i
بعد مضي ما يقارب الساعة، و صلنا إلى مزرعة –جاماري(1) - بضواحي تارقة(2) ، نزلت جدتي من سيارة الاجرة وتبعتها، كان خالي في الانتظار. في الحقيقة إنه ليس بخالي، بل أخو جدتي و قدعهدتني أناديه خالي.
بعد السلام و التقبيل و السؤال عن الأحوال و العبارات التافهة التي يحبها الكبار…انطلقتُ نحو شجيرات التين.
- قال خالي: ألا تأتي معنا لترى عبد الرزاق؟ إن له جروا جميلا.
و التفتَ نحو جدتي: لقد جلب له أبوه جروا كي يشغله قليلا ، لقد صدعنا بمشاكله.
لم أكن أحب خالي إطلاقا، كما لم أكن أكرهه، في الواقع كنت أحب الذهاب عنده للّعب مع عبد الرزاق. كان عبد الرزاق يصغرني بسنتين، و كان مقززا، و أشد ما كان يكرهني فيه أنه كان ينطق السين ثاءا، و لطالما حاولتُ مساعدته لنطق كلمة – سروال- صحيحة ، إلا أنه كان ينطقها دائما -ثروال- ، و ما كان يزيدني جنونا أن الأحمق كان متأكدا أنه المحق وأنا المخطئ ، كان فعلا غبيا مزعجا.
أن يعتقد الإنسان أن السروال هو الثروال فذاك هو الحمق بعينه، و من سوء حظي أن اسمي –سعيد-، فلكُم أن تتخيلوا طفلا ذا تسع سنين ملتصقا ابدا بذيلي، طوال النهار، و ينادي- ثعيد،ثعيد،ثعيد-، أنا أكره ذلك، غير أني كنت أحبه من طريق أخر-إن صح التعبير- لقد كان جنيا فعلا، لم أر في حياتي أمهر منه في تسلق الاشجار و لا أذكى منه في سرقة ما يخبأ بالبيت ، أقصد المأكولات.
ليس هذا بمهم الآن…جريتُ نحو شجيرات التين غير آبه بنداء خالي، و غبتُ بين الكروم لا أبحث عن شيئ معين، في جيبي كومة مفاتيح معلق بها أسد صغير مصنوع من النحاس قد انكسرت قائمته اليمنى، لا أظن أنه يعنيكم من أين أتيت به،،، أعني الاسد.
توقفت لبرهة عند الوادي، حيث كان هناك شيخ منهمك بلمّ الحشيش برفقته طفلة صغيرة.
- كان الله في عونك . قلت ذلك و لست أدري كيف تجرأت ، إذ من عادتي أن لا أكلم الغرباء.
- رحم الله والديك . رد الشيخ و حملقتْ فيّ الطفلة.
لم يكن شعرها ممشوطا و كانت حافية الرجلين، وإن كنتم تظنون أنني سأقول أنها رغم ذلك كانت جميلة فإنكم مخطئون ، إذ أن قليلا من المخاط قد تسلل من منخرها الايمن.
- قلت: أعندكم أرانب؟ و أخرجتُ كومة المفاتيح من جيبي.
- إنك تسأل عن الحشيش؟ رد علي الشيخ دون رفع رأسه.
- نعم أعني الحشيش، نحن كذلك نأتي بالحشيش لأرانبنا كل يوم.
في الحقيقة ليس لنا أرانب بالبيت، و لكني أعلم أن من لهم أرانب يجلبون الحشيش لتغذيتها. أنا أكذبُ بعض الأحيان، أُقر بذلك.
- لا ليس هذا للأرانب.
اقتربتْ مني الطفلة وعيناها مشدودتان الى المفاتيح، ربما كانت تبلغ أربع سنوات أو خمس، لست متأكدا من ذلك، في الواقع لم تكن بشعة، غير أن طفلة يسيل المخاط من أنفها،،، شعرها منفوش و رجلاها حافيتان ،، منظر مزعج، أو بعبارة اخرى لا يسرني اللعب معها إطلاقا.
-قالت: مفتاح؟؟؟ هاه مفتاح !!!!!!
قلت: إنها مفاتيح أبي نساها عندي. – كذبةٌ أخرى -
رفع الشيخ راسه نحوها: خـــــيرة!!!! عودي الى هنا.
- اعطني المفاتيح. قالت ذلك بصوت ينم عن بداية عويل أو صراخ أو أي شيئ مزعج من هذا القبيل.
تخلى الشيخ عما كان يفعل و جذبها من يدها: قلت عودي إلى هنا.
و صاحت خيرة باكية و الشيخ غير مهتم بها البتة… تقدمتُ نحوها و أعطيتها المفاتيح كي تسكت.
- خذي، إنها مفاتيح خزانة أبي. لقد صدقتُ كذبتي.
- هاه، أسد؟ كم هو جميل ! أين ذهبت رجله؟
اللعنة!!!! ما أسهل أن يبكي الطفل و ما أسهل أن تنسيه ما أبكاه!!!! شيئ مقرف حقا.
- انكسرت.،،، أردتُ أن أقص لها حكاية كسره و لكنني رأيت أن لا فائدة من ذلك.
- هيا رديها لي،، سأذهب.
خبأتْ المفاتيح وراء ظهرها مقطبة حاجبيها و قالت : أآه.
شيئ ما تكور داخلي، غليان دم أو ما شابه، و كم وددت أن أصفعها صفعة تزيل المخاط من أنفها أو تجعل المنخر الأيسر يسيل بدوره حتى يكون هناك تناظر مثلما يقولون،، غير أن الشيخ كفاني ذلك بصياحه:
- ردي له…………………..، و قد شدها إليه بقوة.
لقد كان فعلا عكر المزاج سليط اللسان.
- أريد الأسد،، أريد الأسد ياجدي.
و أجهشت باكية،، و لكم أن تشاهدوا طفلة مزعجة، شعرها كالسدر المنفوش و المخاط يتقاطر من أنفها و قد زادت الدموع الوجه بلة،،، و فوق هذا و ذاك، كان اسمها " خيرة" ،، اسم تافه غير جميل، أقصد لا يناسب سنها مادامت جدتي تحمل الاسم ذاته.
قام الشيخ باسترداد المفاتيح منها عنوة، وهي تصرخ و رمى بها تجاهي قائلا: خذ……………………، هيا طر من هنا.
لم أر في حياتي شيخا عصبيا مثله، يقول لي أنا: طر؟؟؟؟ لقد كان شيخا غريب الاطوار،،، و الاغرب من ذلك أنني قمت بنزع الأسد من المفاتيح و تقدمت نحو خيرة بكل تؤدة وسكينة و أعطيتها إياه،، ثم انحنيت و قبلتها من خدها،،، لست ادري لم فعلت ذلك، ربما لأحسس الشيخ الارعن بالذنب، كونه قال لي "طر"، أو ربما لقساوته مع الطفلة أو أي شيئ،، الامر الاكيد هو أنني لم أفعل ذلك حبا في خيرة أو رأفة بها.
ألم أقل أنني مخبول؟؟؟؟؟ أنحني و أقبلها؟؟؟؟؟؟ أنا معتوه بحق .
ii
- هيا سعيد،، ما رأيك؟؟؟؟
- فيم؟؟؟
- في التي كلمتك عنها،، لقد رأيتها،، و صدقني لن تجد أحسن منها جمالا و أخلاقا،،، إنها من ضواحي "تارقة" و إنها تحمل شهادة جامعية.
- يا اماه!!! دعكِ من ذلك الآن،، لم يحن المكتوب بعد،، ثم كيف ترغبين أن يتزوج إبنك،، عزيزك ، من واحدة اسمها خيرة؟؟؟؟ثم أردفتُ: سأرى ذلك لاحقا،، و انكببت على أوراقي لأجعل حدا للموضوع.
- متى؟؟؟ إن الوقت يمر يا ولدي و أهلها في انتظار زيارتنا.
لما رأيت إصرارها و شدة الحاحها، اشترطت أن أقابل الفتاة ظنا مني استحالة ذلك، غير انها فاجأتني.
- هي كذلك، شرطها أن تقابلك.
- أحقا ذلك؟؟؟؟؟
- نعم،، ألم أقل أنها متعلمة و تحمل شهادة جامعية.
فكرت في الأمر مليا،"تعجبني كثيرا كلمة مليا هذه"، فتاة في الرابعة و العشرين من العمر، جامعية و تشترط مقابلتي، إنه فعلا أمر جاد،، ثم إن قضية الاسم-إن كانت هناك قضية أصلا- أمر تافه.
غريب أمر النساء،،، خططن لكل شيئ،لقد رتبن كل شيئ، الموعد بمكانه و زمانه، لون لباسها بطوله و عرضه، حتى لا يكون هناك أدنى مجال للخطأ، و سيكون بيدها حامل مفاتيح ، حتى لا أقصد أي فتاة ما مثلا و أسألها: هل أنت خيرة؟؟؟؟ تصرف غبي فعلا.
كان يوم إثنين- لن أنساه ما حييت- لن أطنب عليكم،، رتبت كل شيئ،، أعني كنت أبهى ماأكون، أخذت مكاني في الحافلة و تساقطت علي الاسئلة و الاخيلة،،، ركّبت ما أمكنني تركيبه، مزجت الماضي بالحاضر، ثم فككت ما ركّبت و في آخر المطاف قلت: لعله المكتوب.
ورأيتها من بعيد جالسة في الحديقة المقابلة للجامعة،، لأول وهلة دق قلبي مثلما يدق ساعة توزيع أسئلة امتحان مصيري،،، ثم بدا لي الامر عاديا.تقدمتُ نحوها:
- صباح الخير..
- ردت التحية بابتسامة عريضة،،، أسنان متراصة و شعر مبالغ في تسريحه و كل شيئ،،،،، كانت مستعدة للموعد خيرة!
- كيف أحوالك خيرة؟؟؟ واثقٌ من نفسه الرجل!
- بخير،،،، و انتم؟؟؟
اللعنة!!!! أتيتها فردا و نادتني "أنتم". أنا أمقت و أزدري من يستعملون صيغة المبالغة في كل حين.
- ألك سيارة؟.
غبي!!! أحمق!!!! لست أدري من الشيطان الرجيم الذي أوحى لي بهذا السؤال، و لا من أي فم خرج.
- لا ،،، ليست لي سيارة،،، لم السؤال؟؟؟
تلعثمت،،، أنا دائما أتلعثم،، و أشرت إلى كومة المفاتيح بيدها،كأن كل من يحمل مفاتيح له سيارة،، تفكير ساذج بحق،، تخيلوا لو سألنا كل من يحمل مفاتيح إن كانت سيارته على ما يرام،،، لا شك أن العالم سيصبح فوضى لا تطاق.
ابتسمتْ المسكينة – أراهن برأس أمي أنها تأكدت من حمقي تلك اللحظة - و أظهرتْ المفاتيح قائلة:
- إنها مفاتيح المكتب، و هذه للغرفة بالحي الجامعي،،، أنا أحضر شهادة الماجستير.
كانت خيرة نحيفة حد الرأفة، و قد زادتها حمرة الخجل بهاءا مما جعلني ألعن موقفي و أتاكد أنني كنت ساعتئذ أتفه مخلوق فوق الارض، إذ كيف لإنسان سويّ بالغ يذهب لموعد مع فتاة محترمة قصد التكلم معها عن الزواج و كل شيئ،،، و لا يجد من الكلام إلا سؤالا سمجا عن مفاتيح تافهة؟؟؟؟ و رغم ذلك – مخبول أنا – تماديت في النظر الى مفاتيحها أبحث عن شيئ ما،، و حينما شعرت باستغرابها من تصرفي قلت:
- في أي تخصص؟؟ أعني الماجستير…. و عيناي ملتصقتان بالمفاتيح.
لم أعر اهتماما لردها،،، مدتْ إلي بكومة المفاتيح: خذ أراك مهتما بها.
لم يكن بالمفاتيح أسد،،، ارتسمت على وجهي علامات استفهام، ارتبكتُ، تذكرتُ أمي و جدتي و خالي و كل الناس،،، و تنرفزتُ مثلما يقولون.
قالت: ما بك؟؟؟؟
- و لكن!!!!!!!!! أين الاسد؟؟؟؟
- أي أسد؟؟؟
- عفوا!! أردت ان أقول،، من المفروض أن يكون أسد بالمفاتيح،،، أقصد،،،، توجد حاملات مفاتيح بها أسود و أخرى بها حيتان،،، كل شيئ يباع في وقتنا.
- و ما علاقة ذلك بموضوعنا؟؟؟؟
قمت واقفا،،، و قد هربت الكلمات مني،،، إذ لو كان بالمفاتيح أسد لكان لي كلام أخر معها،،،،وقفلت راجعا من حيث أتيت، تاركا خيرة بالحديقة ، وحدها، بيدها كومة مفاتيح ليس بها أسد مصنوع من النحاس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جاماري: اسم لمعمر فرنسي كانت له مزرعة بضواحي تارقة
(2) تارقة : مدينة بغرب الجزائر
تعليق