استيقظ أبو أحمد من النوم و أخذ يغنّي : سوّدتِ أيامي .. ضيّعتِ أحلامي .
نظرت إليه زوجته التي كانت ترتّب الغرفة ، قائلة في نفسها : لقد سئمت
من مزاحك . نظر إليها أبو أحمد و قال : يبدو أن الأغنية لم تعجبك .
فلم تجب الزوجة فعاد الزوج لأغنيته ، تركته الزوجة و ذهبت إلى المطبخ
لإعداد الفطور ، فجعل أبو أحمد يرفع صوته بالغناء : سوّدتِ أيامي ..
ضيّعت أحلامي . ضحكت الزوجة و لم تستطع المقاومة ، و لكن ضحكتها
تلك ما لبثت أن امتزجت بالغضب .
جلس الزوجان يتناولان الفطور مع ابنهما الصغير خالد ، فطلب أبو أحمد
منه ألا يسرع في تناول الطعام ، فقالت الزوجة : دعه يسرع كي لا يتأخر
عن المدرسة . انزعج أبو أحمد من كلام زوجته و قال بنبرة صوت مرتفعة :
لا ينبغي أن يسرع في الأكل ، فالأكل السريع غير صحّي ، إن كنت تخافين
أن يتأخر ، فما عليكِ إلا أن تستيقظي في وقتٍ مبكر . ثم رمى الصحن الذي
كان أمامه جانباً .
كادت زوجته أن ترد عليه ، لكنها صمتتْ ، و سقطت دموعها .
تأثر أبو أحمد حين رأى زوجته على تلك الحالة ، و اعتذر منها و عاد يغني
مغيراً كلمات أغنيته : نوّرتِ أيامي ، زيّنتِ أحلامي . ابتسمت الزوجة و الدموع
على خديها ، و قالت : هذا أنت ، لا تتغير .
بعد أن ذهب خالد إلى مدرسته ، قرر أبو أحمد أن يأخذ إجازة ليخرج
مع زوجته إلى مقصف قريب ، ففرحت زوجته ، و رأت في ذلك
فرصة لتستعيد شيئاً من ماضيها الجميل ، أيام الخطوبة .
بعد نصف ساعة وصلا المكان . طلبت الزوجة من أبي أحمد أن يتغزّل
بها كما كان يفعل في الماضي ، فقال : كما تريدين . أنتِ الشمس في حياتي.
قالت الزوجة : ما أجمل هذا الكلام . ضحك أبو أحمد وقال : لكني قصدت
شمس الصيف المزعجة . قالت الزوجة : ألا يمكنك أن تتوقف يوماً
عن المزاح . قال أبو أحمد : إن لم نمزح ، سننفجر من هذه الدنيا .
قالت الزوجة : و لكنك تبالغ في ذلك ، و لا تتوقف أبداً . قال أبو أحمد :
و أنتِ تبالغين في طلباتكِ ، ثم إنك تريدين أن أصبح شاعراً يؤلف كل
يومٍ قصيدة ، وهذا ليس بمقدوري . صديقيني حبيبتي ، أنا أهرب من ضعوط
الحياة عن طريق المزاح .
ثم أنكِ تمثلين عنصراً هاماً من هذه الضغوطات ، فضحك أبو أحمد ثم أتبع :
و لست أقصد أن أقلل من شأنك ، فأنت حبيبتي ، و أم أولادي ، بل عمري
و زهرة حياتي . ابتسمت الزوجة بعدما سمعت تلك الكلمات الجميلة ،
و قالت : ها أنت تقول كلاماً جميلاً ، لما لا تقوله في كل حين ؟
صمت أبو أحمد و لم يعلّق . فقالت الزوجة : هل تذكر يوم أتيت إلى بيتنا
خاطباً ، كيف كان حالك ؟ كنت شديد الخجل ، و مرتبكاً أشد ارتباك .
قال أبو أحمد : نعم أذكر . و أذكر كيف سقطت الفناجين من يديكِ ، و أنتِ
تقدمين القهوة .
قالت الزوجة : هذا لم يحدث !
قال أبو أحمد : كيف لم يحدث ؟ أذكر ذلك جيداً .
قالت الزوجة مندهشة : أنا لم أفعل ذلك أبداً . لقد بدأت أشك في ذاكرتك .
بدا أبو أحمد حائراً ، و قال في نفسه : هل تقول زوجتي الصدق ؟
أيمكن أن أكون متوهماً ؟!
نظرت الزوجة إلى أبي أحمد و سألته : أين سرحت ؟
قال أبو أحمد : هل أنتِ متأكدة من أنك لم تسقطي الفناجين في ذلك اليوم ؟
فقالت الزوجة : نعم متأكدة .
أدخل كلام أبو أحمد الريبة إلى قلب زوجته ، و أخذت تتقاذفها الظنون ،
فقالت في نفسها : لا بد أنه متزوج من امرأة أخرى ، و ربما زوجته الثانية هي من أسقطت الفناجين ، فاختلط عليه الأمر ، و تخيل أنني أنا من فعلت ذلك .
في المساء تفاجأ أبو أحمد من زوجته ، إذ لم تتقوه بكلمة ، على غير عادتها .
فقد كانت دائماً تصنع الأحاديث ، و تسأله أسئلة لا تنتهي ، و تصنع المشاكل
من كثرة الكلام ، دون أن تدري أنها امرأة ثرثارة ، و فوق كل ذلك كانت تظن
أنها مظلومة .
كان أبو أحمد سعيداً لصمت زوجته رغم اندهاشه الكبير . أخذ ينظر إليها
و هي سارحة الفكر . قال في نفسه : ما لها ؟ بماذا تفكر ؟ لم تتكلم كلمة
منذ مجيئنا من المقصف . على أي حال هكذا أفضل ، لقد تعبت منها ، و آن
لي أن أرتاح قليلاً .
في اليوم التالي و قبل انتهاء أبو أحمد من عمله بربع ساعة ، كانت زوجته
قد وصلت إلى الشركة التي يعمل فيها ، فجعلت تنتظر في الخارج لتراقبه .
خرج أبو أحمد من الشركة ، و ركب سيارة أجرة ، فاستقّلت هي واحدة أيضاً
و تبعته .
أخذت تسترجع أحاديثه في الماضي ، حين كان يتأخر عن المنزل فيقول
أنه كان يجلس وحده ، لأنه يحب أن يقضي أوقاتاً خارج البيت ، و أنه يحب
البقاء حرّاً و لو لساعات قليلة . قالت في نفسها : تريد أن تبقى وحيداً
يا خائن ، أم أنك تذهب إلى بيت زوجتك الثانية ؟
لقد كُشف أمرك . تخدعني كل هذه السنوات ، آهٍ من الرجال ، كلهم خائنون .
فجأة توقفت السيارة ، فنزل منها أبو أحمد و اتجه نحو بناء على يمين الطريق ،
فلحقت به الزوجة مسرعة قبل أن تفقده . ثم صعد أبو أحمد إلى الطابق الرابع
و الزوجة تلحق به ، و بهدوء شديد دون أن يلحظ ذلك .
دخل أبو أحمد إحدى الشقق . فتوقفت المرأة ، و شعرت بغضب شديد ،
إذ لم يعد عندها أدنى مجال للشك من أن زوجها قد تزوج واحدة أخرى .
قرعت الجرس ، فخرج أبو أحمد مندهشاً و مرتبكاً و قال : ما الذي جاء بكِ
إلى هنا ؟
فجعلت تصرخ : أتقول ما الذي جاء بي إلى هنا يا خائن ؟ أين هي ؟
أين هي زوجتك الثانية ؟ فسحبها أبو أحمد إلى الداخل خشية من أن يسمعهم
الجيران .
أخذت الزوجة تبحث كالمجنونة عن الزوجة الثانية ، فلم تجد أحد . قالت :
أين هي ؟ قال أبو أحمد : عمَّ تتكلمين ؟ أنا لست متزوجاً من غيرك .
لقد فتشتِ المكان . هل تريدين أن تبحثي في الخزانة أو تحت السرير ؟
تفضلي هيا .
قالت الزوجة : ما هذه القطط ؟ قال أبو أحمد : أربيها ، تعلمين أني أحب
القطط .
_ أخبرني لماذا تأتي إلى هنا ؟
_لقد قلت لكِ في الماضي أني أحب أن أقضي بعض الساعات وحيداً حراً .
_ هل تقسم أنك لست متزوجاً من امرأة أخرى ؟
_ و الله لست متزوجاً من امرأة ثانية .
_ لماذا لم تخبرني أن لديك منزلاً آخر ؟
_ كي لا أسمع ثرثرتك كل يوم . ثم إنّني لا أملك هذا المنزل ، لقد استأجرته .
_ ثرثرتي ! هل أنا ثرثارة ؟
_ نعم ثرثارة ، أنا أهرب من كلامك و ثرثرتك التي لا تنتهي .
أنا هنا حر أفعل ما أشاء ، أربي القطط ، ألعب معها . و أستقبل أصدقائي
كما أشاء . ألم تغضبي في الماضي من زيارة أصدقائي ؟ كم مرة تشاجرنا
من أجل ذلك ؟ أنت امرأة لا تهتم إلا بنفسها . لم تسألي يوماً عن راحتي
و لم تسألي يوماً ماذا أريد . و أنا أسايرك و أقول في نفسي ، مسكينة ليس
لها غيري .
أتعلمين لو كان لكِ أهل كنت طلقتكِ منذ زمن ؟ لكنك وحيدة
و ليس لكِ أحد غير أخيكِ المهاجر .
سكتت الزوجة و لم تعرف ماذا تقول . في هذه الأثناء قرع الجرس ،
قال أبو أحمد : هؤلاء أصدقائي جاؤوا لزيارتي . اذهبي إلى البيت ، سأعود
في المساء .
خرجت الزوجة و انتظرت عند موقف السيارات ، و لم تمر لحظات
حتى جاء أبو أحمد و قال : سأوصلكِ إلى البيت . لا يهون عليّ أن أترككِ
في هذا المكان وحدكِ . مازلتِ زوجتي و حبيبتي ، و لكن رجاءً اتركيني
أتنفس قليلاً . فرحت الزوجة لمجيء أبي أحمد و ارتاحت إذ أنّ اهتمامه
بها لم ينقطع حتى في ثورة غضبه ، لكن بقي ذلك السؤال المحيّر لا يفارقها :
من تلك التي أسقطت فناجين القهوة ؟
تعليق