ورودٌ في تربـةٍ مـالحــة
لم يكن صوتُه أقل إيلاماً من ملامحه التي غابت تحت وطأة الغبار،ودكنة أسدلتها عيونُ الشمس القاسية،
كما هي القلوب التي تحجّرت في بلادي..
راح صوتُه يجوب الساحةَ الواسعةَ،بينما تسمَّرَ جسده الغضُ في مكانه،فهو لايقوى على التدافع كما يفعل رفاقه
الأكبر سناً في استجداء العابرين ليشتروا خبزَهم وقد تكدس فوق رؤوسهم الصغيرة،،غير آبهين برصاصة عمياء أو قذيفة رعناء!!
سبقني نظري إليه؛ فتقدم نحوي ،ليسند جسده الرقيق على السيارة قائلا في رجاء:
-اشتري مني أرجوكِ؛ ثلاث ربطات بمئة ليرة، إنها طازجة اشتريتها للتو من الفرن..أمانة عليك أن تأخذيها مني..اشتري مني..
لم أتردّدْ لحظة في وضع النقود بيده وتناول الربطة ، ومضيت سريعا أحبس غصّة ودمعة..دون أن يبرح صوتُه مسامعي..
-ربنا يرزقكِ ويوفقكِ..
إحساس يراودني بأن المسافات باتت تتغير، وتطول كل يوم أكثر..!!
هل هرم الزمانُ وتعب من الدوران، فتثاقلت خطواتُه وتباطأت أوقاتُه.
أم أن الحزنَ قد توسدّه، كحبات قلوب الأمهات في وطني..
ليته يتوقف.. أو يعود للوراء؛إنها أمنيتنا جميعاً..أن يعود الزمن إلى عهد كان..وياماكان..
علي أن أعودَ إلى البيت بسرعة؛ فقد تعبت من التفكير، وأنا أجتاز الطريق نفسه ،الذي لم تزل تفاصيلُه
تبعثرني أشلاء متناثرة على جانبي رصيفه المهترئ،وبيوته المترامية والمتكئة على بعضها،في محاولة للنهوض ،
ترفض السقوط هي الأخرى،كدمعة ذلك الطفل الذي ناولني الخبز ،وفي عيونه استجداء لأشياء
لم أعد أملكها في زمن الفقد..
لماذا..كيف..ومتى؟!!أسئلة كثيرة تطرق ذاكرتي المتلبدة بغيوم الألم ؛دون العثور على إجابة شافية..
وصلتُ منزلي وسوادُ الحزن يكحّل عينيّ الغارقتين في بحيرة من الحيرة..
تناولتُ كسرةَ خبزٍ أُسكت فيها عصافيرَ معدة خاوية إلامن مرارة ألم ، وعصارة حزن !!.
هبّت من الكيس الممزق فجأةً رائحةُ العفن المتراكم على الأرغفة الساخنة من حرارة التفاعل الناشر للحرارة كما تعلمنا..
تجمدت الدمعة في عيوني..وبدأت أطوي الخبزَ وماتبقى من أمل في براعم تشوهت ذاكرتها ،
وغاب عطرُها في زمن الحرب.. !!
هل كان الطفل يخدعُني ، ويستغلُّ إنسانيتي ومشاعري..!! أم علموه هذا ، وأتقن الدرس ؟!!
هل خلعت البراءة ثوبها وسقطت في مستنقع الشر..!!
و السؤال لمّا يزل يتكرر وينخر ذاكرتي أكثر..لماذا..كيف..ومتى؟!..
أسئلة حول نفسها تدور كالأرض، كسحابات الأماني غير الماطرة في زمن الجدب..
سمر عيد
دمشق 16/6/2014
تعليق