النهر
قصة قصيرة
سالم وريوش الحميد
كتبت على الجدران الحرة اسمي عل وأن أعلن براءتي من عالم موسوم بالرياء ، عالم تتناثر فيه الأجساد دون أن تجد من يحصيها عددا ، ترقد رقادها الأبدي على قارعات الطرق المضمخة بالدماء ،
_ لصوص .. قتلة ..
_ أحذر .. حماقاتك ..يا هذا..سنحفر قبرك بأيدينا ....
ذلك الحزن الكظيم الذي تسيّد على كل مشاعري ، فضحته عيوني وأنا أنظر متلهفا لتلك القدود تمر من أمامي دونما اهتمام ، تتناهبني الحسرات والآهات والأسى على من فقدت ،..حين تمر الذكريات على ذاكرتي المتخمة بالأفكار قد يتوقف كل شيء تكتسي روحي بحزن شفيف، تنعدم حركة الأشياء .. وأنا أميط اللثام عن وجهي المحروق بلهيب نار لازال لظاها يخترقني حتى الأعماق ، أيها النهر يا ذا الحزن الدائم .يا من أرقدتك الهموم أأنت حزين مثلي ..؟ أتزعجك تلك المصابيح الباهتة الأضواء التي تكتحل بها ضفتاك ، تخترق جسدك كنصل ذلك الخنجر الذي غار في أحشاء حبيبتي وأحالها إلى عالم الأموات ، وأنت الشاهد الوحيد .لكنك تلوذ بصمت أبدي ...كانت أصوات أقدامهم تكسر السكون وهي تهم إليها ..سبقوني ..
_ أنت ِ ....
وقبل أن تنطق حرفا .. اخترق قلبها نصل أعد لقتل الجمال فيها ..
ألم تسمع صوتها المكتوم يطلب منك أن تنقذها
يا لك من جاحد أيها النهر .. لمَ لمْ تهب لنجدتها
نحروا صوتها قبل أن تؤكد لهم تحديها وأنها ثابتة الجنان .. وفقؤوا عينيها قبل أن ترى وجوههم الموسومة بعارهم ..
رحلتي بدأت معك دون مقدمات . كل خطوة أخطوها تخطو أنت بأقدامك نحو المجهول ، بطيء حتى وأن تسارعت خطاي بالمسير .. ها أنا ذا أقف أنظر أليك أتوسلك ألا تقف هكذا بلا فعل تتوسد ذراعك وتغفو ،
لازلت أحمل قلبا نابضا بيدي رغم دائي العضال ، أحمله لا أعرف من أين جاء ني و لا إلى أين أنا ذاهب ، تغطي يدي الدماء تتقاطر حباتها على أرض موحلة ، كنت أظن أنها تنزّ من بين أناملي التي أصابها الخدر .. انظر إليك بعين مرتابة متسائلة .أصابني النفور والغثيان .
ضاعت تساؤلاتي في اضطراب أمواجك التي ليس لها قرار ..ابحث عن جواب ينهي فضولي ..ويعيدني إلى رشدي
تضطرب الأنوار على صفحات شاطئك المحترق بها ..
تكتسيك حلة نحاسية كل ساعة سحر قبل الأفول .. وأنا هنا في شقتي يقتلني الانتظار والارتياب
رن جرس التلفون .. صوت مبحوح يخترق سمعي
- إن لم تسلمنا الوثائق سنلحقك بها ...
انقطع الصوت ..وبدأ القلق يتسلل لقلبي .. أغلقت النوافذ وأوصدت الأبواب
تنفذ حزم الألوان عبر دعامات الجسر الحديدي لتغور للبعيد .. أنظر أليك من نافذتي
الألوان القرمزية تبدو كدماء مسفوحة على سطحك .. يا لك من نهر تتلون كلما تغيرت عليك الأزمان
الساعات تجثم على النفس ككابوس مخيف
لا أعرف أي ساعة ستحين منيتي
..جلست لاغترف منك قليلا من الماء . وضعت القلب إلى جانبي .خفت أن تبتلعه كما تبتلع الأنوار .. لا أعرف لم أنا متمسك به هكذا .. حاولت غسل يدي .. كنت حينها أشبه بمن يغوص ببركة كبيرة من الدماء .. كلما حاولت أن أمد يدي أليك أنفر من رائحة الموت .. يصيبني الغثيان ..
الأطفال ينظرون أليك بحذر يحلمون بصبح جديد ...يكسرون الجرار .. ويوقدون الشموع .لتطفو فيجرفها التيار باتئاد وأنت غير آبه لدعواتهم .. ولا لنذور النساء اللواتي يبحرن بأبصارهن مع مراكب الأمل المنشود ...
كانت فرحتنا لاتسعنا ونحن نضغط على أرقام الهاتف .. الوطن بحاجة لأبنائه الأبرار .. مل أولئك الضالين .. الجاحدين بنعمته ..
_ نعم .. نحن الرقابة المالية ...
_ سأسلمكم كل الوثائق .. ولكن كيف نضمن سلامتنا ...
_ لا تخافي ... سنؤمن حياتكما ..
الأشجار خلعت ثوبها الأخضر فبات عريها يثير الغرابة في نفوس البشر .وهي ترقد إلى جوارك بلا حراك . لم تتعر الأشجار من قبل .لكنها اليوم تعرت كما تتعرى النساء . فضحت خلوتنا ونحن نلوذ بين أفنانها ، تلقي برأسها على صدري المثقل بالهموم .. أخطف قبلة من وجنتيها فيكتسي وجهها بحمرة الحياء ..
أين أخبؤها من عيون الناس .. لازالت تلك الأرصفة بلا حجب تحجب عنا عين الرقيب ، لازالت الطرق تشهد إننا مررنا فوقها ومشينا الهوينى على جنباتها ، وضحكنا كما الأطفال دون أسباب ، أنت الوحيد الذي لم تحن لها وهي تصب دموع خوفها في أعماق مياهك ، لم تسألها حينها عن سبب بكائها .. لم تسألها ..
يا قرة العين ما الذي يبكيك . ؟
.بكت يا نهر حينما حاولوا أن يئدوا جنين حبنا الذي نما في الأحشاء منذ سنوات خلت ، الست شاهدا علينا حينما كنا نختلس النظرات خوفا من عيون العسس والرقباء . كم حاولت أن تفشي أسرارنا للغرباء ..؟
.أتذكر حين كنت أجالسها على ندي رمالك ..؟فرشت لها منديلي ، تتساقط حبات المطر بلا انقطاع ، يبتل شعرها المسنود على كتفي وفستانها يلتصق على بضاضة جسدها ،وجهها الصبوح تغسله قطرات الرذاذ ، تسحرني ابتسامتها تكشف عن أسنان كالعاج ، بلورات الماء تتجمع على شفتيها فأتوق لأن ألثمها ، حينها عزفت لنا الطبيعة أجمل سيمفونية ، قرأت برجها المكتوب على جدران الأماني وأنت تنصت ألينا .قرأت لها أشعاري ، أراجيز الطفولة حاضرة في ذهنها راحت ترددها ..
((مطر حيل حيل عبر بنات السهيل .. يا مطرا يا شاشا عبر بنات الباشا )
رحت أردد معها هناك في شقتي .. كانت قريبة من المدفأة تتدثر بغطاء يحجب عني جسدها العاري .. ترتشف الشاي بتلذذ .. تنظر إلي .. بعينين ساحرتي الاحورار. غفت بين أحضاني
ربما هالها أن تكون خطوط مستقبلنا هلامية لذا كانت تحلم بسحب دخان تكتظ بها الغرفة .. تحاول أن تطردها بيدها ..تسارع إلى النافذة لتفتحها .. لكن الغرفة بلا نوافذ ولا أبواب تدور في حلقة مفرغة بفزع
_ أكاد أختنق ..
بحثت طويلا .. عن محراب للصلاة كي أصلي وأعيد لها ولنفسي الاطمئنان . عن عيون تأتلق في ليال الظلمة الكأداء..أبحث عمن يفسر أضغاث أحلام .. غرست خنجري في رمال شاطئك .. علها تعيد إلي دماءها المسفوحة على ذاك الأديم ، بعد أن ارتشفتها مياه مدك دونما حياء ،
بالأمس حين عدت إلى شقتي وجدت أغراضي مبعثرة .. وكل ملابسي ممزقة ..وصورتها ملقاة على الأرض مهشمة الإطار .. زجاج نافذتي محطم .. وقيثارتي بلا أوتار .. صلبوا كتبي على الجدران .. وألقوا بدفاتري من النافذة ..
يا نهر إن القلب .. هو قلبي والدماء دمائي . نبضاته تصل سمعي دون عناء لازالت يدي مكتسية بذلك النجيع . لازالت الرياح تعصف بإصرار.. تحطم كل النصب التي شيدتها لها في خيالي .. روحي التي راقصت روحها .. تتوق لشم ذلك العطر الباريسي الذي أهديته لها ،و شممته بين خصلات شعرها .. بين تضاريس جسدها الممشوق ..
تراقصني تشدني إليها كأنها تريد أن نصير جسدا واحدا .. أطوف في عالم الخيال اللازوردي.. أرى شهرزاد تصوغ لنا حكاية .. لتزيد لياليها ليلة أخرى .. ليلة تزداد ألقا وتختمر بسحر تلك الليالي ..
عند الصباح داهمت قوات الأمن بيت أهلي ..يبحثون عن شيئا ما ..
_ جلاب للمصائب .. يا أحمد
قال أبي وهو يوصد الباب بوجهي ثم أضاف قائلا
_ دعنا نعيش بأمان
رائحة الرمال المنداة و المعفرة بالدماء تجذبني إلى المجهول رست سفني بالأمس هنا قبالة شاطئك لتستكشف الحقيقة بمسبار مشاعري
وحدسي .. الحقيقة تؤوب بعيدا ، تبعد عن عوالم تضوع منها رائحة البخور ..
آه ..لازالت قدماي تريد التسكع رغم البرد القارس . .
_ إنها حبك الأول والأخير ..
ضاعت .. منك .. بعتها بثمن بخس ..
ورقة وجدتها ملقاة تحت الباب ..
لذت بملاذ آخر أداري عيوني منها .. نظرت إلى غابة من النساء .المصطفات على طول ضفافك .
سرقت فرحتها يا نهر حين أعلنت خوفك منهم
احتقرت . ..هلعك .. وصمتك الأبدي ..
لملمت كل الشوارع المحاذية لشاطئك لأفرشها في مكان آخر علك تعود .إلى سابق عهدك
حين كان مدك هو المد الوحيد .. وصوت هديرك يصم الآذان ...
أني أراها تلبس ثوبها الفضفاض الشفاف .. تركض كأنها راقصة باليه معصوبة العينين .أرى جسدها يحجز نور الشمس تجري كما تجري أنت بلا توقف ، شعرها الممتد حتى خصرها الأهيف يطير وراءها كأنه سحب من دخان . يداك تمتد إليها تحاول احتضانها تحاول أن تجذبها إليك .رجال يركضون وراءها بأيديهم خناجر فضية يقاتلون بها الرياح . كنت أحاول إنقاذها لكن كفيّ مثبتة بالمسامير ، تركض بعيدا أراها تبعد .. تبعد .حتى تختفي عن الأنظار . وأنا هنا لا أستطيع ..
تميد الأرض تحت جسدي .. أحس بحبات الرمل تغطيني ..
لازلت أحمل تلك الوثائق .. مع ذلك القلب المذبوح .. الذي بدأ يصيبه الوهن ..
كان يضع قدميه على مكتبه ..ينظر إلي من خلف نظارته السوداء .. تتوسط أنامله سكينا لفتح الظروف .. كانت النار تلتهم الوثائق .. وهو ينظر إليها وعلى شفتيه ابتسامة .. وشعور بالنصر
_ أنت غبي .. لقد أهديتهم دمك بلا مقابل .. كانت تلك الوثائق ذات قيمة .. أما الآن فلا قيمة لها ..
كانت تلاحقني عيون الموظفين كمن ارتكب جرما ..
ضحك حينها أحدهم وقال لي متهكما ...
_ لا تلعب مع الكبار يا ولدي ..
جئت إليك يا نهر أشكوك قلة حيلتي ، وضعفي ..
_أتشكو إلي أم أشكو أليك ...؟
سمعت صوته صدقوني .. يا اااا,,, النهر خرج من صمته .. ولكن بعد فوات الأوان ...
فجأة راح القلب ينتفض بشدة ثم هدأ تحسسته .. وجدته بلا نبض .. رأيت فجوة كبيرة في صدري .. غارت يدي بين أحشائي الممزقة .. بحثت عن قلبي لم أجده بين أضلعي ...لم أستطع إعادته إلى مكانه .. كانت العيون ترقبني .. النهر . والرمال . وجسدي المسجى .. قرب الشاطئ ، المياه تغمرني محاولة الهروب منك إلي ، ثم تعود من جديد منسحبة نحوك معلنة انهزامها .. كل موجة تسحبني تريدني أن أكون جزءا منك يا نهر ...
سالم وريوش الحميد.
قصة قصيرة
سالم وريوش الحميد
كتبت على الجدران الحرة اسمي عل وأن أعلن براءتي من عالم موسوم بالرياء ، عالم تتناثر فيه الأجساد دون أن تجد من يحصيها عددا ، ترقد رقادها الأبدي على قارعات الطرق المضمخة بالدماء ،
_ لصوص .. قتلة ..
_ أحذر .. حماقاتك ..يا هذا..سنحفر قبرك بأيدينا ....
ذلك الحزن الكظيم الذي تسيّد على كل مشاعري ، فضحته عيوني وأنا أنظر متلهفا لتلك القدود تمر من أمامي دونما اهتمام ، تتناهبني الحسرات والآهات والأسى على من فقدت ،..حين تمر الذكريات على ذاكرتي المتخمة بالأفكار قد يتوقف كل شيء تكتسي روحي بحزن شفيف، تنعدم حركة الأشياء .. وأنا أميط اللثام عن وجهي المحروق بلهيب نار لازال لظاها يخترقني حتى الأعماق ، أيها النهر يا ذا الحزن الدائم .يا من أرقدتك الهموم أأنت حزين مثلي ..؟ أتزعجك تلك المصابيح الباهتة الأضواء التي تكتحل بها ضفتاك ، تخترق جسدك كنصل ذلك الخنجر الذي غار في أحشاء حبيبتي وأحالها إلى عالم الأموات ، وأنت الشاهد الوحيد .لكنك تلوذ بصمت أبدي ...كانت أصوات أقدامهم تكسر السكون وهي تهم إليها ..سبقوني ..
_ أنت ِ ....
وقبل أن تنطق حرفا .. اخترق قلبها نصل أعد لقتل الجمال فيها ..
ألم تسمع صوتها المكتوم يطلب منك أن تنقذها
يا لك من جاحد أيها النهر .. لمَ لمْ تهب لنجدتها
نحروا صوتها قبل أن تؤكد لهم تحديها وأنها ثابتة الجنان .. وفقؤوا عينيها قبل أن ترى وجوههم الموسومة بعارهم ..
رحلتي بدأت معك دون مقدمات . كل خطوة أخطوها تخطو أنت بأقدامك نحو المجهول ، بطيء حتى وأن تسارعت خطاي بالمسير .. ها أنا ذا أقف أنظر أليك أتوسلك ألا تقف هكذا بلا فعل تتوسد ذراعك وتغفو ،
لازلت أحمل قلبا نابضا بيدي رغم دائي العضال ، أحمله لا أعرف من أين جاء ني و لا إلى أين أنا ذاهب ، تغطي يدي الدماء تتقاطر حباتها على أرض موحلة ، كنت أظن أنها تنزّ من بين أناملي التي أصابها الخدر .. انظر إليك بعين مرتابة متسائلة .أصابني النفور والغثيان .
ضاعت تساؤلاتي في اضطراب أمواجك التي ليس لها قرار ..ابحث عن جواب ينهي فضولي ..ويعيدني إلى رشدي
تضطرب الأنوار على صفحات شاطئك المحترق بها ..
تكتسيك حلة نحاسية كل ساعة سحر قبل الأفول .. وأنا هنا في شقتي يقتلني الانتظار والارتياب
رن جرس التلفون .. صوت مبحوح يخترق سمعي
- إن لم تسلمنا الوثائق سنلحقك بها ...
انقطع الصوت ..وبدأ القلق يتسلل لقلبي .. أغلقت النوافذ وأوصدت الأبواب
تنفذ حزم الألوان عبر دعامات الجسر الحديدي لتغور للبعيد .. أنظر أليك من نافذتي
الألوان القرمزية تبدو كدماء مسفوحة على سطحك .. يا لك من نهر تتلون كلما تغيرت عليك الأزمان
الساعات تجثم على النفس ككابوس مخيف
لا أعرف أي ساعة ستحين منيتي
..جلست لاغترف منك قليلا من الماء . وضعت القلب إلى جانبي .خفت أن تبتلعه كما تبتلع الأنوار .. لا أعرف لم أنا متمسك به هكذا .. حاولت غسل يدي .. كنت حينها أشبه بمن يغوص ببركة كبيرة من الدماء .. كلما حاولت أن أمد يدي أليك أنفر من رائحة الموت .. يصيبني الغثيان ..
الأطفال ينظرون أليك بحذر يحلمون بصبح جديد ...يكسرون الجرار .. ويوقدون الشموع .لتطفو فيجرفها التيار باتئاد وأنت غير آبه لدعواتهم .. ولا لنذور النساء اللواتي يبحرن بأبصارهن مع مراكب الأمل المنشود ...
كانت فرحتنا لاتسعنا ونحن نضغط على أرقام الهاتف .. الوطن بحاجة لأبنائه الأبرار .. مل أولئك الضالين .. الجاحدين بنعمته ..
_ نعم .. نحن الرقابة المالية ...
_ سأسلمكم كل الوثائق .. ولكن كيف نضمن سلامتنا ...
_ لا تخافي ... سنؤمن حياتكما ..
الأشجار خلعت ثوبها الأخضر فبات عريها يثير الغرابة في نفوس البشر .وهي ترقد إلى جوارك بلا حراك . لم تتعر الأشجار من قبل .لكنها اليوم تعرت كما تتعرى النساء . فضحت خلوتنا ونحن نلوذ بين أفنانها ، تلقي برأسها على صدري المثقل بالهموم .. أخطف قبلة من وجنتيها فيكتسي وجهها بحمرة الحياء ..
أين أخبؤها من عيون الناس .. لازالت تلك الأرصفة بلا حجب تحجب عنا عين الرقيب ، لازالت الطرق تشهد إننا مررنا فوقها ومشينا الهوينى على جنباتها ، وضحكنا كما الأطفال دون أسباب ، أنت الوحيد الذي لم تحن لها وهي تصب دموع خوفها في أعماق مياهك ، لم تسألها حينها عن سبب بكائها .. لم تسألها ..
يا قرة العين ما الذي يبكيك . ؟
.بكت يا نهر حينما حاولوا أن يئدوا جنين حبنا الذي نما في الأحشاء منذ سنوات خلت ، الست شاهدا علينا حينما كنا نختلس النظرات خوفا من عيون العسس والرقباء . كم حاولت أن تفشي أسرارنا للغرباء ..؟
.أتذكر حين كنت أجالسها على ندي رمالك ..؟فرشت لها منديلي ، تتساقط حبات المطر بلا انقطاع ، يبتل شعرها المسنود على كتفي وفستانها يلتصق على بضاضة جسدها ،وجهها الصبوح تغسله قطرات الرذاذ ، تسحرني ابتسامتها تكشف عن أسنان كالعاج ، بلورات الماء تتجمع على شفتيها فأتوق لأن ألثمها ، حينها عزفت لنا الطبيعة أجمل سيمفونية ، قرأت برجها المكتوب على جدران الأماني وأنت تنصت ألينا .قرأت لها أشعاري ، أراجيز الطفولة حاضرة في ذهنها راحت ترددها ..
((مطر حيل حيل عبر بنات السهيل .. يا مطرا يا شاشا عبر بنات الباشا )
رحت أردد معها هناك في شقتي .. كانت قريبة من المدفأة تتدثر بغطاء يحجب عني جسدها العاري .. ترتشف الشاي بتلذذ .. تنظر إلي .. بعينين ساحرتي الاحورار. غفت بين أحضاني
ربما هالها أن تكون خطوط مستقبلنا هلامية لذا كانت تحلم بسحب دخان تكتظ بها الغرفة .. تحاول أن تطردها بيدها ..تسارع إلى النافذة لتفتحها .. لكن الغرفة بلا نوافذ ولا أبواب تدور في حلقة مفرغة بفزع
_ أكاد أختنق ..
بحثت طويلا .. عن محراب للصلاة كي أصلي وأعيد لها ولنفسي الاطمئنان . عن عيون تأتلق في ليال الظلمة الكأداء..أبحث عمن يفسر أضغاث أحلام .. غرست خنجري في رمال شاطئك .. علها تعيد إلي دماءها المسفوحة على ذاك الأديم ، بعد أن ارتشفتها مياه مدك دونما حياء ،
بالأمس حين عدت إلى شقتي وجدت أغراضي مبعثرة .. وكل ملابسي ممزقة ..وصورتها ملقاة على الأرض مهشمة الإطار .. زجاج نافذتي محطم .. وقيثارتي بلا أوتار .. صلبوا كتبي على الجدران .. وألقوا بدفاتري من النافذة ..
يا نهر إن القلب .. هو قلبي والدماء دمائي . نبضاته تصل سمعي دون عناء لازالت يدي مكتسية بذلك النجيع . لازالت الرياح تعصف بإصرار.. تحطم كل النصب التي شيدتها لها في خيالي .. روحي التي راقصت روحها .. تتوق لشم ذلك العطر الباريسي الذي أهديته لها ،و شممته بين خصلات شعرها .. بين تضاريس جسدها الممشوق ..
تراقصني تشدني إليها كأنها تريد أن نصير جسدا واحدا .. أطوف في عالم الخيال اللازوردي.. أرى شهرزاد تصوغ لنا حكاية .. لتزيد لياليها ليلة أخرى .. ليلة تزداد ألقا وتختمر بسحر تلك الليالي ..
عند الصباح داهمت قوات الأمن بيت أهلي ..يبحثون عن شيئا ما ..
_ جلاب للمصائب .. يا أحمد
قال أبي وهو يوصد الباب بوجهي ثم أضاف قائلا
_ دعنا نعيش بأمان
رائحة الرمال المنداة و المعفرة بالدماء تجذبني إلى المجهول رست سفني بالأمس هنا قبالة شاطئك لتستكشف الحقيقة بمسبار مشاعري
وحدسي .. الحقيقة تؤوب بعيدا ، تبعد عن عوالم تضوع منها رائحة البخور ..
آه ..لازالت قدماي تريد التسكع رغم البرد القارس . .
_ إنها حبك الأول والأخير ..
ضاعت .. منك .. بعتها بثمن بخس ..
ورقة وجدتها ملقاة تحت الباب ..
لذت بملاذ آخر أداري عيوني منها .. نظرت إلى غابة من النساء .المصطفات على طول ضفافك .
سرقت فرحتها يا نهر حين أعلنت خوفك منهم
احتقرت . ..هلعك .. وصمتك الأبدي ..
لملمت كل الشوارع المحاذية لشاطئك لأفرشها في مكان آخر علك تعود .إلى سابق عهدك
حين كان مدك هو المد الوحيد .. وصوت هديرك يصم الآذان ...
أني أراها تلبس ثوبها الفضفاض الشفاف .. تركض كأنها راقصة باليه معصوبة العينين .أرى جسدها يحجز نور الشمس تجري كما تجري أنت بلا توقف ، شعرها الممتد حتى خصرها الأهيف يطير وراءها كأنه سحب من دخان . يداك تمتد إليها تحاول احتضانها تحاول أن تجذبها إليك .رجال يركضون وراءها بأيديهم خناجر فضية يقاتلون بها الرياح . كنت أحاول إنقاذها لكن كفيّ مثبتة بالمسامير ، تركض بعيدا أراها تبعد .. تبعد .حتى تختفي عن الأنظار . وأنا هنا لا أستطيع ..
تميد الأرض تحت جسدي .. أحس بحبات الرمل تغطيني ..
لازلت أحمل تلك الوثائق .. مع ذلك القلب المذبوح .. الذي بدأ يصيبه الوهن ..
كان يضع قدميه على مكتبه ..ينظر إلي من خلف نظارته السوداء .. تتوسط أنامله سكينا لفتح الظروف .. كانت النار تلتهم الوثائق .. وهو ينظر إليها وعلى شفتيه ابتسامة .. وشعور بالنصر
_ أنت غبي .. لقد أهديتهم دمك بلا مقابل .. كانت تلك الوثائق ذات قيمة .. أما الآن فلا قيمة لها ..
كانت تلاحقني عيون الموظفين كمن ارتكب جرما ..
ضحك حينها أحدهم وقال لي متهكما ...
_ لا تلعب مع الكبار يا ولدي ..
جئت إليك يا نهر أشكوك قلة حيلتي ، وضعفي ..
_أتشكو إلي أم أشكو أليك ...؟
سمعت صوته صدقوني .. يا اااا,,, النهر خرج من صمته .. ولكن بعد فوات الأوان ...
فجأة راح القلب ينتفض بشدة ثم هدأ تحسسته .. وجدته بلا نبض .. رأيت فجوة كبيرة في صدري .. غارت يدي بين أحشائي الممزقة .. بحثت عن قلبي لم أجده بين أضلعي ...لم أستطع إعادته إلى مكانه .. كانت العيون ترقبني .. النهر . والرمال . وجسدي المسجى .. قرب الشاطئ ، المياه تغمرني محاولة الهروب منك إلي ، ثم تعود من جديد منسحبة نحوك معلنة انهزامها .. كل موجة تسحبني تريدني أن أكون جزءا منك يا نهر ...
سالم وريوش الحميد.
تعليق