حفْرِيَّات صَبَاح مَطِر..
المكان فصل دراسي بارد،أجسام صغيرة تجلس مُسَمَّرة إلى المقاعد الخشبية التي تَئِنُّ من الشيخوخة حيث رسمت أخاديد متباينة عليها، فصل دراسي أشبه ما يَكُون بعلب سردين تناثر بداخله االمتعلمون وتكدسوا لأنهم لم يجدوا مكاناً يحتويهم ...اكتظاظ، أوراق ممزقة هنا وهناك وكأن المعركة أَلْقت بِحصادها بعد قتال طويل وعنيف، فكانت حصيلة القتلى مروعة..
في الخارج أمطار تتهاطل بعد غياب طويل، على أرض أنْهَكَها الجفاف فصارت تشتكي ...روائح كريهة تَنْبَعِث بعْدما كانت في سُبات عمِيق.
القسم المحاذي لي مازال يُقَاوِمُ موجات الزمن العنيفة رغم بنائه القديم البسيط، فقد شُيِّد بمواد بسيطة كالقصدير وألواح الخشب المتآكل.. ومُؤخراً تَمَّ طِلاؤه باللَّوْنِ الزهري عَسَاهُ يُقْبِلُ على الحياة التي غادرته منذ أمد طويل فبَدا كالجُثَّة العارية التي تنام في مكان قفر ولم تُوَارى الثَّرى فتأكْسَدتْ وتشرَّبَتْ بلون أديم الأرض ..
الكل يتنفس الموت..أجسام وهنة، جدران كادت من وَخْز أدواتهم الحادة تتكلم ..-نعم – هي تتكلم فجدارياتها التي نُحتت عليها رسومات وخربشات و..و..و..تقول الكثير ..هو بوح صامت لا يُدركه إلا منْ خبر " علم الهيرمونيطيقا "..هو وحده الذي يجسر على جَسِّ نبْض الجدران ومعرفة كنه حفريتها ووشمها وخربشاتها...
النَّوافد لا وجود لها ،فقد اُسْتُبدلَتْ بِسِتار باهت اللون لاَيقي منْ قَرِّ البرد ولاَ منْ حَرِّ الصَّيف الذي يلتهم بلهيبه أجساد الصغار الذين لا يستطيعون معه صبرا.
فيشرعون في التَّأفُّفِ ويُعلنون عن سُخطهم ورغبتهم في الانعتاق من بين جدران هذا الفصل الكئيب الذي هو بالنسبة لبعضهم أشبه ما يكون بسجن...هُمْ أَلْفُوا أنفسهم مُحاصرين بين جدرانه..دون أن يُستشاروا ..فهم لازالوا يؤمنون بأنهم صغار على جِدِّ الكبار فالدروس قمينة بأن يَتَلَقَّها الكبار.
وأدوار الكبار في نظرهم لا تليق بأجسادهم الهزيلة ولا بأناملهم البريئة ..فهم إلى اللَّعِب أَحْوج ..وإلى الحرية أطلب.
يحبون المرح وينشدون الحُبور، الجدران بالنسبة لهم أسوار من العُسر امتطاءها وتسلقها.ديدنهم أن يُتْركوا دون قيود تُكَبِّلُ انطلاقتهم..لعبهم.
وأمام باب الفصل رُكنت طاولات مُهترئة تطلب الإستغاثة، كدار مهْجورة ..يلُفُّها النِّسيان تتوجع في صمت ...تردد:" أَمَا حَان دوري لأصير أميرة في فصل جميل، بهية اللون والطلاء، منمقة لا خربشة تعكر مزاجي..أبعث في نفوس الصغار البسمة ..يتطلعون علي بعيونهم وهم يحلمون بغد حالم، باسم ..يتركونني أنام في هدوء دون وَخْزِي دون وإيذائي..".
سكون يعم المكان ، فالبرد ابْتَلَع أصوات الصغار فَغَطُّوا في جب الصًّمْتِ لا ينبسون ببنت شفة..إنَّهم منكمشُونَ يُدَوِّنُونَ ما على السبورة الغاضبة من حروف أعلنت بدورها انتفاضتها جراء الحيف الذي طالها لمَّا اعتراها الطبشور البغيض فنَغَّص عليها هدوءها وسكينتها، فصارت مُغبرة، واختفت ملامحها ..ومع ذلك فهي ما تزال تُقاوم صدأ السنون.
حانت العطلة البينية الأولى ..الكل ضجِر ..ينتظر الانعتاق من قبضة الوقت المرير..غابت الأسئلة والتي غالبا ما تكون كالعملة النادرة ،وكأن عقول الصغار قدْ تعطلت لهنيهات عن الكلام، إنَّهم في صوم عن الكلام ، فقد دسُّوا رؤوسهم بين دفاتر لا حول ولا قوة لها، تبدو كأنها خاضت معركة خاسرة أو كانت في مسابقة للطبخ فتناثر عليها الملون الطبيعي وصارت شاحبة ..هو الشحوب يعتريها يقتل الحياة فيها.
لاتسمع من حين لآخر إلا هسيس انعتق من قبضة المدرس الذي يقف بالمرصاد لكل من يجرأ على انتشاله من ضياعه.
هي وشوشات لا يتبين من صاحبها ..فينعل حظَّه العثِر الذي جعله يتورط في مهنة لا يفقه فيها شيئاً.
هو القدر رمى به أيضا بين هذه الجدران ..أراد أن يُذيقَه أيضا بعض ألوان المِحن ..أن يختبر طوقه على تحمل الآلام ..على ركوب أمواج غالبا ماكان يتهرب أن يركبها ..فلفظته الحياة عُنوة في قلبها دونما إرجاء.
إلى حين يتدبر أمره أو يُحشر مع من لمْ يُخيروا ووجدوا أنفسهم في معترك الحياة لا حول ولاقوة لهم إلا أنهم أشاحوا بوجوههم عن نقمة الزمن.
//سعيدة الرغيوي//
المكان فصل دراسي بارد،أجسام صغيرة تجلس مُسَمَّرة إلى المقاعد الخشبية التي تَئِنُّ من الشيخوخة حيث رسمت أخاديد متباينة عليها، فصل دراسي أشبه ما يَكُون بعلب سردين تناثر بداخله االمتعلمون وتكدسوا لأنهم لم يجدوا مكاناً يحتويهم ...اكتظاظ، أوراق ممزقة هنا وهناك وكأن المعركة أَلْقت بِحصادها بعد قتال طويل وعنيف، فكانت حصيلة القتلى مروعة..
في الخارج أمطار تتهاطل بعد غياب طويل، على أرض أنْهَكَها الجفاف فصارت تشتكي ...روائح كريهة تَنْبَعِث بعْدما كانت في سُبات عمِيق.
القسم المحاذي لي مازال يُقَاوِمُ موجات الزمن العنيفة رغم بنائه القديم البسيط، فقد شُيِّد بمواد بسيطة كالقصدير وألواح الخشب المتآكل.. ومُؤخراً تَمَّ طِلاؤه باللَّوْنِ الزهري عَسَاهُ يُقْبِلُ على الحياة التي غادرته منذ أمد طويل فبَدا كالجُثَّة العارية التي تنام في مكان قفر ولم تُوَارى الثَّرى فتأكْسَدتْ وتشرَّبَتْ بلون أديم الأرض ..
الكل يتنفس الموت..أجسام وهنة، جدران كادت من وَخْز أدواتهم الحادة تتكلم ..-نعم – هي تتكلم فجدارياتها التي نُحتت عليها رسومات وخربشات و..و..و..تقول الكثير ..هو بوح صامت لا يُدركه إلا منْ خبر " علم الهيرمونيطيقا "..هو وحده الذي يجسر على جَسِّ نبْض الجدران ومعرفة كنه حفريتها ووشمها وخربشاتها...
النَّوافد لا وجود لها ،فقد اُسْتُبدلَتْ بِسِتار باهت اللون لاَيقي منْ قَرِّ البرد ولاَ منْ حَرِّ الصَّيف الذي يلتهم بلهيبه أجساد الصغار الذين لا يستطيعون معه صبرا.
فيشرعون في التَّأفُّفِ ويُعلنون عن سُخطهم ورغبتهم في الانعتاق من بين جدران هذا الفصل الكئيب الذي هو بالنسبة لبعضهم أشبه ما يكون بسجن...هُمْ أَلْفُوا أنفسهم مُحاصرين بين جدرانه..دون أن يُستشاروا ..فهم لازالوا يؤمنون بأنهم صغار على جِدِّ الكبار فالدروس قمينة بأن يَتَلَقَّها الكبار.
وأدوار الكبار في نظرهم لا تليق بأجسادهم الهزيلة ولا بأناملهم البريئة ..فهم إلى اللَّعِب أَحْوج ..وإلى الحرية أطلب.
يحبون المرح وينشدون الحُبور، الجدران بالنسبة لهم أسوار من العُسر امتطاءها وتسلقها.ديدنهم أن يُتْركوا دون قيود تُكَبِّلُ انطلاقتهم..لعبهم.
وأمام باب الفصل رُكنت طاولات مُهترئة تطلب الإستغاثة، كدار مهْجورة ..يلُفُّها النِّسيان تتوجع في صمت ...تردد:" أَمَا حَان دوري لأصير أميرة في فصل جميل، بهية اللون والطلاء، منمقة لا خربشة تعكر مزاجي..أبعث في نفوس الصغار البسمة ..يتطلعون علي بعيونهم وهم يحلمون بغد حالم، باسم ..يتركونني أنام في هدوء دون وَخْزِي دون وإيذائي..".
سكون يعم المكان ، فالبرد ابْتَلَع أصوات الصغار فَغَطُّوا في جب الصًّمْتِ لا ينبسون ببنت شفة..إنَّهم منكمشُونَ يُدَوِّنُونَ ما على السبورة الغاضبة من حروف أعلنت بدورها انتفاضتها جراء الحيف الذي طالها لمَّا اعتراها الطبشور البغيض فنَغَّص عليها هدوءها وسكينتها، فصارت مُغبرة، واختفت ملامحها ..ومع ذلك فهي ما تزال تُقاوم صدأ السنون.
حانت العطلة البينية الأولى ..الكل ضجِر ..ينتظر الانعتاق من قبضة الوقت المرير..غابت الأسئلة والتي غالبا ما تكون كالعملة النادرة ،وكأن عقول الصغار قدْ تعطلت لهنيهات عن الكلام، إنَّهم في صوم عن الكلام ، فقد دسُّوا رؤوسهم بين دفاتر لا حول ولا قوة لها، تبدو كأنها خاضت معركة خاسرة أو كانت في مسابقة للطبخ فتناثر عليها الملون الطبيعي وصارت شاحبة ..هو الشحوب يعتريها يقتل الحياة فيها.
لاتسمع من حين لآخر إلا هسيس انعتق من قبضة المدرس الذي يقف بالمرصاد لكل من يجرأ على انتشاله من ضياعه.
هي وشوشات لا يتبين من صاحبها ..فينعل حظَّه العثِر الذي جعله يتورط في مهنة لا يفقه فيها شيئاً.
هو القدر رمى به أيضا بين هذه الجدران ..أراد أن يُذيقَه أيضا بعض ألوان المِحن ..أن يختبر طوقه على تحمل الآلام ..على ركوب أمواج غالبا ماكان يتهرب أن يركبها ..فلفظته الحياة عُنوة في قلبها دونما إرجاء.
إلى حين يتدبر أمره أو يُحشر مع من لمْ يُخيروا ووجدوا أنفسهم في معترك الحياة لا حول ولاقوة لهم إلا أنهم أشاحوا بوجوههم عن نقمة الزمن.
//سعيدة الرغيوي//