اللوحــــة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسن لشهب
    أديب وكاتب
    • 10-08-2014
    • 654

    اللوحــــة



    اللوحــــة


    يوما ما وأنا أتلمس خطوط وجودي، أحاول أن أحدد منها خطا للانفلات من متاهات وجدت نفسي ضائعا وسطها بلا اختيار، راودتني فكرة رسم لوحة تشكيلية علني أفرغ فيها بعضا من مشاعري وأفكاري.
    كل شيء كان من حولي مجرد فوضى تتكرر بشكل دائري، تعود الأمور من حيث بدأت، وكأنها تصر علـى محاصرتـي، حتى أشعـر بالاختنـاق والانفجار.
    كانت الألوان أمامي فوق طاولة خشبية، أخذت الفرشاة بين أناملي، فهالني البياض فارغا، متحديا، مصرا على الانتصار. شعرت بارتعاشة خفيفة، ودون قصد لامست الفرشاة اللوحة، لاحت لي نقطة سوداء.
    لم تكن تشغل مساحة كبيرة وسط البياض، مثل ثقب صغير. تأملتها قليلا وسرعان ما بدأت تتحرك، تستكمل استدارتها، ومنها بدأت تنبعث إشعاعات ضوئية، اشتد لمعانها حينا حتى خيل لي أن الثقب لبس كل الألوان.
    فركت عيني قليلا وتأملتها من جديد. وفي لحظة ما، بطريقة ما، خيل لي أنها تحولت إلى خط، هذا طبيعي قلت لنفسي، فالخط ليس أكثر من مسار للنقطة. أليست هي البداية التي نختارها، فينبثق الإشعاع الذي يحفزنا على الإقدام. هكذا تكون أمورنا على الدوام بحاجة إلى خط لحصر فراغاتنا كأننا نخشى التيه والضياع.
    الأكـل، والنـوم واللعـب والعمـل والبنـاء، والسلوك...
    كلها بحاجة إلى خط، إلى إطار، إلى حدود لحصر الفراغ. يتحدد خط السير، يتحول إلى قاعدة/بداية، دون أن نعي أنها النهاية.
    فالخط حافة، وإشعاع مرشد لأبصارنا وأفكارنا وسلوكاتنا، في غدونا ورواحنا. فتنتج الأشكال بكل أطيافها، المربع والمستطيل، والدائرة...
    وتذكرت أحد الأصدقاء يقول لي يوما ما:
    ءكفاك استقامة
    وابتسمت، إذ أدركت أن وراء كلامه هندسة للحياة كلها.
    أن تكون مستقيما، معناه أنك ملتزم، وربما متوازن، وجدي لكن بطبع ميال إلى الحدة والقوة. وتساءلت: أليست هذه صفات ذكورية؟ ولكن ألا تتحول الاستقامة إلى جفاف وملل؟
    وحتى في البناء، كلما كانت بناية ما مجرد خطوط مستقيمة وحدها، كانت شاهقة، قوية، حادة، بل مملة، وفاقدة للجمال.
    تحركت نقطتي مجددا. فتشكلت خطوط عشوائية، حاولت تأملها. أحسست بالحيرة والدوخة، وكأنني أعيش حالة تشتت ذهني. ذكرني ذلك بأحد الأصدقاء حين جلس بجانبي أثناء المشاركة في إحدى الندوات الفكرية.
    ملأ هذا الصديق أوراقه بخطوط مبعثرة وعشوائية، ولما سألته ماذا تفعل قال:
    ءلا أستطيع مسايرة مثل هذه المواضيع المعقدة، أشعر بابتذال أفكاري، إنني مشتت ذهنيا.
    عاد بصري إلى اللوحة مجددا، كانت نقطتي قد اتخذت مسارات جديدة، لاحظت حركتها هذه المرة، كانت أكثر هدوأ وانسيابية، خلتها راقصة باليه وهي ترسم خطوطها المنحنية، شعرت بها متحررة ومرنة بقدر لا يوصف. كانت تمارس ما يشبه اللعبة البصرية.
    ومن حيث لا أدري وجدتني أراها على شكل كثبان رملية. كثبان مرزوكة الجميلة، أتخيلها أجسادا أنثوية، ممددة فوق بساط حريري تحت أشعة شمس هائلة ولاهبة، هي واحدة من لحظات مجنونة تخترق ذهن الإنسان، تخترق مدى الفكر، مثلما يخترق الماء الرمال في الصحراء.
    ومرة أخرى تساءلت وهل يمكن للخط المستقيم أن يكون موازيا أو متقاطعا مع المنحرف أو المنحني؟ لعلها ستكون لحظة لانفصال الأشياء، أو اتحادها، أو لتوغل الحزن في القلب.
    وانفتح باب غرفتي فجأة، دخل ابني مبتسما، لكنه لما نظر إلى اللوحة، وخطوطها المبعثرة في كل اتجاه، قطب بين حاجبيه وقال:
    هل تظن نفسك فنانا تشكيليا؟!
    ولما أردت أن أحدثه قليلا عن النقطة التي هي بداية كل شيء ونهايته زاغ بوجهه عني وأغلق باب الغرفة وراءه.
    لم أجد بدا من وضع نقطة نهاية لهذا النص، فاتسعت كأنها بئر، هويت داخلها وخيم الصمت.


    حسن لشهب
  • حسن لختام
    أديب وكاتب
    • 26-08-2011
    • 2603

    #2
    الأشكال الهندسية تمثل أو تحيل إلى حالات نفسية، خاصة في الفن التشكيلي، حالات يعيشها الكائن البشري على وجه الأرض الكروية الشكل..في أحايين كثيرة العفوية والانسيابية تجعلان الحياة تمضي سلسلة ومنسابة..كما يجري الماء منسابا في جداويله الملتوية..
    راقت لي النهاية الشاعرية
    دمت مبدعا جميلا
    تقديري، أخي حسن

    تعليق

    • حسن لشهب
      أديب وكاتب
      • 10-08-2014
      • 654

      #3
      لك كل التقدير والمحبة أخي حسن

      تعليق

      • حدريوي مصطفى
        أديب وكاتب
        • 09-11-2012
        • 100

        #4
        نصك هذا كان نقطة بداية لثلاثية من الفلاش باك:
        1ـ ذكرني بأول درس في الهندسة المبين: بأن الخط ما هو إلا مجموعة لامتناهية من الخطوطو...و..
        أعاد لي قولة لليوناردو دوفانسي، أتذكرها أنى توفرت الظروف لانبثاقها وكأنها على سطح ذاكرتي والتي تقول: رب شق في حائط يتمظهر لرائيه كنهر بكامل جغرافبته
        3ـ تعريف المعجزة عند العقاد من خلال نص له في كتابه الضخم ساعات بين الكتب إذ يقول ما مفاده أن طفلا يذهب ليعجزك بطلبه منك تقليد خربشاته البسيطة على الورق...أنت الواثق المتمكن من رسم الحروف والكلمات...
        كان الطرح والتساؤل بسيطا وعميقا يبتدئ من النقطة بداية كل شيء... حتى العالم.. ألم يبدأ العام من نقطة "بيغ بان" وينتهي بعبثية طفل يجعلك تساؤله وصده حائرا بين البساطة والتعقيد
        أعجبني هذا النص لجوهره الهادف إلى ما هو وراء القصة بكل مكوناتها وثوابتها لكونه أتاح لي برهة تأمل واستمتاع...
        الكتاب هم رسمة ولكن بالحروف، وهم أبلغ من الأولين إذ ريشاتهم ترسم ما لا يرسم ولها ألوان بكل ألوان الطيف اسمح لي إن دعوتك لتتفرج على لوحة لي كنت قد رسمتها مذ 2009 عنونتها في تيار الرمل أتمنى ان تروقك ألوانها واشكالها
        الأديب حسن تقبل مني بفائق احترامي
        حدريوي مصطفى ( العبدي)
        بت لا أخشى الموت منذ عرفت أن كل يوم بل كل لحظة يموت شيء مني

        تعليق

        • حسن لشهب
          أديب وكاتب
          • 10-08-2014
          • 654

          #5
          تكفي قراءة متبعاتك للعديد من النصوص لتبين ما تضيفه إليها
          وما يتحقق لها من إثراء فعلي
          هكذا تكون القراءة أيها الأديب الألمعي
          عسى أن يتعلم البعض!!!

          تعليق

          • نادية البريني
            أديب وكاتب
            • 20-09-2009
            • 2644

            #6
            مرحبا أخي الكريم حسن...
            شدّني العنوان فملت إليه...قلت عساي أدرك ميزة لوحته ...فأنا أيضا كتبت قصة قصيرة بعنوان اللّوحة...
            وجدت لوحتك فلسفة قائمة الذّات...تحدّد علاقتك بالوجود...تعبّر عن تقلّب النّفس...وتعبر بك من المرئيّ إلى اللاّمرئي...هكذا نحن ...نقطة في فضاء رحب...تظهر ثمّ تتلاشى مخّلفة ذكرى...
            قرأت واستمتعت...وسأعود إليها ثانية بإذن الله
            تقديري لقلمك أخي المبدع...
            التعديل الأخير تم بواسطة نادية البريني; الساعة 16-04-2017, 13:57.

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              نص عال
              و لغة منتقاة بعناية
              و تتابع سلس القوام مشوق
              و لحظة في عمر كائن ممتلئ أو كائن بسيط تمثل منعطفا ربما لا يكون محوريا في حياته و ماهي سوى لحظة اجترار و محاولة عابرة
              و لكن ما استوقفني بالفعل هنا رؤية الابن الذي بدا أنه لم يكن طفلا بل واعيا بالقدر الذي يجعله يرى جيدا و يحكم على ما أمامه
              لأن الطفل أكثر صدقا و تفاعلا مع المرئي الملموس
              و سوف تستهويه اللعبة و لن ينصرف عنها كما فعل الابن هنا
              فقلت أن القاص في سبيله لاغلاق الأمر و إيقاف هذا النزوع للختام
              و الخروج من الدائرة إلي البؤرة الثابتة
              و الانتحار في أعماقها ؛ فلم يعد الوقت يسمح بتلك الرفاهية ، بل لم تعد تعنيه ، و إلا ما كان هذا رأى الابن الذي أصبح كبيرا بما يكفي ليعطي والده عمرا طويلا !!

              أشكرك أستاذي على هذه الوجبة الشجية و الماتعة

              محبتي
              sigpic

              تعليق

              • حسن لشهب
                أديب وكاتب
                • 10-08-2014
                • 654

                #8
                شكرا لمرورك اللطيف أختي الأديبة المميزة نادية البريني..
                سعيد بأن أحظى بهذا التعليق الايجابي والمحفز .واتمنى صادقا قراءة النص الذي يحمل لديك نفس العنوان.
                احترامي وشكري لك
                كوني بخير.
                التعديل الأخير تم بواسطة حسن لشهب; الساعة 24-04-2017, 16:32.

                تعليق

                • فواز أبوخالد
                  أديب وكاتب
                  • 14-03-2010
                  • 974

                  #9
                  عندما يقرأ المبتدئ نصا ابداعيا لمحترف فإنه يقف مشدوها وهو يحاول سبر اغواره واستجلاء فلسفته ومعانية وهذا ماوجدته هنا معك استاذنا حسن لشهب
                  ولا اظنني سأفعل مثل ابنك ونظرته العجلى امام لوحة تستحق ارجاع البصر والتأمل .
                  تحيااااتي وتقديري لك اديبنا الرااائع .
                  [align=center]

                  ما إن رآني حتى هاجمني , ضربته بقدمي على فمه , عوى من شدة
                  الألم , حرك ذيله وولى هاربا , بعد أن ترك نجاسته على باب سيده .
                  http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=67924

                  ..............
                  [/align]

                  تعليق

                  • حسن لشهب
                    أديب وكاتب
                    • 10-08-2014
                    • 654

                    #10
                    مرحبا بالعودة الميمونة لأستاذنا المبدع ربيع.
                    ميمونة عودتك بما حملته من نصوص جديدة ومتابعات رصينة للعديد من أعمال أدباء هذا الملتقى .
                    مؤكد أن ما لاحظته بخصوص رؤية الإبن في النص تعبير عن رؤية دقيقة لما أراده كاتب النص، أليس الطفل هو أب الراشد بمعنى وسياق مختلف ، ومن أفواه الأطفال والمجانين نأخذ حكمة صافية مباشرة وبلا مساحيق....
                    شكرا لإثراء النص أستاذي الكريم.
                    كن بألف خير وعافية.
                    التعديل الأخير تم بواسطة حسن لشهب; الساعة 06-07-2017, 16:02.

                    تعليق

                    يعمل...
                    X