على العشب الأخضر يكسو الأرض فوق متسّع السهل حتى الأفق , ويتفلَّق مزدهرا بلطخات من الطيف هنا وهناك تتقاطر أسراب البنات من القرى حول البئر جيئةً وذهاباً , كزكرشة خيطٍ متقطع الالوان , ناصباتٍ جرارهن فوق رؤوسهن , مائجاتٍ على المنعطفات في الطريق , يتراقصن على إيقاعاتها لإحداث التوازن عند رجرجة الماء في الجرار .
يَمْسكْنَ بالحبل متضامنات , ويجرِيْنَ كسربٍ حافياتٍ لتصعيد الدلو من قعر البئر بعد أن امتلأ بالماء ... ينتثرن حول إحداهنّ تملأ جرتها ويتبادلن الأحاديث والحكايات .. تقترب إحداهن من أخرى لتهمس في أذنها بنبأٍ لايليق بها إذاعته على الأخريات .
خلال رحلته المكوكية بين منزله والمرعي يرد بغنمه الماء في حوض الماء الطيني على جانب الطريق عند البئر التي تتحلق حولها الفتيات الواردات من القرى المجاورة .... يقف عليها حتى ترتوي فيهش عليها بعصاه ويذهب ........ .
في هذه المرة رآها , نشبت عيناه فيها ولم تغادرها .
جفّت الماء في الجبل , وانْغَزَلَ المطر خيوطا خفيفة من الضباب في السماء , فهبطت مَيْسُوْنُ على السهل بجانب البئر لتجلب الماء ...
الطريق من قمة الجبل إلى البئر كسحبة ثعبان ولا مساحة لحركة على الطريق غير نقل القدم إلى الأمام .
منذ اليوم يرد غنمه على الحوض , ويبقى تحت ظل الشجرة بجانب البئر , لا يهشُّ عليها ... يتريّثُ حتى تملأ جرَّتها , تحملها فوق رأسها وتذهب , تصعد المنحدر وكأن طبولا ترافقها , تقرع حولها , وتصعد معها لتشكيل خطاها فوق حدبات الصخور وعلى الفراغات بينها .
في الأيام التاليات راحت ميسون تقضي وقتا أطول في جلب الماء من البئر في السهل .
كُنَّ يُقدّمنها , ويملأن جرتها قبل جرارهن , يتحالفن على سحب الحبل ورفع الدلو من قاع البئر ويتركنها تستريح , يمْلَأْنَ جرّتها , ويرفعنها فوق رأسها لتذهب وتصعد الجبل , ثم يقمن بملء جرارهن ... يسحبن الحبل مرة أخرى متضامنات ويملأن الجرار الواحدة تلو الأخرى على قاعدة : الواردة أولاً تملأ أولا , سوى ميسون بنت حبيب شيخ الجبل فسيملأن جرّتها أولا في كل الأحوال .
تمنّى أن يُعَطِّلَ هذا النظام وأن يستبدله , أن تتقدمّهن في المجيئ وأن تتأخرَهُنَّ في الرواح , وأن يتركنها ويذهبن , وأن يذهبن وتبقى ويبقى قريبا منها ليتقدم ويسحب الحبل , حبل جرّتها فحسب , يملؤها , ثم يرفعها ويستطيل ويستطيل... ويضعها فوق رأسها , وعلى مهل . ...
فيما جرَّتها ممتلئة ستقتنص زمنا لايلحظْنَهُ للبقاء هنا .. تلاعبهنّ , تمازحهن , وتراجمهن بحبات الطين بجانب الحوض والحصوات , حين الغنم ترد الحوض ,وترتوي , بينما ساري تحت الشجرة القريبة ينتظر غنمه حتى تقفل نحوه مرتويات ..
في الأيام التاليات بدأ ت الغنم تتأخر عند الحوض وترتوي على مهل , تتلمَّس في ميسون التي تمسح على ضهورها برفق , فيما عيناها تذهبان إلى تحت الشجرة , وفيما يدع ساري غنمه تستريح تحت لمسات أناملها . .
كانت تستمع إلى حكايات صديقاتها عن الرَعَوِيْ والذي تمكَّن دون غيره من الناس من التغلب على القشوي * وقتْلِهِ في المنازلة التي تمت بينه وبين هذا الحيوان المفترس الذي يكمن في الليل عند مفترق الطرق بين الهضبة والسهل , والذي تقع فيه البئر وتتفرع منه الطرقات إلى القرى , ليباغت فريسته ويمارس عليها طقوسه . .
يغيب القشوي طوال النهار ويخرج من عرينه بعد مغرب كل يوم ليفترس كل من يصادف مروره هنا , يقبل في سرعة فائقة نحو فريسته ثم يدور حولها , يَلطّخ عينيها بالتراب , وينبش بمخالبه الحادة نحوها الحجار والحصوات , يعمي فريسته .. يدميها .. ويصيبها بالدوار , تقاوم لكنه يظل يدرو حولها في سرعة كبيرة ويمطرها على الدوام بسيل الأحجارالنخرة والحصوات الحادة وعاصفة من الغبار فتصاب بالدوار , وتسقط مدماةً في حالة إغماء , فينقض عليها , فلا تفيق إلا على طعنات أظافره وغريز أنيابه . .
سُمِّيَ ساري لأنه يسري الليل في الخلوات غير آبهٍ بالوحوش والهوام , وقيل أنه ركب على النسر وذهب إلى بلاد بعيدة لايعلم بها أحدٌ سواه .
وفي ليلة من ليالي سريانه الطويل فاجأه القشوي قادما نحوه , يتضوَّرُجوعا , فلم يفترس أي كائن حيّ منذ أيام بعد أن اختط المارة طريقا غير هذه الطريق بسبب من الأخبار التي انتشرت عن ضحاياه من الحيوانات والبشر , وماأكده الجميع من أنه يفضل افتراس الانسان , وأن فريسته من الحيوان وبدافع غريزي تلصق بفريسته الانسان إذا تصادف ثلاثتهم لتضرب عصفورين بحجر في النجاة من القشوي ومن الانسان .
أقبل القشوي مزمجرا بعينين تقدح بالشرر حين لمح ساري في الظلام ليلطمه بقوته الخارقة .
زاغ ساري عن القشوي فذهب مترنحاَ بسبب من سرعته ليختل توازنه ويسقط ويتقلّب إلى الأمام وليزداد غضبا ويوجه نظراته العبوسة القاتلة الحاقدة نحو ساري .
تحفَّزَ القشوي وأطلق نخيرا حاداً وبدأ هجمته الحاسمة وراح يدور بسرعة فائقة حول فريسته
, وضع ساري عينيه في نصف إغماضة حتى لا تنطفئ عيناه فيصاب بالدوار وانبطح أرضا حتى لاتصيبه الأحجار النخرة فتسيل دماؤه . .
ظن القشوي بأن ساري قد أصيب بالدوار ودخل في إغماءة الموت كما يحدث لفرائسه في كل مرة فاطمأنّ , وأخذ يتمطّى ويختال في طريقه إليه ليفترسه , وقبل أن يرفع القشوي مخلبه ويغرزه في عنقه كان ساري قد استبقه واستل سيفه من غمده ليغرزه في رقبته وينحره ويرديه متخبّطا في دمه في حين يقفز بعيدا عن متناول مخلبيه .
لكن القشوي يحتضر ثم يموت .
ولأن ساري هو أشجع الرجال فقد قام بحفر قبر بجانب البئر , رَبَطَ القشوي إلى حَبْلٍ وسحبه , أنزله في جوف القبر , وأهال عليه التراب .
نظرت ميسون نحو ماتبقى من أثر لقبر القشوي والذي نخره النباش** في ذات الليلة وحمل جثته إلى مكان غير معلوم عند بيته في الغابة , وتذكرت حكايات جدتها في ليالي طفولتها بان النباش ينادي في وقت متأخر من الليل على هذا الذي ستحين وفاته عمّا قريب بقولته الذائعة الصيت : يافلان حلّيتني بك ***, وأن أحدا غيرمن تحلّى به النباش لايسمع النداء , حتى المحيطين به , والساكنين معه في جوف عُشّة * ***, أو بين أربعة جدران غرفة , وحتى شريكة حياته التي تنام معه على ذات السرير , وحين يموت ويتم دفنه يأتي النباش في الليل ويحفر القبر ويحمل جثة الميّت ويذهب به إلى بيته في الغابة والذي لم يستطع أحد العثور عليه على مرّ العصور , وأن البعض القليل فقط من الناس هم من شاهد النباش وهو يحمل جثّةً على كتفيه متحلِّقاً عليها , ويصفونه بكائن من القرد والانسان , يمشي على قدمين ويكسوه شعر غزير , وله كفان كمحراثين وبهما أظافر كالمزاميل . .
تقول لها الفتيات بأن النباش يحفر قبور البشر الذين تحلّى بهم ولكنه لم يحمل حيوانا على ظهره إلى بيته البعيد غير حيوان القشوي الذي قتله ساري , ولأن حيوانا لم يدفن تحت الأرض وفي قبر كالانسان , غيره القشوي الذي دفنه ساري .
.........................
في ليلة من الليالي المقمرة وعند الساعات الأولى من الفجر كان سليم إبن عمة ميسون متقرفصا في الطرف من حافة الجبل المطلة على السهل فرأى وكأن شجرة خضراء تمشي بجانب الطريق الصاعدة من السهل إلى إلى قمة الجبل كما يمشي البشر فصعق , بسط كفّيه على صدره , وأحسّ بدوار , وكاد أن يغمى عليه , فاستعاذ من الشيطان وقرأ المعوذتين وعاد ودخل البيت مسرعا كي لايشاهده الشيطان فيخترقه ويسكن فيه . .
لم يخبر أحداً , سيتبيّن لهم بأنه قد فقد عقله فلم يكن قد تأكّد له بأن شجرة خضراء بقامة إنسان تدبّ على الأرض كما يدبّ الانسان .
مرةً أخرى شاهد شجرة خضراء تتحرك على المنحدر هابطة , تمشي ثم تقف , ثم تمشي ثم تقف ثم تغيب , حمد الله أنها تذهب بعيدا عنه نحو السهل , لكنها تغيب قبل أن تصل إلى السهل وهكذا هم الشياطين .
كاد أن يصاب بالجنون حقاً في هذه المرة حين شاهد شجرة ذات جذعين لا تتحرك على المنحدر فحسب , بل وتصعد نحو نافذة حجرة ميسون على الطرف من الهضبة .
لم يتحقّق له ولوج الشيطان إلى حجرتها , كانت حجرة ميسون تنحدر نحو الجهة المقابلة , لكن الشيطان اختفى هناك , عند انحدار النافذة . .
عينا ساري تذهب في السماء , تسبح في غابة الأنجم التي اختطها الذبح العظيم يسحبه جبريل في الطريق من الله إلى إبراهيم إفتداءا لابن الجارية إسماعيل ..
سَحْبةُ الأضحية ***** تخلف ضبابا كثيفا يطغى على الأجواء في السماء برذاذ من أنجم لا تنتهي .
كالضباب النجمي في السماء أخرج نهدته كائنات حبّ ترقص في كل ذردة من الفضاء العالي . .
لا يذكر متى غابا والديه , حين الآن ليسا في عينيه على السرير, إما خلف عشّة القش أو بداخلها سيقضيان غرضهما ليس إلا , بعيدا عن عينيه ويعودان .
سمع رشرشة الماء , ليسا معاً خلف عشة القش , الفحولة في الماء تكشف عن نفسها , صوت الماء عورة فوق جسد المرأة .
كل شيئ ينام الآن ليس أبواه فحسب , الأنفاس تغوص , والديكة تصيح , تناول خنجره , شده إلى جنبه , رفع عصاه على كتفه , دفع الباب وخرج .
الشرق بنفسجيٌّ فوق الجبال , يشفُّ في الأسفل على السطح , ويتألق على أكتاف الأودية , يسافر في أجوافها منحدرا إلى الغرب في قماشة من الضباب شفافة , تبيح فتنة الماء الفاتحة على أحضان الفجر ..
الْعُشْبُ يرفل في السطح , ويعود رُوَيْداً رُوَيْداً , صاعداً على الجانبين من ضفاف الوديان نحو الجبال , تتخلله بعض شجيرات ككائنات بشرية نصف قائمة .
خرير الماء الهائم أبدا كفلقات صدرها يمر به دون توقف , وعلى كف الجبل العالي يتألق منزلها بين كل المنازل المعلّقة فوق أكف الجبال المجاورة ككائنات مستطرقة يتم عرضها في الشرق .
ذلك المنحدر قبل قليل , يرهف سمعه إلى خريرصدرها المائج , الملفوف بالخضرة الطاغية , الغائص في الفضاء ات التي ظلت طريقها بين الجبال إلى السحيق نحو الوادي في القعر البعيد
.
عيناها نحو القعر من المنحدر تتصيده ساري فارس الأحلام .
انقشع جسدها في الأسفل تحت السترة فلقتين حين أسندت مرفقها على الفخذ المقوس فوق النافذة مستندة على قدمها في القاع من الحجرة .
القمر يعبر السماء بين أرتال من السحب البهيجة والمنطوية معا , يصيغ دراما الليل في الجوف بين الجبال إلى الأسفل مضمخة بألوان حلمية .
هسيس الليل ينفخ في الفضاء , ونجمة المصباح تتوهج من نافذة حجرتها حينا وتختفي حيناخلف ستارة خفيفة من الضباب . .
يعتمر فوق رأسه عشبة خضراء , خطوتان ثم يقف , هكذا لن يلحظه أحد ضمن خرير العشب المنسكب بالخضرة على كرمشة الجبل الصاعد حتى حجرتها .
لايمكنه الصعود إلى مستوى النافذة ,. كان منحدرا حادا , تشير إليه بالدوران حول جدران حجرتها حتى يناظر بابها ويتقرفص تحت عشبته الخضراء ا .
تقف ميسون على أطراف أصابعها وتذهب نحو باب حجرتها لتفتحه رويدا رويدا تلافيا لأي صرير , ترسل عينيها في الأجواء حولها تترصّد أي قادم أو ذاهب في الزقاق , ثم تشير إليه قابعا كعشبة بالدخول , وتسحب الباب إليهما وتغلقه .
الحبّ هنا ليس إلا
الحب ليس للفضاءات
الحب محاصر في الحجرات المغلقة
وفوق قمة الجبل المعتمرة بعمامة الضباب يتحلّق بشر.
تصل جلجلة حديثهم من بين الظلام كريح في صحراء
, لن تستطيع تمييز المتكلم منهم على الدوام
جلبة الحديث المختلط لا تدلُّ على أمر بعينه , ولا تعلن عن أصحابها .
ينبلج الضوء فجأة من مصباح الكيروسين الذي أضاء للتو خلال رقرقة الضباب فيمن حوله ليفتح على الأوجه المتحلقة حول وجهه الوقور بلحيته الكثة الحمراء معتمرا شاله المنقوش .
كان أحدهم قادما للتو , لم يَلْوِ على أحد غير الشيخ حبيب ليقترب منه ويدنو من أذنه ويسرّ فيها بقولٍ ما .
•- - إنه أبي .. تضع كفها الحنين بكلّ الذعر على صدرها وتبحلق في عينيّ ساري .
تطوف عيناه في المكان .. ليس غير الباب والنافذة , غير السبيل بعد الباب غير السحيق بعد النافذة , ينظر في عينيها , في وجدها المعتقل في الاعماق .. يضع يده على المصباح ماذا يريد بالمصباح ؟ يتركه ويذهب نحو النافذة , ستسمك به , تقبّله تضمّه ,تذوب فيه , تصير فيه , تَهْوِيْ فيه , في وجه آخر ستطويه في قلبها , ستحفظه حيث لاأحد يراه , في جوفها , لها من دون كل الناس , تحجبه هناك , بعيدا عن أبيها عن كل البشر , عن القدر , لن تدعه يهوي إلى القعر , لكن ساري يهوي , يرمي بالعشبة إلى السحيق ويصعد إلى النافذة ويهوي .. سيقتلهما معاً إن دخل عليهما , طرقات على الباب ساخطة , تفتح ميسون الباب , يقفز ساري من النافذة إلى السحيق , كأنها ابتلعت الجبل والشجر وأباها ,
- ستتزوجين ياميسون .. إبن عمتك سليم , غدا سنعقد القران .
قيل بأن القشوي عاد وانتقم من ساري , كان يكمن له , وأن النباش نفخ في أذنيه وأحياه , وعند القبر المغمور الذي حفره ساري ووارى ثراه هناك , كَمَنَ القشوي ذات ليلة حتى أتي ساري في طريقه بين يديه دون ضجيج , ودون منازلة .
وفي حكاية أخرى أنه وبعد أن دفن القشوي وأهال عليه التراب فقد ركب ساري على ظهرالنسر وحلّق عالياً , وكان النباش يحفر القبر وينبش التراب ليحمل الجثة إلى بيته البعيد فأطلق نداءه المشهور : ياساري حَلِّيْتَنِيْ بَكْ , وأن ساري قد سمع نداء النبّاش وهو في السماء .
في ليلة من الليالي مقمرة كان ساري يركب فوق ظهر النسر ويحلق فوق الجبل قافلاً إلى بيته , وفي حين أرخى النسر مخلبيه استعدادا للهبوط فقد حان في تلك اللحظة أجل سامي في السماء , فلم يتأخر لحظة مثلما لم يتقدم لحظة فهوى وتحطم فوق الصخور فجاء النباش وحمل جثته متحلِّقا عليها فوق ظهره إلى مكان غير معلوم .
............
*حيوان من فصيلة النمور
**حيوان شبيه بالغوريلا
*** حلّيتني بك : جعلتك لي لايشاركني فيك أحد
**** كوخ
***** هي " مجرّة أندروميدا وهي أقرب المجرات إلى درب التبانة , والتي ضمنها مجموعتنا الشمسية ". .
يَمْسكْنَ بالحبل متضامنات , ويجرِيْنَ كسربٍ حافياتٍ لتصعيد الدلو من قعر البئر بعد أن امتلأ بالماء ... ينتثرن حول إحداهنّ تملأ جرتها ويتبادلن الأحاديث والحكايات .. تقترب إحداهن من أخرى لتهمس في أذنها بنبأٍ لايليق بها إذاعته على الأخريات .
خلال رحلته المكوكية بين منزله والمرعي يرد بغنمه الماء في حوض الماء الطيني على جانب الطريق عند البئر التي تتحلق حولها الفتيات الواردات من القرى المجاورة .... يقف عليها حتى ترتوي فيهش عليها بعصاه ويذهب ........ .
في هذه المرة رآها , نشبت عيناه فيها ولم تغادرها .
جفّت الماء في الجبل , وانْغَزَلَ المطر خيوطا خفيفة من الضباب في السماء , فهبطت مَيْسُوْنُ على السهل بجانب البئر لتجلب الماء ...
الطريق من قمة الجبل إلى البئر كسحبة ثعبان ولا مساحة لحركة على الطريق غير نقل القدم إلى الأمام .
منذ اليوم يرد غنمه على الحوض , ويبقى تحت ظل الشجرة بجانب البئر , لا يهشُّ عليها ... يتريّثُ حتى تملأ جرَّتها , تحملها فوق رأسها وتذهب , تصعد المنحدر وكأن طبولا ترافقها , تقرع حولها , وتصعد معها لتشكيل خطاها فوق حدبات الصخور وعلى الفراغات بينها .
في الأيام التاليات راحت ميسون تقضي وقتا أطول في جلب الماء من البئر في السهل .
كُنَّ يُقدّمنها , ويملأن جرتها قبل جرارهن , يتحالفن على سحب الحبل ورفع الدلو من قاع البئر ويتركنها تستريح , يمْلَأْنَ جرّتها , ويرفعنها فوق رأسها لتذهب وتصعد الجبل , ثم يقمن بملء جرارهن ... يسحبن الحبل مرة أخرى متضامنات ويملأن الجرار الواحدة تلو الأخرى على قاعدة : الواردة أولاً تملأ أولا , سوى ميسون بنت حبيب شيخ الجبل فسيملأن جرّتها أولا في كل الأحوال .
تمنّى أن يُعَطِّلَ هذا النظام وأن يستبدله , أن تتقدمّهن في المجيئ وأن تتأخرَهُنَّ في الرواح , وأن يتركنها ويذهبن , وأن يذهبن وتبقى ويبقى قريبا منها ليتقدم ويسحب الحبل , حبل جرّتها فحسب , يملؤها , ثم يرفعها ويستطيل ويستطيل... ويضعها فوق رأسها , وعلى مهل . ...
فيما جرَّتها ممتلئة ستقتنص زمنا لايلحظْنَهُ للبقاء هنا .. تلاعبهنّ , تمازحهن , وتراجمهن بحبات الطين بجانب الحوض والحصوات , حين الغنم ترد الحوض ,وترتوي , بينما ساري تحت الشجرة القريبة ينتظر غنمه حتى تقفل نحوه مرتويات ..
في الأيام التاليات بدأ ت الغنم تتأخر عند الحوض وترتوي على مهل , تتلمَّس في ميسون التي تمسح على ضهورها برفق , فيما عيناها تذهبان إلى تحت الشجرة , وفيما يدع ساري غنمه تستريح تحت لمسات أناملها . .
كانت تستمع إلى حكايات صديقاتها عن الرَعَوِيْ والذي تمكَّن دون غيره من الناس من التغلب على القشوي * وقتْلِهِ في المنازلة التي تمت بينه وبين هذا الحيوان المفترس الذي يكمن في الليل عند مفترق الطرق بين الهضبة والسهل , والذي تقع فيه البئر وتتفرع منه الطرقات إلى القرى , ليباغت فريسته ويمارس عليها طقوسه . .
يغيب القشوي طوال النهار ويخرج من عرينه بعد مغرب كل يوم ليفترس كل من يصادف مروره هنا , يقبل في سرعة فائقة نحو فريسته ثم يدور حولها , يَلطّخ عينيها بالتراب , وينبش بمخالبه الحادة نحوها الحجار والحصوات , يعمي فريسته .. يدميها .. ويصيبها بالدوار , تقاوم لكنه يظل يدرو حولها في سرعة كبيرة ويمطرها على الدوام بسيل الأحجارالنخرة والحصوات الحادة وعاصفة من الغبار فتصاب بالدوار , وتسقط مدماةً في حالة إغماء , فينقض عليها , فلا تفيق إلا على طعنات أظافره وغريز أنيابه . .
سُمِّيَ ساري لأنه يسري الليل في الخلوات غير آبهٍ بالوحوش والهوام , وقيل أنه ركب على النسر وذهب إلى بلاد بعيدة لايعلم بها أحدٌ سواه .
وفي ليلة من ليالي سريانه الطويل فاجأه القشوي قادما نحوه , يتضوَّرُجوعا , فلم يفترس أي كائن حيّ منذ أيام بعد أن اختط المارة طريقا غير هذه الطريق بسبب من الأخبار التي انتشرت عن ضحاياه من الحيوانات والبشر , وماأكده الجميع من أنه يفضل افتراس الانسان , وأن فريسته من الحيوان وبدافع غريزي تلصق بفريسته الانسان إذا تصادف ثلاثتهم لتضرب عصفورين بحجر في النجاة من القشوي ومن الانسان .
أقبل القشوي مزمجرا بعينين تقدح بالشرر حين لمح ساري في الظلام ليلطمه بقوته الخارقة .
زاغ ساري عن القشوي فذهب مترنحاَ بسبب من سرعته ليختل توازنه ويسقط ويتقلّب إلى الأمام وليزداد غضبا ويوجه نظراته العبوسة القاتلة الحاقدة نحو ساري .
تحفَّزَ القشوي وأطلق نخيرا حاداً وبدأ هجمته الحاسمة وراح يدور بسرعة فائقة حول فريسته
, وضع ساري عينيه في نصف إغماضة حتى لا تنطفئ عيناه فيصاب بالدوار وانبطح أرضا حتى لاتصيبه الأحجار النخرة فتسيل دماؤه . .
ظن القشوي بأن ساري قد أصيب بالدوار ودخل في إغماءة الموت كما يحدث لفرائسه في كل مرة فاطمأنّ , وأخذ يتمطّى ويختال في طريقه إليه ليفترسه , وقبل أن يرفع القشوي مخلبه ويغرزه في عنقه كان ساري قد استبقه واستل سيفه من غمده ليغرزه في رقبته وينحره ويرديه متخبّطا في دمه في حين يقفز بعيدا عن متناول مخلبيه .
لكن القشوي يحتضر ثم يموت .
ولأن ساري هو أشجع الرجال فقد قام بحفر قبر بجانب البئر , رَبَطَ القشوي إلى حَبْلٍ وسحبه , أنزله في جوف القبر , وأهال عليه التراب .
نظرت ميسون نحو ماتبقى من أثر لقبر القشوي والذي نخره النباش** في ذات الليلة وحمل جثته إلى مكان غير معلوم عند بيته في الغابة , وتذكرت حكايات جدتها في ليالي طفولتها بان النباش ينادي في وقت متأخر من الليل على هذا الذي ستحين وفاته عمّا قريب بقولته الذائعة الصيت : يافلان حلّيتني بك ***, وأن أحدا غيرمن تحلّى به النباش لايسمع النداء , حتى المحيطين به , والساكنين معه في جوف عُشّة * ***, أو بين أربعة جدران غرفة , وحتى شريكة حياته التي تنام معه على ذات السرير , وحين يموت ويتم دفنه يأتي النباش في الليل ويحفر القبر ويحمل جثة الميّت ويذهب به إلى بيته في الغابة والذي لم يستطع أحد العثور عليه على مرّ العصور , وأن البعض القليل فقط من الناس هم من شاهد النباش وهو يحمل جثّةً على كتفيه متحلِّقاً عليها , ويصفونه بكائن من القرد والانسان , يمشي على قدمين ويكسوه شعر غزير , وله كفان كمحراثين وبهما أظافر كالمزاميل . .
تقول لها الفتيات بأن النباش يحفر قبور البشر الذين تحلّى بهم ولكنه لم يحمل حيوانا على ظهره إلى بيته البعيد غير حيوان القشوي الذي قتله ساري , ولأن حيوانا لم يدفن تحت الأرض وفي قبر كالانسان , غيره القشوي الذي دفنه ساري .
.........................
في ليلة من الليالي المقمرة وعند الساعات الأولى من الفجر كان سليم إبن عمة ميسون متقرفصا في الطرف من حافة الجبل المطلة على السهل فرأى وكأن شجرة خضراء تمشي بجانب الطريق الصاعدة من السهل إلى إلى قمة الجبل كما يمشي البشر فصعق , بسط كفّيه على صدره , وأحسّ بدوار , وكاد أن يغمى عليه , فاستعاذ من الشيطان وقرأ المعوذتين وعاد ودخل البيت مسرعا كي لايشاهده الشيطان فيخترقه ويسكن فيه . .
لم يخبر أحداً , سيتبيّن لهم بأنه قد فقد عقله فلم يكن قد تأكّد له بأن شجرة خضراء بقامة إنسان تدبّ على الأرض كما يدبّ الانسان .
مرةً أخرى شاهد شجرة خضراء تتحرك على المنحدر هابطة , تمشي ثم تقف , ثم تمشي ثم تقف ثم تغيب , حمد الله أنها تذهب بعيدا عنه نحو السهل , لكنها تغيب قبل أن تصل إلى السهل وهكذا هم الشياطين .
كاد أن يصاب بالجنون حقاً في هذه المرة حين شاهد شجرة ذات جذعين لا تتحرك على المنحدر فحسب , بل وتصعد نحو نافذة حجرة ميسون على الطرف من الهضبة .
لم يتحقّق له ولوج الشيطان إلى حجرتها , كانت حجرة ميسون تنحدر نحو الجهة المقابلة , لكن الشيطان اختفى هناك , عند انحدار النافذة . .
عينا ساري تذهب في السماء , تسبح في غابة الأنجم التي اختطها الذبح العظيم يسحبه جبريل في الطريق من الله إلى إبراهيم إفتداءا لابن الجارية إسماعيل ..
سَحْبةُ الأضحية ***** تخلف ضبابا كثيفا يطغى على الأجواء في السماء برذاذ من أنجم لا تنتهي .
كالضباب النجمي في السماء أخرج نهدته كائنات حبّ ترقص في كل ذردة من الفضاء العالي . .
لا يذكر متى غابا والديه , حين الآن ليسا في عينيه على السرير, إما خلف عشّة القش أو بداخلها سيقضيان غرضهما ليس إلا , بعيدا عن عينيه ويعودان .
سمع رشرشة الماء , ليسا معاً خلف عشة القش , الفحولة في الماء تكشف عن نفسها , صوت الماء عورة فوق جسد المرأة .
كل شيئ ينام الآن ليس أبواه فحسب , الأنفاس تغوص , والديكة تصيح , تناول خنجره , شده إلى جنبه , رفع عصاه على كتفه , دفع الباب وخرج .
الشرق بنفسجيٌّ فوق الجبال , يشفُّ في الأسفل على السطح , ويتألق على أكتاف الأودية , يسافر في أجوافها منحدرا إلى الغرب في قماشة من الضباب شفافة , تبيح فتنة الماء الفاتحة على أحضان الفجر ..
الْعُشْبُ يرفل في السطح , ويعود رُوَيْداً رُوَيْداً , صاعداً على الجانبين من ضفاف الوديان نحو الجبال , تتخلله بعض شجيرات ككائنات بشرية نصف قائمة .
خرير الماء الهائم أبدا كفلقات صدرها يمر به دون توقف , وعلى كف الجبل العالي يتألق منزلها بين كل المنازل المعلّقة فوق أكف الجبال المجاورة ككائنات مستطرقة يتم عرضها في الشرق .
ذلك المنحدر قبل قليل , يرهف سمعه إلى خريرصدرها المائج , الملفوف بالخضرة الطاغية , الغائص في الفضاء ات التي ظلت طريقها بين الجبال إلى السحيق نحو الوادي في القعر البعيد
.
عيناها نحو القعر من المنحدر تتصيده ساري فارس الأحلام .
انقشع جسدها في الأسفل تحت السترة فلقتين حين أسندت مرفقها على الفخذ المقوس فوق النافذة مستندة على قدمها في القاع من الحجرة .
القمر يعبر السماء بين أرتال من السحب البهيجة والمنطوية معا , يصيغ دراما الليل في الجوف بين الجبال إلى الأسفل مضمخة بألوان حلمية .
هسيس الليل ينفخ في الفضاء , ونجمة المصباح تتوهج من نافذة حجرتها حينا وتختفي حيناخلف ستارة خفيفة من الضباب . .
يعتمر فوق رأسه عشبة خضراء , خطوتان ثم يقف , هكذا لن يلحظه أحد ضمن خرير العشب المنسكب بالخضرة على كرمشة الجبل الصاعد حتى حجرتها .
لايمكنه الصعود إلى مستوى النافذة ,. كان منحدرا حادا , تشير إليه بالدوران حول جدران حجرتها حتى يناظر بابها ويتقرفص تحت عشبته الخضراء ا .
تقف ميسون على أطراف أصابعها وتذهب نحو باب حجرتها لتفتحه رويدا رويدا تلافيا لأي صرير , ترسل عينيها في الأجواء حولها تترصّد أي قادم أو ذاهب في الزقاق , ثم تشير إليه قابعا كعشبة بالدخول , وتسحب الباب إليهما وتغلقه .
الحبّ هنا ليس إلا
الحب ليس للفضاءات
الحب محاصر في الحجرات المغلقة
وفوق قمة الجبل المعتمرة بعمامة الضباب يتحلّق بشر.
تصل جلجلة حديثهم من بين الظلام كريح في صحراء
, لن تستطيع تمييز المتكلم منهم على الدوام
جلبة الحديث المختلط لا تدلُّ على أمر بعينه , ولا تعلن عن أصحابها .
ينبلج الضوء فجأة من مصباح الكيروسين الذي أضاء للتو خلال رقرقة الضباب فيمن حوله ليفتح على الأوجه المتحلقة حول وجهه الوقور بلحيته الكثة الحمراء معتمرا شاله المنقوش .
كان أحدهم قادما للتو , لم يَلْوِ على أحد غير الشيخ حبيب ليقترب منه ويدنو من أذنه ويسرّ فيها بقولٍ ما .
•- - إنه أبي .. تضع كفها الحنين بكلّ الذعر على صدرها وتبحلق في عينيّ ساري .
تطوف عيناه في المكان .. ليس غير الباب والنافذة , غير السبيل بعد الباب غير السحيق بعد النافذة , ينظر في عينيها , في وجدها المعتقل في الاعماق .. يضع يده على المصباح ماذا يريد بالمصباح ؟ يتركه ويذهب نحو النافذة , ستسمك به , تقبّله تضمّه ,تذوب فيه , تصير فيه , تَهْوِيْ فيه , في وجه آخر ستطويه في قلبها , ستحفظه حيث لاأحد يراه , في جوفها , لها من دون كل الناس , تحجبه هناك , بعيدا عن أبيها عن كل البشر , عن القدر , لن تدعه يهوي إلى القعر , لكن ساري يهوي , يرمي بالعشبة إلى السحيق ويصعد إلى النافذة ويهوي .. سيقتلهما معاً إن دخل عليهما , طرقات على الباب ساخطة , تفتح ميسون الباب , يقفز ساري من النافذة إلى السحيق , كأنها ابتلعت الجبل والشجر وأباها ,
- ستتزوجين ياميسون .. إبن عمتك سليم , غدا سنعقد القران .
قيل بأن القشوي عاد وانتقم من ساري , كان يكمن له , وأن النباش نفخ في أذنيه وأحياه , وعند القبر المغمور الذي حفره ساري ووارى ثراه هناك , كَمَنَ القشوي ذات ليلة حتى أتي ساري في طريقه بين يديه دون ضجيج , ودون منازلة .
وفي حكاية أخرى أنه وبعد أن دفن القشوي وأهال عليه التراب فقد ركب ساري على ظهرالنسر وحلّق عالياً , وكان النباش يحفر القبر وينبش التراب ليحمل الجثة إلى بيته البعيد فأطلق نداءه المشهور : ياساري حَلِّيْتَنِيْ بَكْ , وأن ساري قد سمع نداء النبّاش وهو في السماء .
في ليلة من الليالي مقمرة كان ساري يركب فوق ظهر النسر ويحلق فوق الجبل قافلاً إلى بيته , وفي حين أرخى النسر مخلبيه استعدادا للهبوط فقد حان في تلك اللحظة أجل سامي في السماء , فلم يتأخر لحظة مثلما لم يتقدم لحظة فهوى وتحطم فوق الصخور فجاء النباش وحمل جثته متحلِّقا عليها فوق ظهره إلى مكان غير معلوم .
............
*حيوان من فصيلة النمور
**حيوان شبيه بالغوريلا
*** حلّيتني بك : جعلتك لي لايشاركني فيك أحد
**** كوخ
***** هي " مجرّة أندروميدا وهي أقرب المجرات إلى درب التبانة , والتي ضمنها مجموعتنا الشمسية ". .
تعليق