حُمّى الدّائرة / محمد فطومي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد فطومي
    رئيس ملتقى فرعي
    • 05-06-2010
    • 2433

    حُمّى الدّائرة / محمد فطومي

    حُمّى الدّائرة

    عبدو! إنّه يومك الاستثنائيّ الذي طالما انتظرته. أفق! أنت اليوم سيّد العجب !
    نهض عبدو متثاقلا كأنّ سلاسل توثقه إلى الفراش. منذ أقامت البلديّة متاريس دائريّة موزّعة كغرابيل عملاقة وسط ساحة الميدان، و هو يبذل جهدا مضاعفا ليغادر مضجعه. لبس ثيابه على عجل، لا يتطلّب الأمر كبير عناء فهي مُعلّقة على كرسيّ محاذ. خرج. نادرا ما كان عبدو يلتقي زوجته أو أحد بناته و هو يغادر البيت مُتّجها إلى عمله.. إلى الميدان.
    سوق مجنونة للدّهشة، بدأ "عبدو" رحلته مها بائع شاي مُتجوّل. كان حينها ظلاّ مؤنسا في منأى عن الأذى، تماما كميّت. لم يعد شعوره بالأمان ذاك يتجدّد كذي قبل منذ قرّر إطلاق حلقة خاصّة به، و لقد اختار عبدو لحلقته ما اكتسبه من عبر و فنون خطاب طيلة معاشرته لمروّضي الكلام و الأفاعي و الحواسّ.
    بنغمة رجاء واثقة صار "عبدو" يجمع النّاس حوله بعدما أمضى ما يزيد عن عشر سنوات على هامش الإبهار. "العالم حقيبة بداخلها زيّ رسميّ و صاروخ و أختام، أمّا حقيبتنا فبداخلها قبّعة مُضحكة و أسمال بالية و قارورة ماء". تلك هي العبارات التي ما انفكّ يردّدها كلمّا قلّ عدد الوافدين و بات لزاما على كلّ ربّ حلقة أن يستدرج النّاس لصالحه. أمّا حين تكون السّاحة ضاجّة فتراه ينادي بحماس مصطنع: " تقدّموا. لا يفوتكم العرض. إنّي ملق عليكم اليوم قولا يؤنسكم و الله المؤنس!".
    إنّه يومه الاستثنائيّ! حليفه الذي سيعينه على استرداد اعتباره. على القصاص ربّما. كلام ابنته الكبرى لا يبرح وجدانه: "أبي، أصحابي في المدرسة يسخرون منّي. يقولون لي إنّ أباك متسوّل.". يشعر اليوم بأنّه كتلة من العزم. الدّرب تحدّثه بذلك مع كلّ خطوة يخطوها.
    وصل السّاحة. توسّط إحدى الحلقات المسوّرة الشّاغرة. كمنشّط سرك، و كما بمفعول سحريّ نادى: " الميدان رحب و جريء يا سادة.. يا سادة؛ العالم أكثر اتّساعا من الميدان و أكثر جسارة، لكنّه مسالم و شبيه بنا دون وصيّ..اقتربوا نحن أوفر حظّا لنسافر في الفرح..ليس بيننا ثريّ أو فقير.. الكلّ على قدم المساواة.. اليوم، سيسخر الكلّ من الكلّ."

    طاقة عجيبة راحت تتسلّل إليه كلّما دنا أحد الوافدين من حلقته. لم يسمع عبدو يوما عن طاقة المكان، و لا عن شحنة الموجودات و لا عن خوارق الشّكل الدّائريّ. فار الدّم في عروقه، فأسلم نفسه للتيّار. إلى الجحيم مغامرات السّندباد و بطولات أبو زيد الهلالي. الظّاهرة أكبر. لا يدري من كان يمدّه بالكلام، يشعر فقط أنّ طاقة المخلوقات قد تجمّعت في جسد واحد. جسده هو. هو دون غيره.
    يومها روى للناس كما لم يخطر على قلبه يوما، حكاية مملكة سعيدة دكّها أهلها دكّا لمّا بات لكلّ نزر تحيّة لا يرضى بغيرها و لا يُفشي سواها.
    حدّثهم أيضا عن بلد بزغت فيها شمسان فألفهما الناس بعد أيّام قليلة، حتّى أنّ أكثر ما أصبح يُدهش الرّجل منهم ستارة في حافلة تعجز عن حجب إحداهما..
    و عن مدينة أقيم فيها قوس في العراء فصار الناس لا يمرقون ذهابا و إيّابا إلاّ عبره و هم في ازدحام شديد..
    رويدا رويدا بدأت تجتاح روحه طاقة إضافيّة عاصفة، ارتعشت لها أوصاله و ارتجّ لها بدنه كالممسوس، أحسّ كأنّ به نهرا هادرا مندفعا. فانبرى بأناقة منقطعة النّظير يرقص التانغو حينا و يلوي أطرافه على نحو مستحيل حينا آخر. ازدادت الطّاقة غيلانا في صدره فوقف على يد واحدة، هو الذي لم يجرّب الوقوف على ساق واحدة قطّ. هتف المتفرّجون، فحوّل ثقل جسمه بوثبة رشيقة إلى اليد الأخرى. ناوب الوقوف على يديه مرّات قبل أن يقفز عاليا لينتصب ثابتا على قدميه. مكث هكذا برهة تعالت فيها صيحات الإعجاب و الذّهول. بسط قبضتيه إلى الأمام ثمّ فتحهما تدريجيّا فإذا فقاقيع صابون لا تحصى تنطلق من بين كفّيه لتغمر الفضاء، محلّقة فوق الرّؤوس. فقاقيع الصّابون تملأ المكان، عددها مهول كأنّها تتناسل من بعضها. مختفيا وسط كريّاته القزحيّة ارتفع عبدو تدريجيّا كأحد الفقاقيع. لم يعد عبدو الحكواتيّ معنيّا بالجاذبيّة. ها إنّه يتشقلب في الهواء كرائد فضاء داخل مركبة. شهقات الإعجاب تزلزل كيانه حماسا و غبطة. فجأة ينتهي كلّ شيء ليجد نفسه جاثيا على ركبتيه كأبطال المسارح. انهالت الدّراهم كالمطر على أرضيّة الحلقة. لم يقو عبدو على جمعها. صوت ارتطامها فوق الأرض يحدث رنين عشرات الأجراس في رأسه. تلاشت الأصوات تدريجيّا إلى أن اختفت تماما. لم يعد عبدو يصغي إلى شيء سوى دقّات قلبه.

    "متاريس..حواجز و متاريس.. المتاريس تمنع الحلقة من التوسّع..الحلقة تولد ضيّقة..أوصياء العالم المسالم يقرّرون حيّز السّرور و كفاية الأرزاق..متى احتاج الوئام قضبان الحديد..أين قوّتي؟ .."

    عبدو..الناس يطالبون بالمزيد. أفق! عبدو.. لن تخذل جمهورك..أفق!

    رفع عبدو رأسه ببطء فلمح شمسين تسبحان في كبد السّماء. كانتا متناغمتين كطائرتين ورقيّتين. رأى البنايات حوله تبتعد. كان على استعداد ليقسم بأنّها ليست مجرّد تهيّؤات. كانت تلك الصّور الحقيقيّة آخر ما نفثته فيه روح الدّائرة من طاقة. جلس. مدّ ساقيه على نحو مريح جاعلا راحتيه على الأرض. أسبل جفنيه و استقبل السّماء بوجهه مغمض العينين. كانت لحظة مثاليّة ليبدّد شعورا بالمرارة اكتسحه.
    ربّما استيقظ عبدو يوما.. فقط كم كان بودّه لو محق المتاريس بإشارة من يديه حين كانتا عجيبتين. كان قد أحسّ بالطّاقة تندفع حارّة صوب مقدّمة أصابعه. لو أشار إلى الحواجز من بعيد لهدمها. كم تمنّى لو كان بوسعه أن يفعل. كان باستطاعته القيام بذلك..بلى، كان قادرا على أن يسوّيها الأرض، بل لقد همّ أن يفعل، لو لا أنّ أغلب الناس في الصفّ الأوّل كانوا متّكئين عليها.

    ***
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد فطومي; الساعة 28-10-2014, 21:13.
    مدوّنة

    فلكُ القصّة القصيرة
  • نورة الدوسري
    عضو الملتقى
    • 09-10-2014
    • 23

    #2
    الله الله .. يا إلـهي ما هذا الإبداع! .. روووووووووووعه روعه قلمك.. احتاج لفتره حتى اعود من بين السحاب ،واكتب تعليقا على هذه اللوحة العاااااااااااااااااالمية /تحيتي ،،
    التعديل الأخير تم بواسطة نورة الدوسري; الساعة 29-10-2014, 12:19.

    تعليق

    • نورة الدوسري
      عضو الملتقى
      • 09-10-2014
      • 23

      #3
      كان قادرا على أن يسوّيها الأرض، بل لقد همّ أن يفعل، لو لا أنّ أغلب الناس في الصفّ الأوّل كانوا متّكئين عليها.

      تعليق

      • البكري المصطفى
        المصطفى البكري
        • 30-10-2008
        • 859

        #4
        الأديب الراقي محمد الفطومي ؛ قص جميل وممتع ؛ تنحت عباراتك بدراية الفنان الماهر.
        تحيتي ومودتي.
        التعديل الأخير تم بواسطة البكري المصطفى; الساعة 29-10-2014, 13:16.

        تعليق

        • وفاء الدوسري
          عضو الملتقى
          • 04-09-2008
          • 6136

          #5

          يا أستاذ: محمد فطومي
          هذا النص من العيار الثقيل , نص كبير وحمله ثقيل ..
          لا يمكننا أمامه غير الوقوف والتأمل ..
          من يخرج للحياة عليه أن لا ينسى السوط
          كل إنسان على هذه الأرض لغز.. ونفوس الرجال عميقة..
          وتيارات سيولهم كما يقال هادرة داخل كهوف ضاربة في أعماق الأرض
          ولا يمكن أن يدرك كنهها غير الرجال أنفسهم..
          والرجال تعشق الحياة بصدق، بل العشق الحقيقي للرجال هو حبهم للحياة..
          لذلك يتشكل هذا الرجل فيكون المحارب
          المقاتل
          المهرج
          الممثل الرجل ..

          شكرا للقيمة للثراء للإبداع
          ودي واحترامي
          التعديل الأخير تم بواسطة وفاء الدوسري; الساعة 29-10-2014, 16:09.

          تعليق

          • محمد فطومي
            رئيس ملتقى فرعي
            • 05-06-2010
            • 2433

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة نورة الدوسري مشاهدة المشاركة
            الله الله .. يا إلـهي ما هذا الإبداع! .. روووووووووووعه روعه قلمك.. احتاج لفتره حتى اعود من بين السحاب ،واكتب تعليقا على هذه اللوحة العاااااااااااااااااالمية /تحيتي ،،
            تحيّة طيبة نورة الدوسري،
            أعتزّ بما جدتِ به من عبارات مشجّعة أختي الكريمة،
            فائق الامتنان.
            مدوّنة

            فلكُ القصّة القصيرة

            تعليق

            • محمد فطومي
              رئيس ملتقى فرعي
              • 05-06-2010
              • 2433

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة البكري المصطفى مشاهدة المشاركة
              الأديب الراقي محمد الفطومي ؛ قص جميل وممتع ؛ تنحت عباراتك بدراية الفنان الماهر.
              تحيتي ومودتي.
              أنفخ على الغبار أكثر ممّا أنحت أستاذ بكري.
              أسوق لك محبّتي الخالصة ، تسرّني مصافحك أستاذي.
              مدوّنة

              فلكُ القصّة القصيرة

              تعليق

              • بسباس عبدالرزاق
                أديب وكاتب
                • 01-09-2012
                • 2008

                #8
                أجدني أمام هذا النص مذهولا و منبهرا...أجدني أصفق بحرارة و أرفع القبعة و أنحني بتواضع شديد

                لابد من قراءة أخرى أستاذي
                الجميل في النص
                هو هذا البطل العادي جدا، بطل بإمكانه أن يكون أي شخص في أراضي الوطن العربي
                و ربما يكون امتدادا للصمت الذي يسكننا، الذي نرفض أن نتحدثه


                شكرا أستاذي لمتعة القراءة

                محبتي و تقديري استاذ محمد فطومي
                السؤال مصباح عنيد
                لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

                تعليق

                • محمد فطومي
                  رئيس ملتقى فرعي
                  • 05-06-2010
                  • 2433

                  #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة وفاء عرب مشاهدة المشاركة

                  يا أستاذ: محمد فطومي
                  هذا النص من العيار الثقيل , نص كبير وحمله ثقيل ..
                  لا يمكننا أمامه غير الوقوف والتأمل ..
                  من يخرج للحياة عليه أن لا ينسى السوط
                  كل إنسان على هذه الأرض لغز.. ونفوس الرجال عميقة..
                  وتيارات سيولهم كما يقال هادرة داخل كهوف ضاربة في أعماق الأرض
                  ولا يمكن أن يدرك كنهها غير الرجال أنفسهم..
                  والرجال تعشق الحياة بصدق، بل العشق الحقيقي للرجال هو حبهم للحياة..
                  لذلك يتشكل هذا الرجل فيكون المحارب
                  المقاتل
                  المهرج
                  الممثل الرجل ..

                  شكرا للقيمة للثراء للإبداع
                  ودي واحترامي
                  حلُم فحلمت بمن يقرأ حلمه وفاء،
                  حضورك هنا بهذا الانتباه الاستثنائيّ يجعلني أشتغل أكثر كي أحافظ عليه.
                  أجانب الحقيقة لو قلت لك بأنّي قد أغفر لنفسي العودة من رحلة بحث دون أن أعثر على شيء، لستُ متسامحا كما يدعونا إلى ذلك أهرام الأدب، و ذاك ما يخيفني.
                  يحبّون الحياة نعم، لا لأنّ بها بهجة أو فرصا لتسجيل بعض الانتصارات، بل لأنّها غير قابلة للترويض.
                  خالص ودّي وفاء.
                  مدوّنة

                  فلكُ القصّة القصيرة

                  تعليق

                  يعمل...
                  X