ترنيمات الوجع في رواية(زينة)
للسيد حنفي
((قراءة نقدية))
عندما شرعت بقراءة (زينة)، ذلك النص الأدبي ــ الذي يمكن أن يدرج تحت لائحة الرواية إذا أخذنا بفكرة الأجناس الأدبية ــ كدتُ أهرع لاغتسال جسدي من درن الملح الذي أحسست به عالقا في بقايا جسدي، وكنت أحس برائحة الملح الذي يشمه (رحّال) وهو يروي الأحداث، كما كنت أعيش مع فؤاد في حضن(العائلة الكبيرة) وهي ترقد بين أحضان الجبل الفريد في شكله وارتفاعه، وكنت أحس بأغصان الأشجار فوق رأسي وأنواع الأزهار تحيطني، بل خيل لي أنني سمعت سقسقات العصافير وتغريد البلابل وهديل الطيور، ولم أكن أغالط نفسي عندما تعاطفتُ مع (زينة) وهي تبحث عن شاعرها الذي لم تجده.
هذه هي الشخصيات الثلاث الرئيسة لعمل السيد حنفي:
(رحّال) الذي يروي الأحداث من زاوية نظره هو، وقد عاش في بلاد الملح حيث الظلام يحيط بالمكان من كل جانب، وحيث العمل المستمر بالملح، والرقابة التي تطوقه وتشل حركته، يستغل الفرصة(ليفرّ) و(بإرادته) إلى عالم آخر بحثا عن الشمس والحرية، ولكنه يصطدم بعالم أكثر وحشية من عالمه، عالم ملئ بالقتل والدمار تحت مسميات كثر.
(فؤاد) الذي عاش في حضن العائلة الكبيرة، يحاول أن يغيّر الواقع، فهو يعشق زينة، ويريد أن يستأثر بها لنفسه دون سواه، ولأن هذا منافيا لتقاليد العائلة فكان لابدَّ من معاقبته، لذا فإن كبير العائلة (الحكيم) أمر بعقوبته، وهكذا صدرت العقوبة الأولى بحقه، السجن بين قضبان البوص والأشواك، ثم ــ لأنه لم يتب بصدق ــ صدرت العقوبة الثانية بحقه وكانت هذه المرة الصلب على قارب التغريبة ويأتي صوت الحكيم مخاطبا: ((إن نجوت من الغرق تستطيع أن تعيش مع آكلي اللحوم الذين يرتدون ملابس بها الكثير من الجيوب لاكتناز المزيد من كل شيء)) وهكذا يبحر به قارب التغريبة (ليُقصى) عن بلاده ــ إن نجا من الغرق ـــ رغما عنه.
(زينة) التي عاشت العوالم المختلفة وتزوجت من سعيد الجنوبي (فرّتْ) هي الأخرى لتلتحق بعالم (الانتهاء المر)، وقبل ذا مارست حبها مع شاعرها الأول(فؤاد) وحبها مع شاعرها الثاني(رحّال) وحبها مع شاعرها الثالث(الآخر) وهو آخر عشاقها، لقد أحبت الأخير(الآخر)، وركعت تحت قدميه لتغسلهما ثم ما لبثت أن ركبت قطارها ورحلت لأنها لم تجد فيه ضالتها كما الآخرون الذين لم تجد فيهم ضالتها، فما كان منه إلا أن ركب قطارا وهمياً ليلتحق بـ(نبع الهذيان) أو(مملكة الأكفان المعلقة) كما يصفه رحّال وهو مسرح أحداث الرواية الذي تسميه زينة بـ(الانتهاء المر)0
من العبارة الأولى ــ في الرواية ــ يستكشف القارئ مكان الأحداث، ذلك العالم الصحراوي الخالي من الملامح وكل ما فيه يشير إلى ما يشبه عالم البرزخ الذي ينتقل فيه الأموات إلى عالم وسط قبل دخولهم إلى عالم الآخرة. ((يمتد الطريق أكثر مما ينبغي للمرء أن يسير فيه .. رمز بغيض للرحيل، ولا ينتهي عليه الترحال)).
وهنا علينا ــ كقراء ــ أن نتساءل:
أي طريق ذلك الذي يمتد أكثر مما ينبغي؟؟
لِم عبارة (يسير فيه) ولا (يمشي فيه)؟؟
هذا الطريق الذي يمتد أكثر مما ينبغي.. لِم يكون رمزا بغيضا للرحيل؟؟
ما تلك السرمدية التي تجعل الترحال لا ينتهي على ذلك الطريق؟؟
هذه التساؤلات ستخطر في ذهن القارئ من أول سطر يطالعه، ومثلها كثير من التساؤلات على امتداد الرواية ستقفز إلى مخيلة القارئ وتطالبه بأجوبة محددة، ربما سيعثر على بعضها وربما لا يعثر على بعضها الآخر. كل شخصيات الرواية بلا ملامح، معذبة بهواجسها وآلمها وهذه العذابات ما هي إلا نتيجة تراكمات المجتمع الذي يحاولون الفرار منه، مرة بإرادتهم ومرات رغما عنهم، فشخصيات الرواية الرئيسة تبحث عن المجتمع المثالي, لأنها شخصيات مثقفة، واعية، مدركة للحياة. شعراء يعشقون زينة، ولكنهم يتخبطون في عشقهم ولا يعرفون السبيل الصحيح للوصول إلى قلبها، وكل ذلك بسبب المجتمع الذي يعيشون فيه. زينة هي الأخرى تعشق الشعراء ولكنها لم تستطع أن تقنع قلبها بعشق أحدهم، ولهذا لم تستطع ــ كما لم يستطع عشاقها الشعراء ـــ أن توفق بالوصال مع أحدهم، فما كان منها إلا أن تشق طريقها إلى عالم(الانتهاء المر) كما يلذ لها أن تسميه، وهذا عينه ما حصل مع عشاقها (رحّال) و(فؤاد) و(الآخر) الذين شقوا طريقهم إلى عالم (مملكة الأكفان المعلقة)، والتحق الجميع بعالم(نبع الهذيان) حتى من دون أن يحملوا ملامحهم. فالشاعر في الرواية يشير بما لا يقبل الشك إلى(المثقف العربي) الذي يكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما هارب من المجتمع وإما مطرود منه وهو بين هذا وذاك يتخبط بآلامه وهمومه. (زينة) رواية فكرية كما هي في الوقت ذاته رواية أحداث، كُتبتْ بلغة واحدة وتوزعتْ على شخوصها دونما فوارق ثقافية في الحوار ويبدو أن مرد ذلك لسببين:
الأول: أن زينة وعشاقها جميعا من الشعراء المثقفين.
الثاني: أن لغة الرواية لغة شعرية خالصة مما لا يسمح لها إلا أن تكون لغة راقية تليق بلغة الشعر.
يستطيع القارئ أن يقف في الرواية أيضا على المجتمعات المختلفة عَبْرَ التاريخ، وأن يلمس السياسة وأثرها المحوري في تحريك المجتمع وناسه، كما يمكنه الوقوف على الأديان السماوية وغير السماوية فيها. اعترت الرواية بعض الأخطاء المطبعية والنحوية واللغوية، مثل (شفتي الغليظتان) و(عينيَّ المستديرتان) و(يهديهم وترا مفرد) و(البعض) مع (ال التعريف) و(الغانية) التي تكررت مرات عدة وكان يعني بها (الزانية)؛ لأن الغانية التي تستغني بجمالها عن الزينة، و(بدء الوهن) وكان يقصد(بدأ) ومع هذا فإن هذه الأخطاء وغيرها لا تساوي شيئا أمام هذا الإبداع وهذا الإتقان من السيد حنفي الذي أدعوه إلى المزيد من الإبداع في عالم الأدب. وأخيرا يحق لي أن أدعو القراء إلى الاستمتاع بهذه الترنيمات التي عزفها السيد حنفي، كما سأسمح لنفسي بدعوة المثقفين والمهتمين بالأدب والنقاد خاصة إلى إعادة النظر في قراءة هذه الترنيمات ومحاولة فك بعض مغاليقها وربط بعض أجزائها للقارئ؛ لأننا أمام ثلاث روايات قصيرة جُمعتْ في رواية واحدة متكاملة النسج والصياغة، رواية(رحّال) ورواية(فؤاد) ورواية(زينة)، جمعتها الأخيرة(زينة) بخيط واحد، جميل ومتين، فصارت ــ بحق ــ عملا أدبيا ذا جهد كبير، وإتقان واضح، وبالنتيجة الحتمية فإن العمل يستحق القراءة والتأمل.
سعد هاشم الطائي
للسيد حنفي
((قراءة نقدية))
عندما شرعت بقراءة (زينة)، ذلك النص الأدبي ــ الذي يمكن أن يدرج تحت لائحة الرواية إذا أخذنا بفكرة الأجناس الأدبية ــ كدتُ أهرع لاغتسال جسدي من درن الملح الذي أحسست به عالقا في بقايا جسدي، وكنت أحس برائحة الملح الذي يشمه (رحّال) وهو يروي الأحداث، كما كنت أعيش مع فؤاد في حضن(العائلة الكبيرة) وهي ترقد بين أحضان الجبل الفريد في شكله وارتفاعه، وكنت أحس بأغصان الأشجار فوق رأسي وأنواع الأزهار تحيطني، بل خيل لي أنني سمعت سقسقات العصافير وتغريد البلابل وهديل الطيور، ولم أكن أغالط نفسي عندما تعاطفتُ مع (زينة) وهي تبحث عن شاعرها الذي لم تجده.
هذه هي الشخصيات الثلاث الرئيسة لعمل السيد حنفي:
(رحّال) الذي يروي الأحداث من زاوية نظره هو، وقد عاش في بلاد الملح حيث الظلام يحيط بالمكان من كل جانب، وحيث العمل المستمر بالملح، والرقابة التي تطوقه وتشل حركته، يستغل الفرصة(ليفرّ) و(بإرادته) إلى عالم آخر بحثا عن الشمس والحرية، ولكنه يصطدم بعالم أكثر وحشية من عالمه، عالم ملئ بالقتل والدمار تحت مسميات كثر.
(فؤاد) الذي عاش في حضن العائلة الكبيرة، يحاول أن يغيّر الواقع، فهو يعشق زينة، ويريد أن يستأثر بها لنفسه دون سواه، ولأن هذا منافيا لتقاليد العائلة فكان لابدَّ من معاقبته، لذا فإن كبير العائلة (الحكيم) أمر بعقوبته، وهكذا صدرت العقوبة الأولى بحقه، السجن بين قضبان البوص والأشواك، ثم ــ لأنه لم يتب بصدق ــ صدرت العقوبة الثانية بحقه وكانت هذه المرة الصلب على قارب التغريبة ويأتي صوت الحكيم مخاطبا: ((إن نجوت من الغرق تستطيع أن تعيش مع آكلي اللحوم الذين يرتدون ملابس بها الكثير من الجيوب لاكتناز المزيد من كل شيء)) وهكذا يبحر به قارب التغريبة (ليُقصى) عن بلاده ــ إن نجا من الغرق ـــ رغما عنه.
(زينة) التي عاشت العوالم المختلفة وتزوجت من سعيد الجنوبي (فرّتْ) هي الأخرى لتلتحق بعالم (الانتهاء المر)، وقبل ذا مارست حبها مع شاعرها الأول(فؤاد) وحبها مع شاعرها الثاني(رحّال) وحبها مع شاعرها الثالث(الآخر) وهو آخر عشاقها، لقد أحبت الأخير(الآخر)، وركعت تحت قدميه لتغسلهما ثم ما لبثت أن ركبت قطارها ورحلت لأنها لم تجد فيه ضالتها كما الآخرون الذين لم تجد فيهم ضالتها، فما كان منه إلا أن ركب قطارا وهمياً ليلتحق بـ(نبع الهذيان) أو(مملكة الأكفان المعلقة) كما يصفه رحّال وهو مسرح أحداث الرواية الذي تسميه زينة بـ(الانتهاء المر)0
من العبارة الأولى ــ في الرواية ــ يستكشف القارئ مكان الأحداث، ذلك العالم الصحراوي الخالي من الملامح وكل ما فيه يشير إلى ما يشبه عالم البرزخ الذي ينتقل فيه الأموات إلى عالم وسط قبل دخولهم إلى عالم الآخرة. ((يمتد الطريق أكثر مما ينبغي للمرء أن يسير فيه .. رمز بغيض للرحيل، ولا ينتهي عليه الترحال)).
وهنا علينا ــ كقراء ــ أن نتساءل:
أي طريق ذلك الذي يمتد أكثر مما ينبغي؟؟
لِم عبارة (يسير فيه) ولا (يمشي فيه)؟؟
هذا الطريق الذي يمتد أكثر مما ينبغي.. لِم يكون رمزا بغيضا للرحيل؟؟
ما تلك السرمدية التي تجعل الترحال لا ينتهي على ذلك الطريق؟؟
هذه التساؤلات ستخطر في ذهن القارئ من أول سطر يطالعه، ومثلها كثير من التساؤلات على امتداد الرواية ستقفز إلى مخيلة القارئ وتطالبه بأجوبة محددة، ربما سيعثر على بعضها وربما لا يعثر على بعضها الآخر. كل شخصيات الرواية بلا ملامح، معذبة بهواجسها وآلمها وهذه العذابات ما هي إلا نتيجة تراكمات المجتمع الذي يحاولون الفرار منه، مرة بإرادتهم ومرات رغما عنهم، فشخصيات الرواية الرئيسة تبحث عن المجتمع المثالي, لأنها شخصيات مثقفة، واعية، مدركة للحياة. شعراء يعشقون زينة، ولكنهم يتخبطون في عشقهم ولا يعرفون السبيل الصحيح للوصول إلى قلبها، وكل ذلك بسبب المجتمع الذي يعيشون فيه. زينة هي الأخرى تعشق الشعراء ولكنها لم تستطع أن تقنع قلبها بعشق أحدهم، ولهذا لم تستطع ــ كما لم يستطع عشاقها الشعراء ـــ أن توفق بالوصال مع أحدهم، فما كان منها إلا أن تشق طريقها إلى عالم(الانتهاء المر) كما يلذ لها أن تسميه، وهذا عينه ما حصل مع عشاقها (رحّال) و(فؤاد) و(الآخر) الذين شقوا طريقهم إلى عالم (مملكة الأكفان المعلقة)، والتحق الجميع بعالم(نبع الهذيان) حتى من دون أن يحملوا ملامحهم. فالشاعر في الرواية يشير بما لا يقبل الشك إلى(المثقف العربي) الذي يكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما هارب من المجتمع وإما مطرود منه وهو بين هذا وذاك يتخبط بآلامه وهمومه. (زينة) رواية فكرية كما هي في الوقت ذاته رواية أحداث، كُتبتْ بلغة واحدة وتوزعتْ على شخوصها دونما فوارق ثقافية في الحوار ويبدو أن مرد ذلك لسببين:
الأول: أن زينة وعشاقها جميعا من الشعراء المثقفين.
الثاني: أن لغة الرواية لغة شعرية خالصة مما لا يسمح لها إلا أن تكون لغة راقية تليق بلغة الشعر.
يستطيع القارئ أن يقف في الرواية أيضا على المجتمعات المختلفة عَبْرَ التاريخ، وأن يلمس السياسة وأثرها المحوري في تحريك المجتمع وناسه، كما يمكنه الوقوف على الأديان السماوية وغير السماوية فيها. اعترت الرواية بعض الأخطاء المطبعية والنحوية واللغوية، مثل (شفتي الغليظتان) و(عينيَّ المستديرتان) و(يهديهم وترا مفرد) و(البعض) مع (ال التعريف) و(الغانية) التي تكررت مرات عدة وكان يعني بها (الزانية)؛ لأن الغانية التي تستغني بجمالها عن الزينة، و(بدء الوهن) وكان يقصد(بدأ) ومع هذا فإن هذه الأخطاء وغيرها لا تساوي شيئا أمام هذا الإبداع وهذا الإتقان من السيد حنفي الذي أدعوه إلى المزيد من الإبداع في عالم الأدب. وأخيرا يحق لي أن أدعو القراء إلى الاستمتاع بهذه الترنيمات التي عزفها السيد حنفي، كما سأسمح لنفسي بدعوة المثقفين والمهتمين بالأدب والنقاد خاصة إلى إعادة النظر في قراءة هذه الترنيمات ومحاولة فك بعض مغاليقها وربط بعض أجزائها للقارئ؛ لأننا أمام ثلاث روايات قصيرة جُمعتْ في رواية واحدة متكاملة النسج والصياغة، رواية(رحّال) ورواية(فؤاد) ورواية(زينة)، جمعتها الأخيرة(زينة) بخيط واحد، جميل ومتين، فصارت ــ بحق ــ عملا أدبيا ذا جهد كبير، وإتقان واضح، وبالنتيجة الحتمية فإن العمل يستحق القراءة والتأمل.
سعد هاشم الطائي
تعليق