بعد الانتخابات الفاصلة ..هل فعلا هناك تجربة تركية؟
المستشار د. نزار نبيل الحرباوي
يتساءل كثير من المحللين والباحثين عن كنه وحقيقة التجربة التركية في صناعة نموذج جديد يزاوج ما بين الاعتدال والنمو والنهضة وتحقيق المصالح في ظل التباينات الدولية القائمة .
البعض يشكك بأن هناك تجربة من حيث الأصل يمكن أن تعزى لتركيا ، والبعض الآخر يتفاعل مع بعض وجوه هذه التجربة فيما يتعلق بحدود معرفته ، فيقتصرها على الاقتصاد تارة وعلى البنى التحتية تارةأاخرى واستثمار السياحة ونحوها من أمور ، دون الغوص في التفاصيل وسبر أغوار هذه التجربة المميزة .
الحقيقة ان هناك ما يمكن تسميته تجربة لتركيا ، تجربة خاصة بها وتحمل بصمة العقل التركي في التعامل مع معطياتها التفصيلية الدقيقة ، معطيات تتصل بقلب نظام العسكرة الحاكم ، ونسف دستور بداية الثمانينيات ، وبداية مرحلة جديدة من التحرر الوطني التركي بين الاتراك وبين سطوة العسكر التي هدرت الطاقات بطشت بكل الجغرافيا التركية وسعت جاهدة لطمس هوية هذا الشعب ، لصناعة تركيا جديدة حرة وقوية ومستقلة.
الانتخابات البلدية الاخيرة ، والتي تمت في 30 مايو / آذار قلبت موازين الفهم بهذه التجربة ، وغيرت من دلالات التصريحات والمخططات المعهودة ، وتلتها الانتخابات الرئاسية المباشرة ، فقد دخلت تركيا في هذه الفترة مرحلة الفطام الحقيقي ، وباتت تتجه نحو وجهة أخرى أوسع وأسمى أفقا ، والسمة الفارقة لها هي القوة والثبات والتلاحم الشعبي مع قيادته.
الشعبية التي يحظى بها أردوغان وحزبه ، باتت متصاعدة بشكل كبير وملحوظ ، والفارق بين آخر انتخابات بلدية وسابقتها منح اردوغان والتجربة التي يقودها فارقا في الأصوات يتعدى 6 ملايين صوت جديد صوتوا لحزبه للمرة الأولى ، وهنا كانت المفارقة الحقيقية ، وهنا كانت الصدمة لمعارضيه الذين فشلوا في إسقاطه رغم تحالفهم ضده من أقصى اليمين لأقصى اليسار التركي، وفشل أيضاً من دعمهم وراهن عليهم .
تركيا لديها تجربتها ، في بناء الانسان ، في وزارات الحكم المحلي والبلديات ، بأوقافها التاريخية التي تتجاوز 60 ألف وقف وجمعياتها واتحاداتها ونقاباتها وحرية الفكر والتعبير وممارسة الحقوق السياسية والفكرية في المجتمع للجميع بكل أريحية .
تركيا لديها تجربتها ، فنجح مشروعها في إدارة السياسة الخارجية وسط حقل الألغام المتفجر حولها ، وصنعت لنفسها مكانة بين الدول الفاعلة في الإقليم وجغرافيا العالم .
أما الاقتصاد التركي ، فقد شهد حالة غير مسبوقة من النمو والاستقرار، يمكن توصيفها بالطفرة اللافتة ، فقد سددت ديونها للبنك الدولي ، وضاعفت مدخولاتها ، وقلصت هدر الموازنات ، وأرست نظامها الاقتصادي القوي ، وباتت تطلق العنان لمشروعات كونية عالمية ستعزز اقتصادها كماً ونوعاً .
وبالنظر للبعد المعرفي والإنساني ، اليوم تركيا تقود مشروعات حضارية لمواطنيها والشعوب الأخرى من خلال تفاعل كبير وحقيقي وممتد من البلقان حتى أوراسيا وصولا إلى تركمانستان الشرقية .
والتجربة التركية العسكرية والتكنولوجية باتت مصدر قلق فعلي لدول كثيرة ، انزعجت من تمكن تركيا من إطلاق قمرها الصناعي التكنولوجي ( غوك تورك 2) بكل مميزاته ، وتضايقت دول أخرى من قدرة تركيا على تصنيع طائرات العنقاء بدون طيار والسفينة الحربية التركية والصواريخ والطائرات التركية ..
إذا ، هل سنبتر هذه التجربة وننظر إليها على أنها تجربة عابرة ، أم علينا أن نتقفى آثار النجاحات اللافتة المتحققة من خلال قوة تركيا ونموها ؟
هل سنخدع أنفسنا بشعارات عفى عليها الزمان ، وهل سنقول أن نمو تركيا سيزعزع الشارع العربي في الدول العربية التي لم تحقق أي إصلاح سياسي منذ سبعين عاما ؟ أم سنجعل منه سببا لرفعة أوطاننا والتنافس الإيجابي بيننا كعالم عربي وبين تركيا في خدمة مواطنينا ورفع مؤشر السعادة لديهم وتحقيق الرفاهية والأمن والتقدم والتمدن لهم كما فعلت تركيا؟
ساءني كثيراً واقع إعلامنا العربي الرسمي الذي سخر كل طاقاته التحريرية والتوثيقية لدعم معارضي اردوغان في الانتخابات ، حتى ان بعض القنوات استضافت رؤساء المعارضة التركية بعد ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع وبدأت تقدح في اردوغان وحكومته وتبذل قصارى جهودها للتشكيك بكل شيء وبكل رقم وبكل شخصية .
وكأننا في العالم العربي لم نتعلم من الدروس السابقة من لبنان والعراق وفلسطين واليمن ومصر وتونس وغيرها ، بضرورة المراهنة على الحصان المرشح للفوز ، فها نحن نكرر أخطاءنا باستمرار بالبحث عن الحصان الأعرج أو الحمار الكسيح لنراهن عليه وننفق الأموال في الترويج له ودعمه ماديا وإعلامياً وفكرياً .
وكلمة أخيرة هنا .. القوة لا تعاب .. الضعف والتشرذم والاختباء وراء نظارات سوداء هو الذي يعاب ، علينا أن نفتح عيوننا وندرس التجارب ، تجارب الآخرين الناجحة والفاشلة ، لنبدأ ببناء تجربتنا ، بدل أن يكون كل هدفنا وهمنا وشغلنا الشاغل في ذم هذا ونقض تجربة هذا وتشويه ذاك ، وإضاعة ساعات من وقت المشاهدين للاعلام العربي المترنح في هذه المهاترات غير المحسوبة العواقب
المستشار د. نزار نبيل الحرباوي
يتساءل كثير من المحللين والباحثين عن كنه وحقيقة التجربة التركية في صناعة نموذج جديد يزاوج ما بين الاعتدال والنمو والنهضة وتحقيق المصالح في ظل التباينات الدولية القائمة .
البعض يشكك بأن هناك تجربة من حيث الأصل يمكن أن تعزى لتركيا ، والبعض الآخر يتفاعل مع بعض وجوه هذه التجربة فيما يتعلق بحدود معرفته ، فيقتصرها على الاقتصاد تارة وعلى البنى التحتية تارةأاخرى واستثمار السياحة ونحوها من أمور ، دون الغوص في التفاصيل وسبر أغوار هذه التجربة المميزة .
الحقيقة ان هناك ما يمكن تسميته تجربة لتركيا ، تجربة خاصة بها وتحمل بصمة العقل التركي في التعامل مع معطياتها التفصيلية الدقيقة ، معطيات تتصل بقلب نظام العسكرة الحاكم ، ونسف دستور بداية الثمانينيات ، وبداية مرحلة جديدة من التحرر الوطني التركي بين الاتراك وبين سطوة العسكر التي هدرت الطاقات بطشت بكل الجغرافيا التركية وسعت جاهدة لطمس هوية هذا الشعب ، لصناعة تركيا جديدة حرة وقوية ومستقلة.
الانتخابات البلدية الاخيرة ، والتي تمت في 30 مايو / آذار قلبت موازين الفهم بهذه التجربة ، وغيرت من دلالات التصريحات والمخططات المعهودة ، وتلتها الانتخابات الرئاسية المباشرة ، فقد دخلت تركيا في هذه الفترة مرحلة الفطام الحقيقي ، وباتت تتجه نحو وجهة أخرى أوسع وأسمى أفقا ، والسمة الفارقة لها هي القوة والثبات والتلاحم الشعبي مع قيادته.
الشعبية التي يحظى بها أردوغان وحزبه ، باتت متصاعدة بشكل كبير وملحوظ ، والفارق بين آخر انتخابات بلدية وسابقتها منح اردوغان والتجربة التي يقودها فارقا في الأصوات يتعدى 6 ملايين صوت جديد صوتوا لحزبه للمرة الأولى ، وهنا كانت المفارقة الحقيقية ، وهنا كانت الصدمة لمعارضيه الذين فشلوا في إسقاطه رغم تحالفهم ضده من أقصى اليمين لأقصى اليسار التركي، وفشل أيضاً من دعمهم وراهن عليهم .
تركيا لديها تجربتها ، في بناء الانسان ، في وزارات الحكم المحلي والبلديات ، بأوقافها التاريخية التي تتجاوز 60 ألف وقف وجمعياتها واتحاداتها ونقاباتها وحرية الفكر والتعبير وممارسة الحقوق السياسية والفكرية في المجتمع للجميع بكل أريحية .
تركيا لديها تجربتها ، فنجح مشروعها في إدارة السياسة الخارجية وسط حقل الألغام المتفجر حولها ، وصنعت لنفسها مكانة بين الدول الفاعلة في الإقليم وجغرافيا العالم .
أما الاقتصاد التركي ، فقد شهد حالة غير مسبوقة من النمو والاستقرار، يمكن توصيفها بالطفرة اللافتة ، فقد سددت ديونها للبنك الدولي ، وضاعفت مدخولاتها ، وقلصت هدر الموازنات ، وأرست نظامها الاقتصادي القوي ، وباتت تطلق العنان لمشروعات كونية عالمية ستعزز اقتصادها كماً ونوعاً .
وبالنظر للبعد المعرفي والإنساني ، اليوم تركيا تقود مشروعات حضارية لمواطنيها والشعوب الأخرى من خلال تفاعل كبير وحقيقي وممتد من البلقان حتى أوراسيا وصولا إلى تركمانستان الشرقية .
والتجربة التركية العسكرية والتكنولوجية باتت مصدر قلق فعلي لدول كثيرة ، انزعجت من تمكن تركيا من إطلاق قمرها الصناعي التكنولوجي ( غوك تورك 2) بكل مميزاته ، وتضايقت دول أخرى من قدرة تركيا على تصنيع طائرات العنقاء بدون طيار والسفينة الحربية التركية والصواريخ والطائرات التركية ..
إذا ، هل سنبتر هذه التجربة وننظر إليها على أنها تجربة عابرة ، أم علينا أن نتقفى آثار النجاحات اللافتة المتحققة من خلال قوة تركيا ونموها ؟
هل سنخدع أنفسنا بشعارات عفى عليها الزمان ، وهل سنقول أن نمو تركيا سيزعزع الشارع العربي في الدول العربية التي لم تحقق أي إصلاح سياسي منذ سبعين عاما ؟ أم سنجعل منه سببا لرفعة أوطاننا والتنافس الإيجابي بيننا كعالم عربي وبين تركيا في خدمة مواطنينا ورفع مؤشر السعادة لديهم وتحقيق الرفاهية والأمن والتقدم والتمدن لهم كما فعلت تركيا؟
ساءني كثيراً واقع إعلامنا العربي الرسمي الذي سخر كل طاقاته التحريرية والتوثيقية لدعم معارضي اردوغان في الانتخابات ، حتى ان بعض القنوات استضافت رؤساء المعارضة التركية بعد ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع وبدأت تقدح في اردوغان وحكومته وتبذل قصارى جهودها للتشكيك بكل شيء وبكل رقم وبكل شخصية .
وكأننا في العالم العربي لم نتعلم من الدروس السابقة من لبنان والعراق وفلسطين واليمن ومصر وتونس وغيرها ، بضرورة المراهنة على الحصان المرشح للفوز ، فها نحن نكرر أخطاءنا باستمرار بالبحث عن الحصان الأعرج أو الحمار الكسيح لنراهن عليه وننفق الأموال في الترويج له ودعمه ماديا وإعلامياً وفكرياً .
وكلمة أخيرة هنا .. القوة لا تعاب .. الضعف والتشرذم والاختباء وراء نظارات سوداء هو الذي يعاب ، علينا أن نفتح عيوننا وندرس التجارب ، تجارب الآخرين الناجحة والفاشلة ، لنبدأ ببناء تجربتنا ، بدل أن يكون كل هدفنا وهمنا وشغلنا الشاغل في ذم هذا ونقض تجربة هذا وتشويه ذاك ، وإضاعة ساعات من وقت المشاهدين للاعلام العربي المترنح في هذه المهاترات غير المحسوبة العواقب
تعليق