الْحُبُّ الحَافِي .... عبد الرحمن الخضر ...الإهداء إلى ربيع عقب الباب
.................
ولد يتيما بعد وفاة أبيه , وتوفت أمه في الشهر الأول من ولادته فكفلته خالته , ترك المدرسة في المرحلة الثانوية بعد وفاة بعل خالته .
كان قد تعلم قيادة السيارة أثناء دراسته فاشتغل سائقا على سيارة أجرة لنقل الركاب ..
في علاقتهما في سنوات الطفولة صارت هديل كحبة المشمش في شجرة جارها حسام , ستضمر إن انتزعناها .. ستصير سعفة صبّار إن أنبتناها في غيره , وستموت في الطريق .
كانت تكبر فيه , وتزهر . .
والزغب يربو على ساعديه , يطلع فوق شفته العليا على الدوام كحلم جميل صاخب يحمله هوفحسب
كَرْنَفَالٌ هذا الحسام .. هكذا كانت تشعر به في طفولتها ... فرحٌ غامرٌ حين يكون إلى جانبها , وشعورٌ قادمٌ مدهشٌ وحنين يفتح مغالقة حسام ولابزال يوما عن يوم
.......................
, .. لاحظ الأصدقاء والجيران اختفاء هديل بنت العاشرة , يعلمون أنها لم تغادر إلى بلاد أخرى ولم تنتقل إلى مكان آخر ولكنها منذ الآن ستمشي , وستقف , وستقعد صامتة لاتتحدث إلى أحد , تحت خيمة سوداء تلتف عليها من رأسها حتى قدميها .. وستضافُ خيمةٌ إلى الخيمات التي تمشي على قدمين فوق الأرض في الطرقات وفي الأزقة , وتتسامر في الأعراس , وتحضر الحفلات , وتنشد العلم في طابور الصباح , وتبكي في الجنائز
لن يراها حسام .. سيتعذب ولن تستطيع .. .
حين شاهدته للمرة الأولى بعد الحجاب شعرت بالعمى , كانت تراه بعد الغربال فوق عينينها , وتضع عيناها عليه من كل هؤلاء , ولكنه العمي أن تراه ولايراها , ... .
لم يعد مباحاً لهما التحدث معاً على انفراد أو بين ومع الآخرين غير المناداة من وراء حجاب .
شعر بحزن لم يعهده في كل حياته الماضية , كحزن الكبار الذي يتابعه في مسلسل التلفزيون عند نزول المصائب , وبكى كما يبكون : لن أراها مرة أخرى , لن أتحدث إليها ,ستظل مُحَجَّبة في كل مكان تذهب إليه .. المدرسة واليقالة وبيتنا , هكذا حتى تموت , ستتحدث وتنكشف فقط إلى أبيها وأمها ومحارمها الواردين في آية التحريم من سورة النساء .. حتى شقيق زوجها , لم تشتمل عليه آية التحريم , ستحتجب عنه ولن يراها .. لكني أحبها .. أكثر من كل هؤلاء , أقسم أني أحبها أكثر من أبيها وأمها .
واحدٌ من الناس من غير هؤلاء جميعا , ستبيح له هو فحسب كل شيئ منها , ستكون له حتى تموت . .. شعر بإعصار , وبه من لحم ودم ومشاعر يدور ويصعد نحو قمة الاعصار, يفقد وزنه ثم يهوي ليتمزق على قارعة الطريق قطعا صغيرة سيقمّها عمال النظافة لاحقا ضمن المخلفات .
............
- " الله الله " .(1). هكذا يردد حسام بصوت عال , يكرر ثانية : " الله الله " وثالثة حين سيدخل إلى منزل هديل ليشتري لخالته قهوة مطحونة أو حبات زنجبيل وستكون حينها بدون حجاب لتسمعه فتختفي خلف الأبواب .
كانت توارب الباب أخيرا بعد أن تتيح له أن يلتقط نظرة منها , وحين سيخرج مرددا وبصوت عال " الله الله " مرة أخرى تتأخر في الفراغ بين غرفتها وغرفة الوالدين كي تتيح له أن يلتقط أكثر من نظرة , وحين يغادرهم وعند الباب إلى الشارع حين كان يقف ليصافح أباها أو يتحدث إلى أمها تبتسم إليه في الخلف منهما وتضم عينيه في عينيها , وحين سيلتفت أحد أبويها ستكون قد سحبت طرف ثوبها الأخيرإلى الداخل من الباب .
على الباب الخارجي لبيت هديل يفتح ابن خالتها السائق سليم الباب الخلفي لسيارة صالون تويوتا لاند كروزركحلية اللون , تطلق الخادمة الزغاريد وهي تتناول من جوف السيارة ماخف من الهدايا التي حملها الشيخ عبد الملك إلى أسرة هديل والتي أطلقت قبل أسبوع إسم عبد الملك على مولودها الجديد تيمّنا بالشيخ ومحبة فيه , بدلات , ولعب , وسكر , وأرز , وزبيب , ولوز , وعطر , وذهب .. بعض الهدايا للرضيع عبد الملك , والأخرى للأسرة وهديل والرضيع , بين الهدايا خاتم مرصع بالماس نُحِتَ عليه قلب يخترقه سهم ينتهي بريشات غاية في الأناقة والجمال , هذا وحده لهديل ذات الأعوام العشرة , هذا ما خمنته أمها ونفذته دون حاجة إلى تفسير من الشيخ عبد الملك .
.....................
لم تكن هديل تحمل أية مشاعرمن أنثى نحو ابن خالتها سليم سائق الشيخ عبد الملك غير ماتمليه رابطة القرابة, ولم يكن سليم يشعر بأي انجذاب من ذكر تجاه المرأة أية امرأة وظلت علاقته بهديل لاتخرج عن رابطة القرابة
كان سليم وعلى الدوام يتحدث إلى الشيخ عبد الملك عن ابن خالته الصغيرة , ويثني على جمالها وهي لازالت صغيرة , وكيف يزدهر جمالها يوماً عن يوم , وكيف ستبهر الجميع حين تصل إلى سن البلوغ , وكان الشيخ عبد الملك قد شاهد هديل في مناسبات مختلفة تلعب وتأكل مع بناته الصغيرات وتذهب معهن إلى المدرسة ..
في هذه المرة رآها محجبة .....
-هل كبرت هديل ؟ . تساءل الشيخ عبد الملك والذي لم يكن قد شاهد هديل منذ انقطعت عن الدراسة, ولم تعد لتعرّج على بناته في طريقها لترافقهم إلى المدرسة . كانت تأتي بين الحين والأخر غير محجبة ولم يكن ليحس بأي انجذاب نحو طفلة صغيرة .. كان قد رآها قبل أسبوع من الآن قبل أن يأتي سَمِيُهُ (2)عبد الملك أخوها إلى الحياة وهي لمّا ترتدي الحجاب بعد .
تذكّر الحكاية الشعبية بأن نفَّاخا بعينين اثنتين ينفخ دائما وبروية ووفق قياس منتظم في الطفل حتى يصير رجلا وتكتمل ذكورته , في حين أن نفَّاخا أعور لايضبط القياس بعين واحدة فحسب هو من ينفخ في الطفلة على عجل حتى تكبر وتكتمل أنوثتها
سيطر عليه شعور برغبة لاتقاوم نحوها
والآن ومن هذه الانفراجة التي أحدثها قبل قليل في سترة باب غرفته يشاهد هديل تجلس فوق سرير صغير مع إحدى بناته وتنقشها بالحنّا ..
منذ الآن سيستخدم سليم كمراسل . فهومن يستطيع أن يدخل على خالته في كل الأوقات , بحزمة القات (3) لأبيها وأمها , وبالعطر لهديل ,
يعلم سليم منذ اليوم الأول من مهمته بأن هديل لا تنجذب للشيخ عبد الملك وبأنها تهيم في جارها حسام , ولكن سليم لايعيد العطر بل يضعه بين يدي خالته .
في هذه الأثناء وبعد عشر سنوات على ولادتها لهديل وضعت فاطمة مولودا ذكرا أسمياه عبد الملك تيمّنا بالشيخ ومحبة فيه .
-إذهب إلى خالتك , الأم هي فاتحة ابنتها , واخطب لي هديل , ليس الآن بل قل لها بأن سميّكم الشيخ عبد الملك سيأتي ليخطب ابنتكم هديل .
كان قد بلغ الستين , وقرّر أن يطلق واحدة من زوجاته ليتزوج هديل , لكنه لن يستطيع التقدم لخطبتها وهو في حالة نكاح لأربع , وسيرسل سليم إلى أمها بالذات ليستأذنهم في خطبته لهديل , وحين يأتي سليم بنعم سيطلِّق , نعم سيطلِّقها هي , زوجته الأخيرة " مهدية " هذه التي تطلّقت بسببها زوجته الأولى " محصنة " ... لاتستوي صغيرتان في الستين , واحدة ستكون هي الحضن الدافئ .الأخرى ستكون القاتلة .... إهدها هذين الخاتمين , خالتك هي من ستتصرف بهما , سَتُبْقِىْ واحداً من الخاتمين لها لتعقده على أصبعها عند خروجها بعد انتهاء طقوس الولادة نهاية الشهر , تبقّى أسبوعان على خروجها , هذا لها وهذا لهديل , لاتقل لها بهذا فهي من ستتصرف , الأم سر ابنتها وفاتحتها .. خاتمين وخطبة ياسليم ... هذه أولا , فلتأتني بالثانية ياسليم , سأهديك شيئا ما على مجيئك بنعم , ليس غير نعم , لكنني سأكون كريما إليك , هل شاهدت ابنة خالتك تنقش الحنّا وكأن بستانا من ورد صاخب يدها , اليد رسالة الرجل إلى جسد المرأة ياسليم
كان سيسأله : هل رأيت ابنة خالتك كما يراها الرجال , وكطائرة السوخوي حين تقذف بدولابها المطاط عند هبوطها كبح الشيخ عبد الملك هذه الكلمات , ثم إن سليم إنسان بين الذكر والأنثى , هذا الذي يسمونه الخنثى ..
- من الطارق . ترفع صوتها فاطمة حين سمعت طرقات على الباب
- إبن أختك ياخالة
تفتح الباب فاطمة , يدخل سليم , تلمح في يده الغلاف , كان مفتاح السيارة في يده الأخرى , هو قادم من لدنّ الشيخ عبد الملك إذن .
-مرحبا يابِزي (4) تفضّل أنت لاتحتاج إلى استئذان
* لقد أرسلني الشيخ عبد الملك , ستسمعين على لساني مايسرك ياخالة خذي هذه أولا . يقول لها وهو يضع الغلاف في يدها ويضيف : ليست واحدة , إنها اثنتان ... ستسمعين من الشيخ الآن على لساني مايسرك ياخالة , أين خالي صالح ؟
تتناول فاطمة الغلاف وعلى شفتيها ابتسامة عريضة .
-إبدأ معي لافرق بيننا , صالح يمضغ القات في الداخل . تقول فاطمة والبسمة ترقص على شفتيها وتنادي على صالح في الداخل .
* الشيخ يطلب يد هديل ياخالة .. ألف مبروك , سأزغرد .
- لا لا ليس الآن ياسليم . لازلت على الولادة .
أوّل الليل .. وستأتي الكهرباء بعد قليل , حين يذهبون لصلاة العشاء , الناس يقرون في بيوتهم بين مغرب وغشاء , الشياطين تبدأ في الانفكاك عند الغسق .. الاطفال في أحضان أمهاتهم وفي الهناديل.. الجميع يقرؤون سورة الفلق , وهديل تهدل الخطي إلى السقيفة بين بيتها وبيت حسام , هذه المرة ستقول له بأن الأرض ستنسحب من تحته وتحتها وسيهويان حتى الموت ليس الآن , الموت على الدوام حتى يحين الأجل , الكل سيموت حين يحين أجله , هما فحسب سيموتان أحياء منذ الآن في كل لحظة حتى الأجل ,
تأخر سمير بعض الوقت , هكذا شعرت هديل , سيأتي قبل العشاء ولاشك , وهي تقدمت عن الموعد الذي اعتادا عليه في كل مرة ولاشك , لماذا لايأتي , وسيعلنون كل شيئ غدا , وستتتوافد النساء قبل مجيئ الشيخ عبد الملك للخطبة , ولن تتمكن من الخروج إلى هنا , وسيتم كل شيئ , وستهوي فوق الأرض واحدة من السموات السبع , يجب أن يوقفها حسام وأنا , حتى أني سأتقدم عليه , أن أتخلى عن كل شيئ , عنهم جميعا لأجلك ياحسام .. أين أنت ياحسام , ليس اليوم كالأمس ولا الغد كاليوم أين أنت ياحسام .... تلمح حسام يتلفَّتُ هنا وهناك ويمشي , ترفع كفّيها للأعلى وتلوح بهما من داخل السقيف , بالكاد يشاهدها حسام حين يقترب
-لماذا تلوحين بيديك ؟ لم أتأخر , وأظن أنني تقدّمت في اليوم عن كل يوم
كانت تبحلق في عينيه , وكطفل ضمته كما لم تضمه في حياتها , كما لم تضمها أمها أو تضمه أمه , وغاصت بوجهها في صدره وبكت .
-ماذا بك هديل ؟ ماذا جرى ؟ - كان يضمها إليه - أرجو أن يكونوا جميعهم بخير , مالذي يمكنني عمله ؟ .. يزيحها قليلا إلى الخلف , يقبلها , تذهب فيه وتذهب وتذهب , يرفع وجهها وينظر إليها .
- لقد أرسل ليخطبني
* ماذا ؟.. وكأن أحدا اقتلعه وهوى به إلى الفضاء : متى ؟
- لقد قالوا نعم .. أمي وأبي – وهي تنشج بالبكاء – وحددوا للشيخ موعدا هو اليوم التالي لخروج أمي من ولادتها على عبد الملك
* متى ستخرج أمك ؟
- خمسة أيام ياحسام من الآن وتخرج أمي .. ستة أيام من الآن ياحسام ويعلنون الخطبة . وشهرواحد بعد الخطبة ياحسام ويعقدون القران , لقد اتفقوا على كل شيئ .
أحس بغثيان , وبكل شيئ يدور من حوله ويدور , وبهديل تذهب عنه وتذهب , كاد أن يسقط , أمسك بهديل وضمها إليه .
*لازلنا صغاراً ياهديل , كان علينا أن نكبر ,, لم أكن أتوقع أحدا سيخطبك في هذه السن , لابد أن أتصرف ياهديل , قبلهم جميعا , أو فَلْأَمُتْ .
- وأنا إلى جانبك .. وسأتقدم عليك إن لزم الأمر ياحسام أو فليقتلونني
يضمُّها إليه , يرفع كم قميصه ويمسح آثار الدموع فوق وجنتيها .
يتناول كفها في كفه , يشد عليها , يشعر بسيل من الحنان يتدفق من كفها في أوردته
* سنهرب ياهديل . يقول لها حسام والإصرار يقدح في عينيه
- في الجنة معاك ياسليم .. وإلا النار نار (5) تردّ عليه وكأنها ستقفز إليه الآن ويهربان .
كانا يعلمان بأنهما لن يتمكنا من فعل شيئ بعد إعلان الخطبة , سيحرق الشيخ القرية بيتا بيتا إذا هرب بها بعد خطبتها عليه , لن يمحو عار الشيخ غير الحريق .....................
الساعة العاشرة ليلا وشجرةٌ تتعرَّى للندي والقمر .. بعض قمر يتسرب من بين الأغصان , حبات عقد القمر المتساقطة خلال حفيف الأوراق تنتثر فوقهما .. كراسم يتفنّن ,, يستوحي فكرة لوحة
خرجت هديل من البيت لتتسامر مع صديقاتها كما العادة
الرسام يمطُّ ظَلَّةَ السحابة على مساحة منهما تحت الشجرة حتى هنا .. وهنا قمر , وهنا نثار من السحاب والقمر ,
العاشرة ولم تعد هديل , تذهب فاطمة إلى بيت جيرانها , لاحظت بأن حسام لازال خارج البيت , تذهب إلى بيوت الجيران الأخرى وتمدّ قدمها إلى أخرى وأخرى .
أوراق الشجرة تحفّ على الأغضان في الأعلى , تتموَّجُ في ضوء القمر على دندنة المعزوفة في الأسفل .
-لن نعود ياهديل , علينا أن نمضي إلى الأمام , ألا نتيح لهم أي فرصة , أن نقطع وإلى الأبد أي صلة له بك ياهديل , أن نزرع ابننا الآن , هذا الذي سيسبقهم جميعا ولن يستطيعوا اللحاق به .
يضمها إليه ويزرعه .. كانا يبحلقان , في الشجر , في القمر , في الظلال , في البعيد , في الآفاق , في الجنين
تطرق على الباب , ينفتح الباب على فتاة تنظر نحو ضيفتها , تقرأ الرسالة في عينيها وتسمح لها بالدخول , يعود حسام أدراجه بعد أن تأكد له دخول هديل إلى بيت الشيخ عايض . .
-إحبسني , لقد هَرَبْتُ بها وأودعتها بيت الشيخ . يقول حسام للسجان المتَّكئ يسارا على أكثر من وسادة ويمضغ القات في غرفة الحراسة .
يتناول السجان تليفونه السيّار , يتصل بمدير الشرطة , ثم يعيده على البساط . يفتح باب السجن فيدخل حسام لينضم إلى مجموعة من المساجين تحت سطح واحد ويغلق وراءه الباب
.........................
يهدّئ السائق سليم سرعته على الطريق , ويدير عجلة القيادة جهة بيت الشيخ عايض على يمين الطريق الرملي , يضع قدمه على الكابح بجوار السيارة الصالون المونيكا (6) الرابضة على يمين البوابة , يهبط المرافقون للشيخ عبد الملك وعلى كتف كل واحدٍ منهم بندقية آلية كلاشنكوف , يتجهون غير واحد منهم يبقى في الخلف نحو الباب الأمامي للسيارة حيث يركب الشيخ عبد الملك . يفتح سليم الباب ليهبط الشيخ عبد الملك وسط حلقة المرافقين المسلحين , يتحدث سليم مع الحارس الذي هبّ إليهم ويبلغه طلب الشيخ عبد الملك في مقابلة الشيخ عايض , يستدعي الحارس الخادم بالداخل ويكلفه بإيصال الطلب إلى الشيخ عايض ليعود بعد قليل وينظر إلى الشيخ عبد الملك : تفضل ياشيخ عبد المللك وانتظر في الديوان .
تعود زوجة الشيخ عايض إلى غرفتها وتترك فاطمة لتنفرد بابنتها هديل في الفناء – لو قطعتموني قطعةً قطعة ومزقتموني مزقةً مزقة لن أعود إلا إذا عقد بي أبي على حسام
*لن يعقد بك أبوك على حسام لو تنطبق السماء على الأرض , إتقي الله فينا ياهديل , لم يعد ليخرج أبوك من البيت بوجهه أمام الناس منذ هروبك مع حسام , أين يضع وجهه منهم ؟ هل هذه هي خاتمة تربيتنا لك , هل هذا هو الجزاء الذي كنا ننتظره منك ؟
- وهل ترضون لي رجلا في الستين وأنا لازلت بنتا ألعب مع بناته
- وهل كبرتِ لهذا الحسام فقط ؟
- لأهرب من الشيخ , السن تضحك لسنها , وقبل ذلك فأنا أحبه ..
* خلاص ياهديل الشيخ عبد الملك لن يتزوجك بعد الآن , لكنه لن ينسى أنك مسحت بوجهه في التراب , وكنت السبب في طلاقه للرابعة من أجل أن يحظى بك .
- لمّا هربتُ لم تكونوا قد أعلنتم خطبته لي على الناس
* لكنهم علموا بكل شيئ , " مايخفى يارسول الله ؟ قال : الذي لايكون " .
- ولماذا لاأتزوج حسام ؟
* لن تتزوجي حسام مادام الشيخ عبدالملك على قيد الحياة بعد الذي صنعتِ به .
- ولن أتزوج غير حسام , هذا هو قراري قبل وبعد , بلّغيه لأبي , وقد كررته أكثر من مرّة لزوجة الشيخ وسأعيده عليها الآن للمرة الألف لتؤكده على الشيخ عايض .
كانت زوجة الشيخ تخرج إلى الفناء في هذه الأثناء , تجري نحوها هديل وتركع على قدميها : إنقذيني , الموت أرحم بي من تركي لحسام , لن أترك حسام .
تمد زوجة الشيخ يدها إلى يد فاطمة , تأخذ كفها إلى كفها إلى الداخل ويتركان هديل في الفناء
في هذه الأثناء تسمع فاطمة من زوجة الشيخ عايض ماكانت تخشاه ,, لقد فقدت هديل بكارتها في الطريق إلى بيت الشيخ عايض , لقد أكدت الخادمة ذلك
يصعد الشيخ عبد الملك إلى السيارة , بتبعه المرافقون ويصعدون , يحرك سليم المفتاح إلى اليمين ويضغط على البنزين ,كان الشيخ عايض يلوح بيده عند الباب من العمارة
..........................
-خمس دقائق فقط . تقول الخادمة لهديل وهي تفتح الباب وتسمح لها بالخروج إلى الفناء لتقابل حسام .
-لن أخرج من هذا المكان إلا إلى بيتك أو إلى القبر ياحسام
خمس دقائق فقط . يقول الحارس لحسام وهو يفتح الباب الخارجي ليدخل إلى الفناء ليقابل هديل ...
*لن يأخذونك مني إلا مقتولا أو فاقد العقل ياهديل .
ربع ساعة ويغادرحسام بيت الشيخ عايض .
يعلم الشيخ عبد الملك وأمها وأبوها وحسام والشيخ عايض وزوجته وبناته عليم اليقين بأن هديل حامل في شهرها الأول , ليس مؤكدا فيما إذا كان سليم والمرافقون للشيخ عبد الملك وسكان القرية على علمٍ بحمل هديل .
الخادمة وزوجة الشيخ عايض وفاطمة وهديل وحسام هؤلاء وحدهم من سيؤكدون الخبر , الآخرون سمعوا به فحسب , لكن الخادمة في المقدمة هي من علمت بفض البكارة , وبعد شهرين هي أيضا من تدري بأن هديل حامل في الشهر الثاني
كان لابد من أن يُحسم الأمر , وأن تتزوج هديل قبل الشهر الثالث من الحمل , لن يتمكنوا من حجب الانتفاضة في بطن هديل , سيقولون لا مقابل كل الإشاعات لكنهم لن يستطيعوا ذلك مقابل الانتفاضة في بطن هديل ...........
بعد شهرين من هروبها أصيبت هديل بمرض تعسّرعلاجه في الوحدة الصحية بالقرية وقد تفضل الشيخ عايض بإسعاف هديل إلى مدينة الحديدة وتناقل الناس بأن نفقة السفر والعلاج كانت على حساب سميّها الشيخ عبد الملك و قد تم نقلها على سيارته اللاند كروزر قيادة إبن خالتها السائق سليم .. وقد تم حجبها لمدة شهر كامل بعد عودتها بناءا على تعليمات الطبيب المعالج
.في هذه الأثناء تناقل الناس في القرية خبرا مفاده بأن ماأثير حول حمل هديل من حسام أثناء هروبهما واختلائه بها في الطريق إلى بيت الشيخ عايض لم يكن في الواقع غير إشاعة وأنها الآن وفي الشهر الرابع لم يطرأ أي تغير علىها ولم تظهر أي انتفاخة في جهة البطن منها , وتؤكد وفود البنات الفضوليات المتوافدات على بيت الشيخ عايض بأنهن لم يلحظن شيئا على هديل من آثارالحمل وقد شاهدن هديل في روبها الداخلي دون أي علامة على حمل رغم مرور أربعة أشهر كاملة منذ هروبها مع حسام .
.
إنقضى عام ولازال حسام قابعا داخل السجن , كان ينتظر قدومهم ليخرجوه ويعقدوا له على هديل إذا لم ترفع القضية إلى القاضي وهو مايخضع لمزاج الشيخ عايض ,أوليقيموا عليهما الحد جلدا ثم يعقدوا بها عليه بموجب حكم من القاضي , كان يعلم بأن الشيخ عبد الملك لن يوافق على زواجه من هديل , وبأن الشيخ عايض لن يخالف رغبة الشيخ عبدالملك , وبأن مأمور المديرية لن يدخل في خلاف معهما , وبأن القاضي لن يفصل في القضية إلا إذا رفعها إليه الشيخ عايض أو مأمور المديرية ...
لم يتمكن حسام من زيارة هديل منذ عودتها من المشفى , وظلت عينا الشيخ عبد الملك تراقبانه داخل السجن ولاتتيحان له أي فرصة في الخروج .
عادت ومرضت هديل بحمي الضنك , وكادت أن تقضي ,لم تكن تستطيع الوقوف على قدميها أو الذهاب إلى المرحاض إلا محمولة , وتآكلت ساقاها فنقلوها إلى بيت أبيها تحت عناية أمها ,
في الوقت الذي عادت فيه هديل إلى منزلها تسلم حارس السجن أمرا خطيا يقضي بإطلاق سراح حسام وإخلاء سبيله .
تماثلت هديل للشفاء بعد شهر من المرض , وركب حسام إلى الحدود ليشتغل في التهريب في المنطفة الحدودية المشتركة مع المملكة العربية السعودية ,..
كان الشيخ عبد الملك على رأس المرافقين للسائق سليم إلى بيت خالته لطلب يد ابنتهم هديل
بعد شهر من الخطبة زفت هديل إلى ابن خالتها سليم في احتفالية صغيرة .
وبعد عام ونصف العام وضعت هديل إبنا أسماه أبوه بعبد الملك تيمنا بالشيخ عبد الملك ..
كان سليم يأخذ ابنه معه ويضعه في حضن الشيخ عبد الملك قائلا : سبحان الخالق الناطق , إسم على مسمى ياشيخ , إنه يشبهك .
غادرت هديل بيت زوجها سليم , كانت تشتكي من مضايقات الشيخ عبد الملك , لم تعد على سليم وعضلت في بيتها , وظلت مربوطة إلى لسان سليم
في يوم ما سمعت هديل كغيرها من الناس بأن حسام قد قتله حرس الحدود السعودي في الخط المشترك بين البلدين بوابل من الرصاص أثناء ملاقحتهم له وهو يقود سيارة يويوتا شاص لاند ركوزر محملة بأقراف (7) القات من اليمن .وأن الشيخ عبد الملك قد تحرك إلى المملكة ليستلم جثته ويقبض ديته من حكومة المملكة .
.........................
الهامش : -
(1)الله الله .. يقولها الرجل عندما يدخل على بيت غير بيته وهي نداء للنساء بالاحتجاب منه كغريب .. وتقال حتى في وجود صاحب البيت
(2) سَمِيُّهُ : هو الذي يُسَمَّى باسمه , وهوأن تطلق الأسرة إسما على مولودها باسم الشخص الذي تريد التسمية به .
(3) شجرة القات تزرع في اليمن وتدر كثيرا على مزارعيها في المناطق الجبلية الصالحة لزراعته , ويتناول اليمنيون أغصان القات ويمضعونها بعد وجبة الغداء عادة ويسهرون على مضغها ليلا وبعضهم حتى الصباح ويتم تهريب أغصان القات من اليمن إلى المملكة العربية السعودية والتي تحرم تناوله هناك وتعتبره صنفا من المخدرات .
(4) البزي هو إبن أو إبنة الأخ والأخت .
(5) في الجنة معاك وإلا النا نار : المقطع الأخير من الأغنية اليمنية المشهورة : " باهي الأوجان " وهي من التراث اللحجي كلمات الشاعر والملحن الشهير عبد الله هادي سبيت وغناء محمد صالح حمدون , وقد غناها ويتغنى به العديد من الفنانين في اليمن وفي دول الخليج .
(6) المونيكا هو الموديل الأخير للسيارة التويوتا الصالون اللاندكروزر
(7) أقراف القات وهي أكياس من ورق الموز يتم لفها وحشوها بربط صغيرة من أغصان القات .
.
.
.................
ولد يتيما بعد وفاة أبيه , وتوفت أمه في الشهر الأول من ولادته فكفلته خالته , ترك المدرسة في المرحلة الثانوية بعد وفاة بعل خالته .
كان قد تعلم قيادة السيارة أثناء دراسته فاشتغل سائقا على سيارة أجرة لنقل الركاب ..
في علاقتهما في سنوات الطفولة صارت هديل كحبة المشمش في شجرة جارها حسام , ستضمر إن انتزعناها .. ستصير سعفة صبّار إن أنبتناها في غيره , وستموت في الطريق .
كانت تكبر فيه , وتزهر . .
والزغب يربو على ساعديه , يطلع فوق شفته العليا على الدوام كحلم جميل صاخب يحمله هوفحسب
كَرْنَفَالٌ هذا الحسام .. هكذا كانت تشعر به في طفولتها ... فرحٌ غامرٌ حين يكون إلى جانبها , وشعورٌ قادمٌ مدهشٌ وحنين يفتح مغالقة حسام ولابزال يوما عن يوم
.......................
, .. لاحظ الأصدقاء والجيران اختفاء هديل بنت العاشرة , يعلمون أنها لم تغادر إلى بلاد أخرى ولم تنتقل إلى مكان آخر ولكنها منذ الآن ستمشي , وستقف , وستقعد صامتة لاتتحدث إلى أحد , تحت خيمة سوداء تلتف عليها من رأسها حتى قدميها .. وستضافُ خيمةٌ إلى الخيمات التي تمشي على قدمين فوق الأرض في الطرقات وفي الأزقة , وتتسامر في الأعراس , وتحضر الحفلات , وتنشد العلم في طابور الصباح , وتبكي في الجنائز
لن يراها حسام .. سيتعذب ولن تستطيع .. .
حين شاهدته للمرة الأولى بعد الحجاب شعرت بالعمى , كانت تراه بعد الغربال فوق عينينها , وتضع عيناها عليه من كل هؤلاء , ولكنه العمي أن تراه ولايراها , ... .
لم يعد مباحاً لهما التحدث معاً على انفراد أو بين ومع الآخرين غير المناداة من وراء حجاب .
شعر بحزن لم يعهده في كل حياته الماضية , كحزن الكبار الذي يتابعه في مسلسل التلفزيون عند نزول المصائب , وبكى كما يبكون : لن أراها مرة أخرى , لن أتحدث إليها ,ستظل مُحَجَّبة في كل مكان تذهب إليه .. المدرسة واليقالة وبيتنا , هكذا حتى تموت , ستتحدث وتنكشف فقط إلى أبيها وأمها ومحارمها الواردين في آية التحريم من سورة النساء .. حتى شقيق زوجها , لم تشتمل عليه آية التحريم , ستحتجب عنه ولن يراها .. لكني أحبها .. أكثر من كل هؤلاء , أقسم أني أحبها أكثر من أبيها وأمها .
واحدٌ من الناس من غير هؤلاء جميعا , ستبيح له هو فحسب كل شيئ منها , ستكون له حتى تموت . .. شعر بإعصار , وبه من لحم ودم ومشاعر يدور ويصعد نحو قمة الاعصار, يفقد وزنه ثم يهوي ليتمزق على قارعة الطريق قطعا صغيرة سيقمّها عمال النظافة لاحقا ضمن المخلفات .
............
- " الله الله " .(1). هكذا يردد حسام بصوت عال , يكرر ثانية : " الله الله " وثالثة حين سيدخل إلى منزل هديل ليشتري لخالته قهوة مطحونة أو حبات زنجبيل وستكون حينها بدون حجاب لتسمعه فتختفي خلف الأبواب .
كانت توارب الباب أخيرا بعد أن تتيح له أن يلتقط نظرة منها , وحين سيخرج مرددا وبصوت عال " الله الله " مرة أخرى تتأخر في الفراغ بين غرفتها وغرفة الوالدين كي تتيح له أن يلتقط أكثر من نظرة , وحين يغادرهم وعند الباب إلى الشارع حين كان يقف ليصافح أباها أو يتحدث إلى أمها تبتسم إليه في الخلف منهما وتضم عينيه في عينيها , وحين سيلتفت أحد أبويها ستكون قد سحبت طرف ثوبها الأخيرإلى الداخل من الباب .
على الباب الخارجي لبيت هديل يفتح ابن خالتها السائق سليم الباب الخلفي لسيارة صالون تويوتا لاند كروزركحلية اللون , تطلق الخادمة الزغاريد وهي تتناول من جوف السيارة ماخف من الهدايا التي حملها الشيخ عبد الملك إلى أسرة هديل والتي أطلقت قبل أسبوع إسم عبد الملك على مولودها الجديد تيمّنا بالشيخ ومحبة فيه , بدلات , ولعب , وسكر , وأرز , وزبيب , ولوز , وعطر , وذهب .. بعض الهدايا للرضيع عبد الملك , والأخرى للأسرة وهديل والرضيع , بين الهدايا خاتم مرصع بالماس نُحِتَ عليه قلب يخترقه سهم ينتهي بريشات غاية في الأناقة والجمال , هذا وحده لهديل ذات الأعوام العشرة , هذا ما خمنته أمها ونفذته دون حاجة إلى تفسير من الشيخ عبد الملك .
.....................
لم تكن هديل تحمل أية مشاعرمن أنثى نحو ابن خالتها سليم سائق الشيخ عبد الملك غير ماتمليه رابطة القرابة, ولم يكن سليم يشعر بأي انجذاب من ذكر تجاه المرأة أية امرأة وظلت علاقته بهديل لاتخرج عن رابطة القرابة
كان سليم وعلى الدوام يتحدث إلى الشيخ عبد الملك عن ابن خالته الصغيرة , ويثني على جمالها وهي لازالت صغيرة , وكيف يزدهر جمالها يوماً عن يوم , وكيف ستبهر الجميع حين تصل إلى سن البلوغ , وكان الشيخ عبد الملك قد شاهد هديل في مناسبات مختلفة تلعب وتأكل مع بناته الصغيرات وتذهب معهن إلى المدرسة ..
في هذه المرة رآها محجبة .....
-هل كبرت هديل ؟ . تساءل الشيخ عبد الملك والذي لم يكن قد شاهد هديل منذ انقطعت عن الدراسة, ولم تعد لتعرّج على بناته في طريقها لترافقهم إلى المدرسة . كانت تأتي بين الحين والأخر غير محجبة ولم يكن ليحس بأي انجذاب نحو طفلة صغيرة .. كان قد رآها قبل أسبوع من الآن قبل أن يأتي سَمِيُهُ (2)عبد الملك أخوها إلى الحياة وهي لمّا ترتدي الحجاب بعد .
تذكّر الحكاية الشعبية بأن نفَّاخا بعينين اثنتين ينفخ دائما وبروية ووفق قياس منتظم في الطفل حتى يصير رجلا وتكتمل ذكورته , في حين أن نفَّاخا أعور لايضبط القياس بعين واحدة فحسب هو من ينفخ في الطفلة على عجل حتى تكبر وتكتمل أنوثتها
سيطر عليه شعور برغبة لاتقاوم نحوها
والآن ومن هذه الانفراجة التي أحدثها قبل قليل في سترة باب غرفته يشاهد هديل تجلس فوق سرير صغير مع إحدى بناته وتنقشها بالحنّا ..
منذ الآن سيستخدم سليم كمراسل . فهومن يستطيع أن يدخل على خالته في كل الأوقات , بحزمة القات (3) لأبيها وأمها , وبالعطر لهديل ,
يعلم سليم منذ اليوم الأول من مهمته بأن هديل لا تنجذب للشيخ عبد الملك وبأنها تهيم في جارها حسام , ولكن سليم لايعيد العطر بل يضعه بين يدي خالته .
في هذه الأثناء وبعد عشر سنوات على ولادتها لهديل وضعت فاطمة مولودا ذكرا أسمياه عبد الملك تيمّنا بالشيخ ومحبة فيه .
-إذهب إلى خالتك , الأم هي فاتحة ابنتها , واخطب لي هديل , ليس الآن بل قل لها بأن سميّكم الشيخ عبد الملك سيأتي ليخطب ابنتكم هديل .
كان قد بلغ الستين , وقرّر أن يطلق واحدة من زوجاته ليتزوج هديل , لكنه لن يستطيع التقدم لخطبتها وهو في حالة نكاح لأربع , وسيرسل سليم إلى أمها بالذات ليستأذنهم في خطبته لهديل , وحين يأتي سليم بنعم سيطلِّق , نعم سيطلِّقها هي , زوجته الأخيرة " مهدية " هذه التي تطلّقت بسببها زوجته الأولى " محصنة " ... لاتستوي صغيرتان في الستين , واحدة ستكون هي الحضن الدافئ .الأخرى ستكون القاتلة .... إهدها هذين الخاتمين , خالتك هي من ستتصرف بهما , سَتُبْقِىْ واحداً من الخاتمين لها لتعقده على أصبعها عند خروجها بعد انتهاء طقوس الولادة نهاية الشهر , تبقّى أسبوعان على خروجها , هذا لها وهذا لهديل , لاتقل لها بهذا فهي من ستتصرف , الأم سر ابنتها وفاتحتها .. خاتمين وخطبة ياسليم ... هذه أولا , فلتأتني بالثانية ياسليم , سأهديك شيئا ما على مجيئك بنعم , ليس غير نعم , لكنني سأكون كريما إليك , هل شاهدت ابنة خالتك تنقش الحنّا وكأن بستانا من ورد صاخب يدها , اليد رسالة الرجل إلى جسد المرأة ياسليم
كان سيسأله : هل رأيت ابنة خالتك كما يراها الرجال , وكطائرة السوخوي حين تقذف بدولابها المطاط عند هبوطها كبح الشيخ عبد الملك هذه الكلمات , ثم إن سليم إنسان بين الذكر والأنثى , هذا الذي يسمونه الخنثى ..
- من الطارق . ترفع صوتها فاطمة حين سمعت طرقات على الباب
- إبن أختك ياخالة
تفتح الباب فاطمة , يدخل سليم , تلمح في يده الغلاف , كان مفتاح السيارة في يده الأخرى , هو قادم من لدنّ الشيخ عبد الملك إذن .
-مرحبا يابِزي (4) تفضّل أنت لاتحتاج إلى استئذان
* لقد أرسلني الشيخ عبد الملك , ستسمعين على لساني مايسرك ياخالة خذي هذه أولا . يقول لها وهو يضع الغلاف في يدها ويضيف : ليست واحدة , إنها اثنتان ... ستسمعين من الشيخ الآن على لساني مايسرك ياخالة , أين خالي صالح ؟
تتناول فاطمة الغلاف وعلى شفتيها ابتسامة عريضة .
-إبدأ معي لافرق بيننا , صالح يمضغ القات في الداخل . تقول فاطمة والبسمة ترقص على شفتيها وتنادي على صالح في الداخل .
* الشيخ يطلب يد هديل ياخالة .. ألف مبروك , سأزغرد .
- لا لا ليس الآن ياسليم . لازلت على الولادة .
أوّل الليل .. وستأتي الكهرباء بعد قليل , حين يذهبون لصلاة العشاء , الناس يقرون في بيوتهم بين مغرب وغشاء , الشياطين تبدأ في الانفكاك عند الغسق .. الاطفال في أحضان أمهاتهم وفي الهناديل.. الجميع يقرؤون سورة الفلق , وهديل تهدل الخطي إلى السقيفة بين بيتها وبيت حسام , هذه المرة ستقول له بأن الأرض ستنسحب من تحته وتحتها وسيهويان حتى الموت ليس الآن , الموت على الدوام حتى يحين الأجل , الكل سيموت حين يحين أجله , هما فحسب سيموتان أحياء منذ الآن في كل لحظة حتى الأجل ,
تأخر سمير بعض الوقت , هكذا شعرت هديل , سيأتي قبل العشاء ولاشك , وهي تقدمت عن الموعد الذي اعتادا عليه في كل مرة ولاشك , لماذا لايأتي , وسيعلنون كل شيئ غدا , وستتتوافد النساء قبل مجيئ الشيخ عبد الملك للخطبة , ولن تتمكن من الخروج إلى هنا , وسيتم كل شيئ , وستهوي فوق الأرض واحدة من السموات السبع , يجب أن يوقفها حسام وأنا , حتى أني سأتقدم عليه , أن أتخلى عن كل شيئ , عنهم جميعا لأجلك ياحسام .. أين أنت ياحسام , ليس اليوم كالأمس ولا الغد كاليوم أين أنت ياحسام .... تلمح حسام يتلفَّتُ هنا وهناك ويمشي , ترفع كفّيها للأعلى وتلوح بهما من داخل السقيف , بالكاد يشاهدها حسام حين يقترب
-لماذا تلوحين بيديك ؟ لم أتأخر , وأظن أنني تقدّمت في اليوم عن كل يوم
كانت تبحلق في عينيه , وكطفل ضمته كما لم تضمه في حياتها , كما لم تضمها أمها أو تضمه أمه , وغاصت بوجهها في صدره وبكت .
-ماذا بك هديل ؟ ماذا جرى ؟ - كان يضمها إليه - أرجو أن يكونوا جميعهم بخير , مالذي يمكنني عمله ؟ .. يزيحها قليلا إلى الخلف , يقبلها , تذهب فيه وتذهب وتذهب , يرفع وجهها وينظر إليها .
- لقد أرسل ليخطبني
* ماذا ؟.. وكأن أحدا اقتلعه وهوى به إلى الفضاء : متى ؟
- لقد قالوا نعم .. أمي وأبي – وهي تنشج بالبكاء – وحددوا للشيخ موعدا هو اليوم التالي لخروج أمي من ولادتها على عبد الملك
* متى ستخرج أمك ؟
- خمسة أيام ياحسام من الآن وتخرج أمي .. ستة أيام من الآن ياحسام ويعلنون الخطبة . وشهرواحد بعد الخطبة ياحسام ويعقدون القران , لقد اتفقوا على كل شيئ .
أحس بغثيان , وبكل شيئ يدور من حوله ويدور , وبهديل تذهب عنه وتذهب , كاد أن يسقط , أمسك بهديل وضمها إليه .
*لازلنا صغاراً ياهديل , كان علينا أن نكبر ,, لم أكن أتوقع أحدا سيخطبك في هذه السن , لابد أن أتصرف ياهديل , قبلهم جميعا , أو فَلْأَمُتْ .
- وأنا إلى جانبك .. وسأتقدم عليك إن لزم الأمر ياحسام أو فليقتلونني
يضمُّها إليه , يرفع كم قميصه ويمسح آثار الدموع فوق وجنتيها .
يتناول كفها في كفه , يشد عليها , يشعر بسيل من الحنان يتدفق من كفها في أوردته
* سنهرب ياهديل . يقول لها حسام والإصرار يقدح في عينيه
- في الجنة معاك ياسليم .. وإلا النار نار (5) تردّ عليه وكأنها ستقفز إليه الآن ويهربان .
كانا يعلمان بأنهما لن يتمكنا من فعل شيئ بعد إعلان الخطبة , سيحرق الشيخ القرية بيتا بيتا إذا هرب بها بعد خطبتها عليه , لن يمحو عار الشيخ غير الحريق .....................
الساعة العاشرة ليلا وشجرةٌ تتعرَّى للندي والقمر .. بعض قمر يتسرب من بين الأغصان , حبات عقد القمر المتساقطة خلال حفيف الأوراق تنتثر فوقهما .. كراسم يتفنّن ,, يستوحي فكرة لوحة
خرجت هديل من البيت لتتسامر مع صديقاتها كما العادة
الرسام يمطُّ ظَلَّةَ السحابة على مساحة منهما تحت الشجرة حتى هنا .. وهنا قمر , وهنا نثار من السحاب والقمر ,
العاشرة ولم تعد هديل , تذهب فاطمة إلى بيت جيرانها , لاحظت بأن حسام لازال خارج البيت , تذهب إلى بيوت الجيران الأخرى وتمدّ قدمها إلى أخرى وأخرى .
أوراق الشجرة تحفّ على الأغضان في الأعلى , تتموَّجُ في ضوء القمر على دندنة المعزوفة في الأسفل .
-لن نعود ياهديل , علينا أن نمضي إلى الأمام , ألا نتيح لهم أي فرصة , أن نقطع وإلى الأبد أي صلة له بك ياهديل , أن نزرع ابننا الآن , هذا الذي سيسبقهم جميعا ولن يستطيعوا اللحاق به .
يضمها إليه ويزرعه .. كانا يبحلقان , في الشجر , في القمر , في الظلال , في البعيد , في الآفاق , في الجنين
تطرق على الباب , ينفتح الباب على فتاة تنظر نحو ضيفتها , تقرأ الرسالة في عينيها وتسمح لها بالدخول , يعود حسام أدراجه بعد أن تأكد له دخول هديل إلى بيت الشيخ عايض . .
-إحبسني , لقد هَرَبْتُ بها وأودعتها بيت الشيخ . يقول حسام للسجان المتَّكئ يسارا على أكثر من وسادة ويمضغ القات في غرفة الحراسة .
يتناول السجان تليفونه السيّار , يتصل بمدير الشرطة , ثم يعيده على البساط . يفتح باب السجن فيدخل حسام لينضم إلى مجموعة من المساجين تحت سطح واحد ويغلق وراءه الباب
.........................
يهدّئ السائق سليم سرعته على الطريق , ويدير عجلة القيادة جهة بيت الشيخ عايض على يمين الطريق الرملي , يضع قدمه على الكابح بجوار السيارة الصالون المونيكا (6) الرابضة على يمين البوابة , يهبط المرافقون للشيخ عبد الملك وعلى كتف كل واحدٍ منهم بندقية آلية كلاشنكوف , يتجهون غير واحد منهم يبقى في الخلف نحو الباب الأمامي للسيارة حيث يركب الشيخ عبد الملك . يفتح سليم الباب ليهبط الشيخ عبد الملك وسط حلقة المرافقين المسلحين , يتحدث سليم مع الحارس الذي هبّ إليهم ويبلغه طلب الشيخ عبد الملك في مقابلة الشيخ عايض , يستدعي الحارس الخادم بالداخل ويكلفه بإيصال الطلب إلى الشيخ عايض ليعود بعد قليل وينظر إلى الشيخ عبد الملك : تفضل ياشيخ عبد المللك وانتظر في الديوان .
تعود زوجة الشيخ عايض إلى غرفتها وتترك فاطمة لتنفرد بابنتها هديل في الفناء – لو قطعتموني قطعةً قطعة ومزقتموني مزقةً مزقة لن أعود إلا إذا عقد بي أبي على حسام
*لن يعقد بك أبوك على حسام لو تنطبق السماء على الأرض , إتقي الله فينا ياهديل , لم يعد ليخرج أبوك من البيت بوجهه أمام الناس منذ هروبك مع حسام , أين يضع وجهه منهم ؟ هل هذه هي خاتمة تربيتنا لك , هل هذا هو الجزاء الذي كنا ننتظره منك ؟
- وهل ترضون لي رجلا في الستين وأنا لازلت بنتا ألعب مع بناته
- وهل كبرتِ لهذا الحسام فقط ؟
- لأهرب من الشيخ , السن تضحك لسنها , وقبل ذلك فأنا أحبه ..
* خلاص ياهديل الشيخ عبد الملك لن يتزوجك بعد الآن , لكنه لن ينسى أنك مسحت بوجهه في التراب , وكنت السبب في طلاقه للرابعة من أجل أن يحظى بك .
- لمّا هربتُ لم تكونوا قد أعلنتم خطبته لي على الناس
* لكنهم علموا بكل شيئ , " مايخفى يارسول الله ؟ قال : الذي لايكون " .
- ولماذا لاأتزوج حسام ؟
* لن تتزوجي حسام مادام الشيخ عبدالملك على قيد الحياة بعد الذي صنعتِ به .
- ولن أتزوج غير حسام , هذا هو قراري قبل وبعد , بلّغيه لأبي , وقد كررته أكثر من مرّة لزوجة الشيخ وسأعيده عليها الآن للمرة الألف لتؤكده على الشيخ عايض .
كانت زوجة الشيخ تخرج إلى الفناء في هذه الأثناء , تجري نحوها هديل وتركع على قدميها : إنقذيني , الموت أرحم بي من تركي لحسام , لن أترك حسام .
تمد زوجة الشيخ يدها إلى يد فاطمة , تأخذ كفها إلى كفها إلى الداخل ويتركان هديل في الفناء
في هذه الأثناء تسمع فاطمة من زوجة الشيخ عايض ماكانت تخشاه ,, لقد فقدت هديل بكارتها في الطريق إلى بيت الشيخ عايض , لقد أكدت الخادمة ذلك
يصعد الشيخ عبد الملك إلى السيارة , بتبعه المرافقون ويصعدون , يحرك سليم المفتاح إلى اليمين ويضغط على البنزين ,كان الشيخ عايض يلوح بيده عند الباب من العمارة
..........................
-خمس دقائق فقط . تقول الخادمة لهديل وهي تفتح الباب وتسمح لها بالخروج إلى الفناء لتقابل حسام .
-لن أخرج من هذا المكان إلا إلى بيتك أو إلى القبر ياحسام
خمس دقائق فقط . يقول الحارس لحسام وهو يفتح الباب الخارجي ليدخل إلى الفناء ليقابل هديل ...
*لن يأخذونك مني إلا مقتولا أو فاقد العقل ياهديل .
ربع ساعة ويغادرحسام بيت الشيخ عايض .
يعلم الشيخ عبد الملك وأمها وأبوها وحسام والشيخ عايض وزوجته وبناته عليم اليقين بأن هديل حامل في شهرها الأول , ليس مؤكدا فيما إذا كان سليم والمرافقون للشيخ عبد الملك وسكان القرية على علمٍ بحمل هديل .
الخادمة وزوجة الشيخ عايض وفاطمة وهديل وحسام هؤلاء وحدهم من سيؤكدون الخبر , الآخرون سمعوا به فحسب , لكن الخادمة في المقدمة هي من علمت بفض البكارة , وبعد شهرين هي أيضا من تدري بأن هديل حامل في الشهر الثاني
كان لابد من أن يُحسم الأمر , وأن تتزوج هديل قبل الشهر الثالث من الحمل , لن يتمكنوا من حجب الانتفاضة في بطن هديل , سيقولون لا مقابل كل الإشاعات لكنهم لن يستطيعوا ذلك مقابل الانتفاضة في بطن هديل ...........
بعد شهرين من هروبها أصيبت هديل بمرض تعسّرعلاجه في الوحدة الصحية بالقرية وقد تفضل الشيخ عايض بإسعاف هديل إلى مدينة الحديدة وتناقل الناس بأن نفقة السفر والعلاج كانت على حساب سميّها الشيخ عبد الملك و قد تم نقلها على سيارته اللاند كروزر قيادة إبن خالتها السائق سليم .. وقد تم حجبها لمدة شهر كامل بعد عودتها بناءا على تعليمات الطبيب المعالج
.في هذه الأثناء تناقل الناس في القرية خبرا مفاده بأن ماأثير حول حمل هديل من حسام أثناء هروبهما واختلائه بها في الطريق إلى بيت الشيخ عايض لم يكن في الواقع غير إشاعة وأنها الآن وفي الشهر الرابع لم يطرأ أي تغير علىها ولم تظهر أي انتفاخة في جهة البطن منها , وتؤكد وفود البنات الفضوليات المتوافدات على بيت الشيخ عايض بأنهن لم يلحظن شيئا على هديل من آثارالحمل وقد شاهدن هديل في روبها الداخلي دون أي علامة على حمل رغم مرور أربعة أشهر كاملة منذ هروبها مع حسام .
.
إنقضى عام ولازال حسام قابعا داخل السجن , كان ينتظر قدومهم ليخرجوه ويعقدوا له على هديل إذا لم ترفع القضية إلى القاضي وهو مايخضع لمزاج الشيخ عايض ,أوليقيموا عليهما الحد جلدا ثم يعقدوا بها عليه بموجب حكم من القاضي , كان يعلم بأن الشيخ عبد الملك لن يوافق على زواجه من هديل , وبأن الشيخ عايض لن يخالف رغبة الشيخ عبدالملك , وبأن مأمور المديرية لن يدخل في خلاف معهما , وبأن القاضي لن يفصل في القضية إلا إذا رفعها إليه الشيخ عايض أو مأمور المديرية ...
لم يتمكن حسام من زيارة هديل منذ عودتها من المشفى , وظلت عينا الشيخ عبد الملك تراقبانه داخل السجن ولاتتيحان له أي فرصة في الخروج .
عادت ومرضت هديل بحمي الضنك , وكادت أن تقضي ,لم تكن تستطيع الوقوف على قدميها أو الذهاب إلى المرحاض إلا محمولة , وتآكلت ساقاها فنقلوها إلى بيت أبيها تحت عناية أمها ,
في الوقت الذي عادت فيه هديل إلى منزلها تسلم حارس السجن أمرا خطيا يقضي بإطلاق سراح حسام وإخلاء سبيله .
تماثلت هديل للشفاء بعد شهر من المرض , وركب حسام إلى الحدود ليشتغل في التهريب في المنطفة الحدودية المشتركة مع المملكة العربية السعودية ,..
كان الشيخ عبد الملك على رأس المرافقين للسائق سليم إلى بيت خالته لطلب يد ابنتهم هديل
بعد شهر من الخطبة زفت هديل إلى ابن خالتها سليم في احتفالية صغيرة .
وبعد عام ونصف العام وضعت هديل إبنا أسماه أبوه بعبد الملك تيمنا بالشيخ عبد الملك ..
كان سليم يأخذ ابنه معه ويضعه في حضن الشيخ عبد الملك قائلا : سبحان الخالق الناطق , إسم على مسمى ياشيخ , إنه يشبهك .
غادرت هديل بيت زوجها سليم , كانت تشتكي من مضايقات الشيخ عبد الملك , لم تعد على سليم وعضلت في بيتها , وظلت مربوطة إلى لسان سليم
في يوم ما سمعت هديل كغيرها من الناس بأن حسام قد قتله حرس الحدود السعودي في الخط المشترك بين البلدين بوابل من الرصاص أثناء ملاقحتهم له وهو يقود سيارة يويوتا شاص لاند ركوزر محملة بأقراف (7) القات من اليمن .وأن الشيخ عبد الملك قد تحرك إلى المملكة ليستلم جثته ويقبض ديته من حكومة المملكة .
.........................
الهامش : -
(1)الله الله .. يقولها الرجل عندما يدخل على بيت غير بيته وهي نداء للنساء بالاحتجاب منه كغريب .. وتقال حتى في وجود صاحب البيت
(2) سَمِيُّهُ : هو الذي يُسَمَّى باسمه , وهوأن تطلق الأسرة إسما على مولودها باسم الشخص الذي تريد التسمية به .
(3) شجرة القات تزرع في اليمن وتدر كثيرا على مزارعيها في المناطق الجبلية الصالحة لزراعته , ويتناول اليمنيون أغصان القات ويمضعونها بعد وجبة الغداء عادة ويسهرون على مضغها ليلا وبعضهم حتى الصباح ويتم تهريب أغصان القات من اليمن إلى المملكة العربية السعودية والتي تحرم تناوله هناك وتعتبره صنفا من المخدرات .
(4) البزي هو إبن أو إبنة الأخ والأخت .
(5) في الجنة معاك وإلا النا نار : المقطع الأخير من الأغنية اليمنية المشهورة : " باهي الأوجان " وهي من التراث اللحجي كلمات الشاعر والملحن الشهير عبد الله هادي سبيت وغناء محمد صالح حمدون , وقد غناها ويتغنى به العديد من الفنانين في اليمن وفي دول الخليج .
(6) المونيكا هو الموديل الأخير للسيارة التويوتا الصالون اللاندكروزر
(7) أقراف القات وهي أكياس من ورق الموز يتم لفها وحشوها بربط صغيرة من أغصان القات .
.
.
تعليق