تويت
من الموجودات التي توقفنا عندها طويلاً في المتحف العملات النقدية التي تؤرخ للتأثير العربي والإسلامي في جورجيا. كانت سيرينا تتحدث بإسهاب شديد، وبلغة انجليزية شهيّة قلّما يوجد من يجيدها في جورجيا. وأنا لم أكن لأمانع حتى لو بقيت أستمع لأسبوع كامل، فكلامها ونظراتها ومشيتها ووقفتها كانت سيمفونية رائعة، حتى رنين المفاتيح التي كانت تلوح بها كان لها وقع ساحر.
في نهاية حديثنا أمام خزانة العملات المعدنية خفضت سيرينا بصرها في نظرة خجولة، ثمّ دعتني لتناول الشاي في مكتبها. مشت أمامي بدون أن تنتظر الجواب، وكأنها كانت متأكدة من أن لا يمكن لأحد أن يقاوم أو يتأخر.
تبعتها على أيقاع كعبها وهو يعزف على الأرض المخشّبة وتأرجح ذيل الحصان بين كتفيها. دخلت مكتبها وأشارت لي لأجلس. أحسست بخجل شديد أمامها، ولم أعرف عن أي شيء أتحدّث. خطر لي أن أسألها عن تاريخ دخول المسيحية لجورجيا، أخبرتني أنّ ذلك حدث في القرن الرابع الميلادي. لم أجد شيئاً آخر أتكلم عنه، أخذت أجول ببصري في الصور المعلّقة فإذا بشيء جعل عيناي تتسمّر وأنفاسي تتحيّر. كان ذلك الشيء هو صورة علوية لأشخاص ينّقبون في موقع أثري يشبه إلى حدّ بعيد المتاهة التي وجدتها في جبل حفيت، لم تكن عيني لتخطئ أبداً، المدخل والمركز والمستويات السبعة.
تمالكت نفسي وقلت لها بكل هدوء وأنا أشير للصورة
-ما هذا الموقع يا سيرينا؟!
-آهـ.....هذا الذي تراه في الصورة بروفسور آثار روسي مشهور، وقد أكتشف هذا الموقع في سبعينات القرن الماضي، وهو عبارة عن متاهة.
-متاهة!......وهل هذا طبيعي؟!....أعني لماذا كان الأقدمون يبنون المتاهات؟
-غير معروف بالضبط لماذا. هناك تأويلات عديدة، منها اعتقادهم أن الأرواح الشريرة لا تسير إلا في خطوط مستقيمة، ولذلك فهي لا تستطيع الدخول للمتاهة. ويجب أن تعرف أن المتاهات قديمة قدم الانسان، وقد وجدت في أماكن كثيرة، خصوصاً بالقرب من دور العبادة. بالقرب من بلادكم بنى السومريون والأكاديون والفينيقيون الكثير منها.
-معلومات رائعة سيرينا، أعترف أنّك مفاجأة جورجيا بالنسبة لي. يبدو أنّك تعرفين الكثير عن حضارة الشرق الأوسط.
-شكراً لك. أنا مهتمة كثيراً بتاريخ تلك المنطقة لأن التاريخ بدأ فيها، وما يلهمني أكثر هو نشأة الأبجديات، تلك هي العبقرية الحقيقية التي تشكّل عليها بعد ذلك كل ما نراه من علوم. ولا يداخلني أي شك أن فكرة اللغة هي أعلى وأكثر تطوراً من العقل البشري ذاته، ولذلك فهي بالتأكيد ليست من إنتاجه، بل أُهديت له من أعلى.
بمقابل فنجان الشاي في المتحف دعوت سيرينا على العشاء. ودعتني بالمقابل لتناول الغداء مع عائلتها لأكتشف سبباً آخر يشجّعها على الاهتمام بالحضارة العربية، لقد كانت والدتها من الأقلية الآشورية في العراق، وكم كانت المفاجأة كبيرة حين استقبلتني بعبارات الترحيب العربية بلهجة عراقية رشيقة.
بقيت في باتومي عشرة أيام، قضيت كل الوقت مع سيرينا، حتى أثناء دوامها في المتحف كنت معها واستفدت من معرفتها الشيء الكثير، وفي موعد رحلة العودة لدبي أصرت أن تقلني مع أخيها لمطار تبليسي الذي يبعد أكثر عن خمس ساعات بالسيارة. العجيب في الأمر أننا ورغم تأثرنا بالوداع لم أعدها بالعودة أو بلقاء ثان، ولا هي سألتني إن كنت سأعود، وكأن كلينا كان متأكداً من أمر ما
في نهاية حديثنا أمام خزانة العملات المعدنية خفضت سيرينا بصرها في نظرة خجولة، ثمّ دعتني لتناول الشاي في مكتبها. مشت أمامي بدون أن تنتظر الجواب، وكأنها كانت متأكدة من أن لا يمكن لأحد أن يقاوم أو يتأخر.
تبعتها على أيقاع كعبها وهو يعزف على الأرض المخشّبة وتأرجح ذيل الحصان بين كتفيها. دخلت مكتبها وأشارت لي لأجلس. أحسست بخجل شديد أمامها، ولم أعرف عن أي شيء أتحدّث. خطر لي أن أسألها عن تاريخ دخول المسيحية لجورجيا، أخبرتني أنّ ذلك حدث في القرن الرابع الميلادي. لم أجد شيئاً آخر أتكلم عنه، أخذت أجول ببصري في الصور المعلّقة فإذا بشيء جعل عيناي تتسمّر وأنفاسي تتحيّر. كان ذلك الشيء هو صورة علوية لأشخاص ينّقبون في موقع أثري يشبه إلى حدّ بعيد المتاهة التي وجدتها في جبل حفيت، لم تكن عيني لتخطئ أبداً، المدخل والمركز والمستويات السبعة.
تمالكت نفسي وقلت لها بكل هدوء وأنا أشير للصورة
-ما هذا الموقع يا سيرينا؟!
-آهـ.....هذا الذي تراه في الصورة بروفسور آثار روسي مشهور، وقد أكتشف هذا الموقع في سبعينات القرن الماضي، وهو عبارة عن متاهة.
-متاهة!......وهل هذا طبيعي؟!....أعني لماذا كان الأقدمون يبنون المتاهات؟
-غير معروف بالضبط لماذا. هناك تأويلات عديدة، منها اعتقادهم أن الأرواح الشريرة لا تسير إلا في خطوط مستقيمة، ولذلك فهي لا تستطيع الدخول للمتاهة. ويجب أن تعرف أن المتاهات قديمة قدم الانسان، وقد وجدت في أماكن كثيرة، خصوصاً بالقرب من دور العبادة. بالقرب من بلادكم بنى السومريون والأكاديون والفينيقيون الكثير منها.
-معلومات رائعة سيرينا، أعترف أنّك مفاجأة جورجيا بالنسبة لي. يبدو أنّك تعرفين الكثير عن حضارة الشرق الأوسط.
-شكراً لك. أنا مهتمة كثيراً بتاريخ تلك المنطقة لأن التاريخ بدأ فيها، وما يلهمني أكثر هو نشأة الأبجديات، تلك هي العبقرية الحقيقية التي تشكّل عليها بعد ذلك كل ما نراه من علوم. ولا يداخلني أي شك أن فكرة اللغة هي أعلى وأكثر تطوراً من العقل البشري ذاته، ولذلك فهي بالتأكيد ليست من إنتاجه، بل أُهديت له من أعلى.
بمقابل فنجان الشاي في المتحف دعوت سيرينا على العشاء. ودعتني بالمقابل لتناول الغداء مع عائلتها لأكتشف سبباً آخر يشجّعها على الاهتمام بالحضارة العربية، لقد كانت والدتها من الأقلية الآشورية في العراق، وكم كانت المفاجأة كبيرة حين استقبلتني بعبارات الترحيب العربية بلهجة عراقية رشيقة.
بقيت في باتومي عشرة أيام، قضيت كل الوقت مع سيرينا، حتى أثناء دوامها في المتحف كنت معها واستفدت من معرفتها الشيء الكثير، وفي موعد رحلة العودة لدبي أصرت أن تقلني مع أخيها لمطار تبليسي الذي يبعد أكثر عن خمس ساعات بالسيارة. العجيب في الأمر أننا ورغم تأثرنا بالوداع لم أعدها بالعودة أو بلقاء ثان، ولا هي سألتني إن كنت سأعود، وكأن كلينا كان متأكداً من أمر ما
تعليق