يعبر وحده

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • الأديب السيد حنفي
    عضو الملتقى
    • 04-06-2007
    • 378

    يعبر وحده








    يعبـر وحــده





    يعزفها
    السـيد حنـفـي










    الخطوط البيضاء على وجه السماء تشققت, تشعب فيها الجفاف, ما عادت تمطر الرحمات, تكسوها تكوينات بدائية خالية من بهجة الألوان, الأفق يمتد من تيه إلى تيه, يبحث عن ألوان قوس قزح, الجهات نائية خالية من الظلال والأسئلة..
    جلست أمامه امرأة عجوز, جذبت كفيه, ارتعدت حين بسطهما أمام وجهها, أشارت بذعر إلى الجماجم الحجرية الموشومة على كفه الأيسر, تساءلت عن المرأة التي تلهو بزهر القرنفل على كفه الأيمن..
    أغمض عينيه كأنه يستدعي ذاكرة من وادي النسيان, جذبت كفيه بعنف, حاولت انتزاعهما, تصارعا بمقدار ما مضى من الحياة, حين مل الصراع لطمها, صارت وشما كعلامة استفهام تعانق الجماجم الحجرية الموشومة على كفه..
    ألقى الألواح على الهواء, حملته الرياح إلى الراهب, هكذا علمه الراهب كيف يأتيه..
    - أين كنت ؟
    تدوي الرياح في أذنيه فلا يدرك غير الصفير, آه لو يستطيع أن يحيل ذلك إلى نغم..
    - هل قابلت العرافة الأم فرسمتها على كفك سؤالا ؟
    - لماذا يا سيدي.. لماذا ؟
    أوغل الراهب نظراته في قلب الخواء, همس:
    - كأنك تطرح ذاتا من ذات لتحصل على وهم يسبح في فضاء لا متناهي بلا جدوى..
    - أريد أن أهرب من ذاتي..
    - يجب أن تكون ذاتا حتى تستطيع أن تهرب منها..
    - فما أنا إذن.. ؟
    - مجرد شئ تبولته امرأة أثر نوبة فزع..
    - دلني سيدي إلى سبيل الفرار..
    - من ماذا ؟ إلى أين ؟ لقد رأيت الأجساد تهرب من أرواحها, ورأيت الأرواح تهرب من أجسادها.. أما أنت.. ! لا أدري.. روح بلا جسد.. ؟ أم جسد منزوع الروح.. ؟ لا أرى منك سوى رأس وكفان.. فكيف ترتاد الحياة, وسط أولئك الذين يولدون من الرماد ليحيلوا المدن إلى خراب.. ؟
    غرق في شروده, داعبه الراهب بالصمت, غاص في دوائر التوهم, رأى خيمة تطوف حولها أرواح المطرودين.. دخلها، رأى شبحا كأنه وشم على ظل رجل..ناداه:-
    - يا أنت..
    لا يلتفت للنداء, يعود صدى صوته وحيدا خائبا, يصيح:
    - يا أنا..
    بلا جدوى يضيع النداء بين العتمة والسكون.. يصرخ:
    - يا هو..
    يلتفت إليه, ملامحه كالزمن الصدئ..
    - ماذا تريد أيها الذي كان.. ؟
    - كفاي مرآة لوجودك..
    - إذا كان الوجود ذاته بلا جدوى, فما جدوى كفيك.. ؟
    - تعرف فيهما المصير..
    - أي مصير.. ؟ قد تخطينا مراحل التحول والكينونة والمصير, أنظر إلى كفيك.. لن تجد سوى مدافن الأحلام, وسماء عارية من الطيور, من السحاب, من الضياء.. النجوم على كفيك صارت رمادا دنسته أحذية الغزاة, نعم قد يخرج الفجر من بينهما بطيئا, لكنه ما عاد يجدي.. فلا خطواتك صارت أملا, ولا وهمك بات شفيع.. نحن أموات بلا ضريح, سائرون بلا طريق, خطواتنا سراب, رؤانا زيف.. أبتر كفيك أيها الذي كان.. فليس لنا في الوجود وجود.. أبتر كفيك ودعنا ننعم بلذة الضياع..
    وبسرعة اختفى وسط دوائر التوهم، وهو تائه بين الطلاسم المرسومة على كفيه، يصفع وجه القمر، فيمطر حكاياته على حدود الأيام النائمة في كهف الزمن..
    ألقى الألواح, حملته الرياح إلى الراهب..
    - هل أستطيع أن أعبر إلى أمل الحياة ؟
    حك لحيته الثلجية, أشار إلى صخرة منزوع عنها الكبرياء, يستلقي خلفها جسدان يستحمان بنظرات القمر الغافية, همس:
    - هذان.. أحدهما أتى عابرا النهار المحشو بالحشرات حتى سقط في هوة العتمة الصامتة, والآخر ظل يبحث عن البريق الطاهر حتى جاء حبوا يجرجر هزائمه, رقدا هنا.. بعد أن داست عظامهما أقدام من يتبولون الأحلام..
    - سيدي.. هل أستطيع أن أشتري النقاء بأغنية.. ؟
    - إذا كنت لا تملك أملا فكيف تغني ؟
    - أوشم لي أملا..
    - أمل.. ؟ أي أمل أستطيع أن أمنحه لمفقود.. ؟ هل تذكر صرختك الأولى حين لفظك الغيب في جوف إمرأة تبولتك مرتجفة ؟ لتبدو كما أنت.. مجرد رأس يتفجر فيه الألم, وكفان يحاصرهما الردى, تحت سماء تتدلى منها عناقيد الغضب..
    - أنا متحد بالعدم.. ساقط من قاع الحياة في جوف الفناء, كيف أروي ظمأ الأحياء بغير دمي, بغير إهدار مشاعري على أرض الجدب في عتمة الليل الطويل.. آه يا زمن الضياع, قد لفظتني مفقودا وسط عتمة يملأها الغزاة بأناشيد الموت, وألوان الدماء المهدرة, فماذا تبغي مني وقد صارت أشلائي مبعثرة بين أنيابك..
    مد الراهب يده ليداعب الرأس الباكي, همس:
    - أنت ككل الواهمين, الحالمين بالحياة فوق المكان, ضد الوقت.. لن تستطيع أن تسمو فوق أناشيدهم, ورقصهم المحموم, المبتلى بالهذيان, وحين تلفظ أنفاسك الحياتية, لن يواروك بالموسيقى, لن تشم عبير الشعر الحر.. حين تموت لن يقتلوك, فقط سيلقونك عند مفترق الطرق الغبية, ستأنف من عفنك الكلاب, أما جوارح الطير فلن تفقأ عينيك, لأن المشاهد المختزنة في ذاكرة رؤياك تأنف من ألوانها الوحوش الطائرة..
    سيتحلل رأسك, ثم يسيل كطغيان الألم, وبعد برهة سيركلون موتك, ويلعنون صمتك, ويمزقون سكونك المبتلى, لتطلق في نهاية أمرك آهة تسمو فوق رؤوس المتأرجحين على الصلبان..
    - أوشم لي سيدي نافذة أعبر منها إلى أمل الحياة..
    - ليس في الحياة أمل, ولا أمل في الحياة..
    - يأسك قاتل..
    - لقد رأيت مرارا الأرض تحترق, والمدن تنفجر صوب السماء, والسماء تمطر رماد المحترقين..
    - ذاكرتي شديدة الحزن.. لا تحوي غير الخوف والظلال والحجارة وبريق السيوف ودوي المدافع ولون الدماء, وذلك الغضب المكبوت في قلب المدن التي تئن تحت أقدام الغزاة.. يجب أن أعبر.. يجب أن أعبر هذا العدم لأفتش عن نبتة أمل قد تنمو خلسة تحت أقدام الحياة..
    - أتعبر من العدم إلى الخواء.. فما الجدوى.. ؟
    - دائما يبقى أمل وإن كان واهيا..
    - إن عبرت إليهم فلن تستطيع الخروج من سجن إرادتهم العمياء, سيمتصونك بألعابهم وزيفهم, سيخضعونك لعبوديتهم, ليحولونك إلى مجرد تابع, رقيق, عبد مملوك لمن يصادر ما بقي عندك من نبض..
    - سأعبر.. سأعبر يا سيدي..
    - بغير قدم ؟ إلى غير وطن ؟ ستقتلك إذن المسافات, وألاعيبهم, وقد تدخل جوف الخواء لتنهل من نبع السراب أدوات الزيف, فتصير إنسانا مثلهم, يقتل, يحرق, يغتصب, يهدم كل جميل تحت شعارات تتحدث كذبا عن الحب والخير والجمال.. وقد تملك التمرد والتضحية والتحدي والثورة.. وهذه أدوات تسعى نحو وهم اسمه الحرية لن تجده أبدا..
    - سأعبر.. سأعبر..
    - إدخر إذن الأشجار, قد تعينك إذا أردت العودة..
    - الوداع يا سيدي..
    - مهلا.. استوقف التاريخ برهة, تأمله, لتعرف أنك ستظل في جدل عقيم حتى تفقد نبضك, أو تصير مجرد تابع للمعارف السيادية..
    ***
    حاصرته الصحراء المعتمة كالنفوس التي هجرتها الأحلام انشق الظلام عن امرأة ترتدي الليل, زمانها يزفر حشرجة الأفول.. همست:
    - أرني كفيك أيها الذي كان..
    مستسلم لما تجهل تبسط كفيك, تجول المرأة بين تعاريجها, نطقت بعد دهر:
    - عجبا ! خط العمر على كفك انتهى قبل أن ينبت جسدك في رحم أمك, المستقبل ضائع خلف الأزمان السحيقة, الوجود يا ولدي ليس له أثر على كفك, كأنك عدم, أو منه تنبثق.. !
    على كفك يا ولدي امرأة قديمة, معصوبة العينين, مموهة الملامح, كأنها خارجة من قبر أو ذاهبة إليه, امرأة مجوفة, تمتلئ بالهواء العطن, خذ حذرك.. فأنت القتيل في ثوب الحي, المفقود في قلب الوجود..
    يا ولدي سينبت على بنانك الزهر مخنوقا, وسيغني اليمام بين أناملك أغاني الوداع لزهر القرنفل, سيسكن البدر إبهامك خائفا من السقوط الحتمي الذي لابد وأن يكون..
    يا ولدي على كفك ترقص حياة مقيدة بالموت, ويترنح الوجود من سطوة العدم, اهرب بكفيك يا ولدي فليس لك في الوجود وجود..
    - أريد مدينتي..
    - موشومة هي على يسارك, يسكنها الخراب, ما عادت مدينتك, أنت لا تملك ويملكك التراب, أملك أن تجد قبرا يأويك, ولا أظن ذاك أرقى المحال..
    - أين أذهب ؟
    - تيمم شطر أرض العرافات.. قد يملكن لك الجواب إن تيقنت من السؤال..
    - وما السؤال.. ؟
    - إن فقدت السؤال فقدت كل أمل في الوجود..
    - لا أعرف سؤالا..
    - الكارثة أن يضيع سؤالك.. ابحث بداية عن السؤال..
    - أترك مدينتي ؟
    - ليست مدينتك, إنها للغريب..
    - وهل هناك الأكثر مني اغترابا ؟
    - أنت بلا روح, يسكنك وتسكن العدم..
    - أنا.........
    - هباء.. ما يبقى منك سوى كفان.. على جبينك يا ولدي مكتوب أن تواجه الترحال في الأرض الخواء, أن تعبر وحدك من العدم إلى حياة أكثر عدمية, صارع يا ولدي وحشة الطرقات قبل أن يصرعك الليل والصمت..
    يصرعني الصمت ؟ أبعد كل هذا الترحال والطواف بين السنوات العرجاء؟ أنا الفقير لا أملك سوى بعض الأشعار, لئن صرعني الصمت فاللعنة على الشعراء..
    ألقى الألواح على الهواء, بقيت بلا حراك, تيقن أن الراهب....... مات
    ابتلع الظلام المرأة والنجوم والقمر والألواح..... حمل اغترابه إلى الخواء..
    ***
    وحدك الآن.. بلا راهب, بلا ألواح, بلا مدينة, بلا خطوات, بلا امرأة ترى العدم موشوما على كفيك.. وحدك الآن..
    هل تستطيع أن تشدو للاغتراب بأغنية, هل تستطيع أن تنفض عن كفيك الجماجم الحجرية, هل تستطيع أن تقبل المرأة التي تلهو بزهرة القرنفل على كفك.. ؟
    أتذكر قبل أن يقذفك الغزاة إلى عالم العدم كنت تغزل الشعر بأطياف الجمال, تضعه بين شفتي حبيبة لا تحب سوى مضاجعة الكلمات, امرأة من زمن الألم المزيف والأوجاع الوهمية, كيف منحتها كفيك وهي لا تحفل بالمشاعر.. ؟
    كانت كاليمامة, رسمت ملامحها على تضاريس غمامة فضية..
    بل كانت امرأة, تسعد أن تلهو بها مناقير الطيور..
    قد ألقيتها بين أردية النسيان..
    بل تختفي في عش اليمام المقتول, تتخفى في ثوب عطر تعشقه الأمواج..
    كانت كالوهم, كالنور.. أخبرتها عن حياتي التي لم تر دفء الشمس أو ضي البدر, تجاسرت فحكيت عن الأحلام الراقدة في جوفي, أهدرت أمنياتي كالفيضان, عدوت خلفها حتى أدركني الانتهاء دون أن أظفر بأمنية, أو أقبض على حلم..
    كانت تسمعني وتبتسم كأنها في سرادق عزائي, وعلى حواف الشجر تسافر عيناها, فأغوص في نهرها, أداعبها بألوان قوس قزح, أراقص عينيها على إيقاع المطر فوق جبينها..
    كانت تبكي كلما قبلت مشاعرها, أو صنعت قاربا من غرام أبحر به بين أهدابها, فتحاول الاختفاء بين كفي كالدخان الذي يستحل التلاشي, أتنفسها سريعا, تدخلني باللون الأزرق للشعر, ذاك الذي يشبه البحر النائم بين عيني..
    كانت تسكنك رغما عنك, تتراقص على إيقاع نبضك المبتلى بالسكون, تعرف أن المساء في جوفك لا يسامر غير الضباب ووقع أقدام الحلم الكسول..
    دهستها الأيام في أروقة قلبي, نزفت عشقا حتى آخر قطرة حياة..
    كانت عيناها تشبهان دوامة أيامك, تعبث بأزهارك على مشارف زمنها الضوئي, وحين سقطت من قاع عينيك تألمت و.........
    أيها الوهم لا تشعل في جوفي غليان الذكرى ولذة المشاعر, لا تنتهكني كالمحارب الذي اغتصب مدينتي النائمة.. ما عدت قادرا لأحتمل تحركات الأحرف الشرهة لكتابة التمتمات الحارقة في ظلال موتي..
    مضاع أنا, مشتت بين الحنين لغزو عينيها, وبين قبلة شفتيها النابضتين بسر غرامنا المقتول سرا..
    منكسرة تنام على صدرك, تتأمل السراج المدلى من أفق أحلامك, تبحث في جوفك عن الفارس الذي كان يرسم لها الأحلام..
    كنت أضمها إلى صدري كقصيدة شعر..
    كانت تلد لك الآمال المقهورة, ترضعك الأحلام المزيفة, تقتلك بالقبلات الشرهة..
    كان النرجس يضئ في عينيها, والقرنفل بين شفتيها يتقد بالشوق, والبنفسج على أناملها يحلم بقبلة صدق..
    أهكذا احتوتك بين فكيها ؟ كنت أظنك أقوى من أن تبكي على خطوات امرأة مترددة بين الخطيئة والنواح, امرأة من سراب.. وها أنت الآن تعبر من العدم إلى العدم.. تعبر وحدك بعد أن شطرتك, وإن وصلت إلى مدينتك, ستصدمك أسوارها فتهوى منكسرا..
    ***
    على أرض العرافات كل شئ ساكن حتى الهواء, ينظرن نحوي بارتياب, وجوههن كالصمت الموروث, نظراتهن تغوص في جوف الغيب خلف السماء..
    بسطت كفي وسط دائرة يتحلقن حولها, تراجعت نظراتهن إلى حلوقهن, تلون التعويذات, رفعن أيديهن إلى وجه السماء, تصارعت النجوم, أمطرت النهار.. تأملن كفي, همست إحداهن:
    - هل أكلت الديدان جسده قبل أن يبلغ الموات ؟
    سألت أخرى:
    - من أنت ؟ما شأنك بنا؟
    - مفقود أبحث عن حياة..
    - انفض عن كفك المرأة التي تلهو بزهر القرنفل..
    - إنها تسكنني..
    - أنت إذن الضعيف المبتلى بالعشق.. سيقتلك الغزاة..
    - قتلوني.. هدموا مدينتي, مزقوا أشعاري, لم يبق مني سوى كفين..
    - وامرأة تلهو بزهر القرنفل..
    - أحبها..
    - وهي لا تحب الحياة.. انفضها عن كفك..
    - كيف أنفضها وهي موشومة بالنار ؟
    - سندخلك كهف التجرد, إن خرجت منه نقيا ستوهب لك الحياة حتى تستطيع أن تموت..
    - هل نحيا لنموت.. ؟
    - وكثيرا ما نموت لنحيا..
    أحاطت به العرافات, أنشدن التعويذات, حملته الرياح, سقط أمام امرأتان ترتديان النهار, يزين رأس إحداهن تاج الشمس, تقدمت منه سألته عن هويته
    - أنا المفقود..
    - جئت محملا بالهزائم.. ؟
    - آثار العهد الجاف..
    - هل هناك من يرصدك؟
    - الغزاة..
    - أين هم ؟
    - ستجدينهم حيث تجدين الجمال مقتولا..
    - ماذا فعلت بهم ؟
    - ألقوا بي إلى العدم, عشت دهرا في عالم العمى, اشتقت الحياة جئتك..
    - ماذا فعلت بالغزاة ؟
    - قلت ألقوا بي.......
    - ماذا فعلت بالغزاة؟
    - تسألينني وأنا المفقود؟
    والمرأة الأخرى تتفحصه, أمرتها ذات التاج أن تتكلم, قالت كأنها تقرأ كتاب الدهر:
    - هو هكذا دائما.. يفترض أن هناك من يتبعه ليحطم أغانيه، ويجرجره من ألحانه على ساحة الأوتار الحجرية الموشومة على كفه بدون رنين..
    هو هكذا.. يلقي كل دناسة أفكاره وحيوانية شهواته إلى خافية وعيه، فتلتهمها غابة النسيان، ثم يدعي طهارة الأنبياء، ونقاء السماء..
    هو دائم التوهم بأن شيئا ما سوف يسقط على رأسه، وأن دماءه ستسيل تحت أحذية السائرين بلا هدف.. لذا فهو يخشى أن ينظر إلى السماء..
    تطغى عليه لحظة مجموعة الأضداد التي يعايشها، فيسقط فريسة للأفكار المتصارعة في جوفه، يفقد حسه الجمالي، يتقهقر، يتقوقع، يتشرنق في بؤرة وهمه الشقي..
    هو هكذا دائما، كلما نظر إلى كفيه يرى ذاته متشرذمة بين الماضي والمجهول..
    هو هكذا، يحاول دائما أن ينتصر على واقعه بالحلم، ليحول هزائمه إلى نصر متوهم..
    هو إنسان.. أو كان............. أو سيكون........ وهذا مجرد افتراض مني..
    سألت ذات التاج:
    - هل عنده محاولات للتجرد..
    - لا, ولكن موشوم على كفيه مدينة خربة, وامرأة تلهو بزهر القرنفل..
    - ما أملك في مدينة خربة أيها المفقود؟
    - فقط أن أكون..
    صرخت المرأة الأخرى:
    - ألم أخبرك أنه هكذا دائما, يبدأ من هنا, حين تتعانق آلامه مع الحروف, يخرج من بينهما مسحوقا بالعجز, ثم يطالب بكينونته, رغم أن الكينونة ترف زائد عن حاجة الإنسان, فالأصل أن تبقى الأرواح منطلقة, تسبح في فراغ لامتناهي, تتناقل بين الدوائر الفلكية, تلهو بالنجوم, تداعب القمر, تجادل الشمس, تسكن الفجوات التي بين الكواكب, تمرق مرحة بين الممرات الفضائية..
    - أيها المفقود لماذا تتقيأ بكاء.. ؟
    - تلك التي تسكن كفي أرهقتني أكثر من إرهاق الحياة والعدم..
    - أين سؤالك ؟
    - حين انشطرت نفسي سقطت أسئلتي, ضاعت..
    - كارثة أن يضيع السؤال.. ستظل مفقودا, ضائعا ما دامت الحياة..
    - أريد الحياة..
    - أين السؤال ؟
    - ما عندي إرادة لغير الحياة, لا أملك اختيار, أنا مفقود وسط العدم..
    - أين السؤال..
    - لماذا تعجزيني, ماذا تبغي ؟
    - هذا هو السؤال..
    - هذا هو السؤال ؟
    - هذا هو الحياة..
    - ماذا تبغي.. سؤال عتيق.. هزيل حين يلفظه فاقد الإرادة والاختيار والوجود..
    - أدخل الآن كهف التجرد, القي كل ما تحمل في بئر النسيان, لتولد من جديد طاهرا, نقيا, وهذا ميلادك الأخير..
    ***
    انفرج له طريقا من الضوء, نسماته فواح السوسن, خرير الماء على جانبيه كنغمات الأماني.. يحبو مرتجفا بين النسائم العطرة, تقوده النغمات إلى البئر الذهبي, على حافته فتاة, كأنها اشراقة الحياة, ينساب اللون الوردي من خديها, يعانق الهوى الراقد تحت قدميها, تبتسم, تدعوه, يسير بين أهدابها, يغزل من رضابها أملا, تسكن قاع عينيه, تضع كلمة من نعيم شفتيها بين شفتيه, قبل جبينها, عانقت حواسه, قبل خديها, ذابت بين ارتعاشاته, وضع بين شفتيها كأسه, غاصت فيه, توسدت مشاعره..
    همس في عينيها:
    - من أنت ؟
    - حياة..
    - أنت الحياة.. ؟
    - لا.. أنا مجرد حياة.. نكرة.. مهملة..
    - كيف يهمل مثل هذا الجمال.. ؟
    غضت بصرها, غلفها الحياء, كأنها سقطت سهوا من جناح الملائكة, ينهمر العشق من مقلتيها, تقطر أناملها سحبا وفيضا من الأحلام, ترتجف عشقا, تسري لذة الانتشاء بين نهديها, تلتحم الشفاه, يغيب الكون لحظة امتصاص الرضاب..
    تقبل كفه الأيمن.. تمحو أطلال مدينته الخربة.. تقبل كفه الأيسر.. تهرب من عليه المرأة التي كانت تلهو بزهر القرنفل.. قبلت شفتيه, سقط سكرانا في البئر الذهبي, اغتسل بالنسيان, تقيأ حروفه والكلمات..
    مدت حياة يديها, لملمت الحروف والكلمات, نزعت منه كفيه, شطرت رأسه, أخرجت ذاكرته, زعقت:
    - أخرج الآن إلى أبناء قابيل
    نظر إلى كفيه, بحث عن كلماته, انزلقت دمعاته, اخفت العتمة عنه كل شئ, حملته الريح بدون ذاكرة بدون كفين ليعبر وحده منشطرا..






    السـيد حنفي
    Sayed.hanafy@hotmil.com
    Hnfy_syd@yahoo.com
    0182579710
    0623357794
    [align=center][CENTER][B][FONT="Arial"][SIZE="4"][COLOR="DarkRed"][frame="1 98"]أشهد أن لا إله إلا الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    أستغفرك ربي وأتوب إليك[/frame][/COLOR][/SIZE][/FONT][/B][/CENTER][/align]
  • مريم محمود العلي
    أديب وكاتب
    • 16-05-2007
    • 594

    #2
    [align=center]يالله ..ما أروع هذا النص !!!!!!!!!!!!!!!
    الذي يحاكي في داخلنا أمور عديدة ...و
    الذي أوحى لي بأشياء عديدة
    لست أدري كيف ازدحمت الصور في مخيلتي لتجسد الحالات المتناقضة التي عبر عنها الكاتب
    والتي كان يصف بعضها أحيانا بألم
    وأحيانا تجده يبحث عن شيء ما بجنون
    وأحيانا يهرب من حالات تنتابه
    وتجده في أكثر الأحيان تائها
    وفي الحالة الأخيرة التي أنا رت له الحياة التني ينشدها منذ البداية
    تجده يعود مستسلما للواقع المر الذي على ما يبدو يسكنه
    وللألم الذي يستلذ به
    رغم ضوء الشمس الذي يغمره

    **********
    الحقيقة الوحيدة هي أني أصفق للكاتب بحرارة
    وأحسده على هذا النص الرائع
    تحياتي
    [/align]

    تعليق

    • الأديب السيد حنفي
      عضو الملتقى
      • 04-06-2007
      • 378

      #3
      الأديبة الرائعة مريم العلي

      أشكر مرورك الكريم على قصتي.. أذهلني ردك الرائع, وكلماتك الجميلة.. دمت لي صديقة وأديبة عظيمة المنزلة
      أرسل لسيادتك باقة حب معطرة بالياسمين متوجة بالإحترام
      [align=center][CENTER][B][FONT="Arial"][SIZE="4"][COLOR="DarkRed"][frame="1 98"]أشهد أن لا إله إلا الله
      أشهد أن محمدا رسول الله
      أستغفرك ربي وأتوب إليك[/frame][/COLOR][/SIZE][/FONT][/B][/CENTER][/align]

      تعليق

      • على جاسم
        أديب وكاتب
        • 05-06-2007
        • 3216

        #4
        Sayed.hanafy@hotmil.com

        تصحيح

        Sayed.hanafy@hotmail.com


        اعجبني اسلوبك في السرد

        على الرغم من صعوبته لدى المتلقي العادي كشخصي انا

        تقبل مودتي

        تشكرات
        عِشْ ما بَدَا لكَ سالماً ... في ظِلّ شاهقّةِ القُصور ِ
        يَسعى عَليك بِما اشتهْيتَ ... لَدى الرَّواح ِ أوِ البكور ِ
        فإذا النّفوس تَغرغَرتْ ... في ظلّ حَشرجَةِ الصدورِ
        فهُنالكَ تَعلَم مُوقِناَ .. ما كُنْتَ إلاََّ في غُرُور ِ​

        تعليق

        • الأديب السيد حنفي
          عضو الملتقى
          • 04-06-2007
          • 378

          #5
          الاستاذ على جاسم اشكر مرورك الطيب وتصحيحك للخطأ الغير مقصود
          [align=center][CENTER][B][FONT="Arial"][SIZE="4"][COLOR="DarkRed"][frame="1 98"]أشهد أن لا إله إلا الله
          أشهد أن محمدا رسول الله
          أستغفرك ربي وأتوب إليك[/frame][/COLOR][/SIZE][/FONT][/B][/CENTER][/align]

          تعليق

          • الأديب السيد حنفي
            عضو الملتقى
            • 04-06-2007
            • 378

            #6
            [frame="1 80"]الأديبة الغالية مريم العلي
            من أمثالك نستقي حروفنا
            دمت لنا بخير
            [/frame]
            [align=center][CENTER][B][FONT="Arial"][SIZE="4"][COLOR="DarkRed"][frame="1 98"]أشهد أن لا إله إلا الله
            أشهد أن محمدا رسول الله
            أستغفرك ربي وأتوب إليك[/frame][/COLOR][/SIZE][/FONT][/B][/CENTER][/align]

            تعليق

            يعمل...
            X