اعتذار لمبدع الاعتذاريات في أدبنا العربي
تميزت أمتا العربية بتاريخ عظيم وفريد،صنعه رجال أفذاذ قاموا بدور عظيم وهيؤوا الأمة لتسود الأمم وتقوم بدورها في رفد الحضارة الإنسانية بالمزيد من الثقافة والعلوم،وكشأن كل الأمم مرت على أمتنا العربية مرحلة زمنية انقطع فيها الرافد الحضاري لأسباب متعددة،أو ما أطلق عليه المؤرخون عصور الانحطاط التي غطت فيها الأمة العربية في سبات ثقافي وعلمي عميق،مما أعطى الفرصة للمغرضين الذين حاولوا بكل ما يملكون من جهد تشويه تراث أمتنا العظيم والإساءة إلى رجاله المتميزين لإضعاف ثقة الإنسان العربي بدور أمته الحضاري،وبرجالها المخلصين.
ومن هؤلاء الذين طالهم التشويه احد شعرائنا الأفذاذ ،وهو شاعر كبير عاش في العصر الجاهلي وتميز بنبوغه في إبداعه حتى لقب بالنابغة وكان له أثر واضح في تاريخنا الأدبي ،
ولكن المغرضين ساءهم ذلك فراحوا يختلقون له القصص والتفسيرات التي تجعله مستجديا يتكسب في شعره، ويتذلل أمام الملوك من أجل الوصول إلى العطايا والهبات منهم،وخاصة في اعتذارياته التي أبدعها في شعرنا العربي.
وقد تبعناهم نحن-بكل أسف-دون تمحيص أو تفكير، فأخذنا هذه الأفكار ورحنا نزرعها في عقول ناشئتنا،ونرسم صورة مشوهة لشاعرنا وغيره دون أدنى تدقيق أو تثبت فيما ننسبه لتاريخنا.
وبالعودة إلى التاريخ وتدقيق معطياته نجد أن هذه الأفكار مختلقة ومقحمة فيه ولا أساس لها من الصحة فالنابغة الذبياني -زياد بن معاوية- سيد من سادات ذبيان، حكيمٌ عاقلٌ، وقورٌ، ذو خلق كريم ، عاش في بيئة قبلية صرفة تمجِّدُ القيم والشهامة والمروءة، وتشكل وحدة اجتماعية متلاحمة، متماسكة، تجمع بين أفرادها المصلحة المشتركة،فالقبيلة تحمي كل فرد ينتسب إليها، وتدافع عن حقوقه، وتطالب بدمه إذا تعرض لمكروه ، كما أنها تقوى بقوته إن كان قوياً، وتعظم بشأنه إن كان ذا شأن ، وبالمقابل فهي تتأثر بفساده إن كان عضواً فاسداً وتقصيه عنها، وتذمه إن كان ذميم الخلق سيئ السمعة.
وبعبارة أدق:تفرض الحياة القبلية على كل ذي نخوة وشهامة أن يقدم جهوده بل وحياته في سبيل شرف القبيلة والمحافظة على كيانها،مقابل محافظة القبيلة على حقوقه الشرعية والدفاع عنه وعن عائلته.
ومن خلال ما تقدم نعرف أن الشاعر جزء من قبيلته ،يهتم بمصالحها ويدافع عنها فهو ممثل لقبيلته عند الأطراف الأخرى،وهو سفير القبيلة في الخارج يمثلها في المؤتمرات والأحلاف،وهو وسيطها في عقد اتفاقيات الصلح والتحالف، وما إلى ذلكمما له علاقة بالشؤون الخارجية.
ومن الطبيعي أن يكون لقبيلة الشاعر أصدقاء وأعداء، فقد كانت ذبيان موالية لقبيلة بني أسد،وفي عداء مستمر مع قبيلتي عبس وعامر ، وهاتان القبيلتان من أحلاف النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، وكان لزاماً لذلك أن يقوم النابغة(سفير قبيلته) بالاتصال بالنعمان بن المنذر ويوطد العلاقة معه (مراعاة لصالح قبيلته) فلزم قصره يمدحه ويتغنى بمناقبه واستمر في ذلك حتى لقي الحظوة عنده، وأصبح شاعره الفذَّ.
ولكن طبيعة الجزيرة العربية وتغير ظروف الحياة القائمة على الرعي والبحث عن مواطن الكلأ والماء، كان يدفع بقبيلة ذبيان كما هو الحال عند القبائل العربية الأخرى التي تعيش في الجزيرة العربية إلى الترحل بحثاً عن المراعي عندما تجدب صحراء النفود التي يستوطنون بها ؛ وما كانوا ليجدوا أرضاً أخصب من شمال شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام التي يسيطر عليها أمراء بني غسان؛ فتحدث نتيجة لذلك حروب ينتصر الغسانيون في أكثرها فيقتلون ويأسرون،ومن هذه الحروب (يوم ذي أقر)، وذو أقر واد خصب كثير المياه يقع تحت سيطرة الملك الغساني النعمان بن الحارث ، نزلت به قبيلة ذبيان فنهاهم الملك الغساني وحذرهم، ولكن حاجتهم للمراعي والمياه أعمت أبصارهم، وحاول النابغة تنبيه قومه وتحذيرهم من بطش الغساسنة فلم يسمعوا، فذاقوا نتيجة ذلك عندما أوقع بهم الملك الغساني وقعة منكرة،فنكل بهم وأسر الكثير منهم وسبى كثيراً من نسائهم، مما اضطر النابغة إلى مغادرة بلاط المناذرة والتوجه إلى بلاط الغساسنة للتوسط لديهم للكف عن قومه، ورد الحرية إلى من أسروا وسبوا منهم ، وأن لا يعودوا إلى حرب قومه وأحلافهم:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقروعن تربعهم في كل أصفار
وقلت: يا قوم!إن الليث منقبضعلى براثنه،لوثبه الضاري
لا يخفض الرِّزق عن أرض ألم بهاولا يضل على مصاحبه الساري
وعيرتني بنو ذبيان خشيتهوهل علي بأن أخشاك من عار
وعلى هذا النحو كانت سفارته لدى الغساسنة ذات فوائد جليلة لقومه وأحلافهم ، ولكن هذه السفارة جعلت ملك الحيرة النعمان بن المنذر يغضب عليه غضباً شديداً، إذ رأى أن مدح النابغة للغساسنة إعلان ولائه وولاء قبيلته لهم ،وبذلك كان ذنب النابغة عند النعمان بن المنذر عظيماً.
ولكن النابغة لم ينس مصالح قومه عند المناذرة، ولم ينس صداقته للنعمان بن المنذر فاخذ يرسل القصيدة تلو القصيدة يستعطفه ويعتذر إليه دون أن يحظى بعطفه أو العفو عنه:
فداء لامرئ سارت إليهبعذره ربها ، عمي وخالي
ومن يغرف من النعمان سجلافليس كمن يتيه في الضلال
فإن كنت امرأ قد سؤت ظناًبعبدك والخطوب إلى تبال
فأرسل في بني ذبيان فاسألولا تعجل إلي عن السؤال
ولو كفي اليمين بغتك خوناًلأفردت اليمين عن الشمال
واستمر النابغة على هذه الحال حتى كثرت هذه القصائد التي سميت فيها بالاعتذاريات؛ وقد تفوق فيها النابغة تفوقاً ظاهراً،إذ نحس في اللهجة إلحاحاً في التلطف محاولاً ن يزيل من نفس النعمان ظنه السيئ فيه،مدبجاً في ذلك قصائدَ طوالَ تُعَدُّ من أروع ما خلفه العصر الجاهلي مستعيناً بموهبته في اختراع الصور والمعاني والتدقيق بها ، متوخياً صدق اللهجة وسهولة اللفظ وحسن الديباجة، فهو يصور ضخامة ذنبه ويأخذ في التنصل منه بتقديم شتى المعاذير ، خالطاً الاعتذار بمديح النعمان والثناء عليه:
أنبئت أن أبا قابوس أوعدنيولا قرار على زأر من الأسد
مهلا فداء لك الأقوام كلهموما أثمر من مال ومن ولد
لا تقذفني بركن لا كفاء لهإن تأنفك الأعداء بالرفد
فما الفرات إذا هب الريح لهترمي أواذيه العبرين بالزبد
يمده كل واد مترع لجبفيه ركام من الينبوت والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصمابالخيزرانة، بعد الين والنجد
يوما بأجود منه سيب نافلةولا يحول عطاء اليوم دون غد
فالناس جميعاً من غساسنة وغيرهم فداء للنعمان، وهو يفديه بماله وولده، ثم يقول له لا ترمني بما لا أطيق، وأنت الشجاع الذي لا يستطيع الأعداء مهما تآزروا أن يثبتوا لك، وأنت الكريم بلا حدود ، فالفرات مهما أعطى من مائه لا يدانيك من كرم.
وباستعراض الاعتذاريات نجد النابغة مستعطفاً،مسترحما، بذوق جيد اختيار الصور والمعاني، ذوق هذَّبَتْهُ الحضارة التي عرفها وعاشها فجعلته رقيق الحس متأنقا في مديحه واعتذاره:
وعيد أبي قابوس في غير كنههأتاني ودوني راكس فالضواجع
فبت كأني ساورتني ضئيلةمن الرقش في انيابها السم ناقع
أتاني- أبيت اللعن- أنك لمتنيوتلك التي تستك منها السامع
مقالة أن قد قلت سوف أنالهوذلك من تلقاء مثلك رائع
لعمري، وما عمري علي بهينلقد نطقت بطلا علي الأقارع
أتاك بقول هلهل النسج كاذبولم يأتي بالحق الذي هو ناصع
أتاك بقول لم أكن لأقولهولو كبلت في ساعدي الجوامع
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةوهل يأثمن ذو أمة، وهو طائع
فإنك كالليل الذي هو مدركيوإن خلت أن المنتأى عنك واسع
أتوعد عبداً لم يخنك أمانة؟وتترك عبداً ظالماً وهو ظالع؟
وأنت ربيع ينعش الناس سيبهوسيف أعيرته المنية قاطع
وهو بذلك قد فتح صفحة جديدة في الشعر العربي،صفحة الاعتذاريات والاستعطافات وما يجري فيها من الحس االمرهف والشعور الرقيق،وإذا أضفنا إلى كل ذلك أخلاق النابغة الرفيعة التي تتمثل في وقاره وارتفاعه عن الدنيات ووفائه لأصدقائه،عرفنا منزلته التي احتلها في الشعر العربي،وعرفنا كذلك مدى التشويه والإساءة التي تعرض لها دون أن يجد من يدفع عنه هذه التهمة الدنيئة التي تحط من منزلته الشعرية والاجتماعية، ولا يكون قد بالغنا إذا قلنا: أن النابغة عاش لقبيلته،وغن قبيلة عاشت به، فهو جزء لا يمكن أن يتجزأ منها.