت تجلس تنتظر على هذا الكرسي الكسيح المرتكز في زاوية الغرفة المعتمة في هذا المبني الحكومي الذي عفا عليه الزمن ريثما ينهي لها هذا الموظف ـ دون تعقيد هذه المرة ـ كل الإجراءات وقد أحضر لها كوبا من الليمون المثلج بعدما شربت لتوها علبة ( كنز ) ، وهو يستأذنها في إحضار فنجان قهوة ، كما أنه أمر حاجبه الخاص ألا يدخل أحدا الآن من الجمهور حتى ينهي طلب السيدة ... كانت تعلم علاقته القوية بمديرها بالشركة ، وأنه يخبره بكل صغيرة وكبيرة تحدث هنا بالإدارة التي تتبعها الشركة ، ولا يحضر أحد من موظفي الشركة إلى هنا إلا ويخبره بما يريد فينجز لهذا طلبا ويوقف لهذا آخر ، ومع ذلك حضرت المرة الأولى وبحسن نية قدمت طلب نقلها و الذي رفضه بالطبع بعدما أجرى اتصالا هاتفيا بصديقه ومديرها بالشركة .
.
لكن هذه المرة لم يتصل بمديرها بالشركة ولم يؤزِّم لها الإجراءات ولم يتعلل بالروتين أو غيره ، مع أن الطلب هو الطلب ( طلب نقل للعمل بفرع الشركة بمحافظة أخرى ) ... فقط .. قد سبقتها الأخبار بأن زوجها الجديد هو ( ضابط شرطة ) .
===================
تعليق