من أنا ومن أكون؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد شهيد
    أديب وكاتب
    • 24-01-2015
    • 4295

    من أنا ومن أكون؟

    في محاولة منه للإجابة عن السؤال الأبدي: من أنا ومن أكون؟ استهل عباس محمود العقاد سيرته الذاتية في كتابه « أنا » بمقولة للكاتب الأمريكي « وندل هولمز » يعرف من خلالها ماهية الانسان -كل انسان بلا استثناء : « ان الانسان- كما يقول هولمز- إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة. الإنسان كما خلقه الله…والإنسان كما يراه الناس…والإنسان كما يرى هو نفسه… »

    وانطلاقا من هذا التعريف الموجز والمركب للإنسان يجيب العقاد عن السؤال الافتراضي بقوله: « فمن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟.. ومن قال أنني أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟… » ثم يضيف العقاد متسائلا من جديد: « من قال إني اعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما يعرفه الناس؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟ »

    فإذا صار السؤال صعبا و معقدا فإن الجواب عنه بات أصعب و أعقد.

    ولعل كل واحد منا- مهما بلغ إدراكه بالأمور المحيطة به، ومهما ازدادت معرفته و علت مواهبه – فإنه قد يعجز عن إيجاد جواب كاف شاف لمثل هذا السؤال : « من أنا ومن أكون؟ »

    ومن أصدق ما يمكن أن أجيب به عن نفس هذا السؤال في حق شخصي هو: لا أدري!

    ولي في ذلك القدوة الكبرى ليس في العقاد وحده، بل وفي كبار العظماء من بني البشر الذين لم يضيقوا بذلك ذرعا ولم يجدوا حرجا في إصدار الجواب ب "لا أدري" عند التساؤل أو السؤال.

    وعلى سبيل الذكر لا الحصر، أضرب ثلاثة أمثلة على ذلك: واحد لنبي وآخر لعالم لأختم بثالث لشاعر.

    اما المثال الاول فهو مذكور في القرآن الكريم عند قوله عز وجل على لسان النبي محمد عليه الصلاة والسلام : « قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » (الاحقاف:9 ). ذلك و أن لهذه الآية سبب نزول ترويه كتب التفاسير عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تعالى : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أو لا ؟ ثم قال : إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي.

    وإذا كان هذا هو جواب من لا ينطق عن الهوى ولا يتكلم الا بوحي يوحى، فما بال سواه؟

    أما المثال الثاني فأذكر فيه قصة شهيرة رويت عن الامام مالك، صاحب المذهب المالكي.

    فلقد قال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد : كنا ذات يوم عند الإمام مالك فجاءه رجل وقف في مجلس علمه وكان الناس يتزاحمون ويتضاربون على مجلس الإمام مالك فجاءه رجل ووقف على مجلس علمه، والإمام بين طلابه، قال الرجل: يا أبا عبد الله ! قال: نعم، قال: لقد جئتك من مسيرة ستة أشهر, لقد حملني أهل بلدي مسألة لأسألك فيها فقال الإمام مالك : سل، فسأله الرجل عن مسألته -ولم تذكر الرواية تلك المسألة- فنظر الإمام مالك بعد ما انتهى السائل من سؤاله وقال: لا أدري، لا أحسن جواب مسألتك، فذهل الرجل وقال: أتيتك مسيرة ستة أشهر وأهل بلدي ينتظرونني وأنت تقول: لا أحسن جوابك مسألتك، ماذا أقول للناس إذا ما رجعت إليهم؟ فقال مالك : قل لهم: قال مالك بن أنس : لا أحسن الجواب.

    اما ما يمكنني ان استخلصه من خلال هذا الحدث التاريخي فمفاده ان جواب الامام بلا ادري لم يكن ناتجاً عن تواضع عالم جليل فقط (ولو ان التواضع من شيم العلماء) بقدر ما فتئ معبراً عن استحالة وجود جواب كاف شاف مُحيطٍ بجميع جوانب السؤال المطروح. فلو كان عند الامام جواب لأجاب. الا ان قدره ومكانته لم تمنعاه من الامتناع عن الجواب ولو بحضور حشد من الطلبة والعلماء.

    وإذا علمنا بأن خير البشر هم الأنبياء ثم يليهم في الخيرة العلماء، وان الخيرة هاته لم تمنع نبياً ولا عالماً من أن يجيبا بلا أدري عند سؤال من يقلهما قدراً و علماً، فانه من باب أولى ان لا أجد لنفسي جوابا اوفى واغنى من لا ادري خاصة عندما يكون السؤال المطروح على الذات: » من أنا ومن أكون؟ »

    الشئ الذي يجرني الى المثال الثالث

    في مقطع بعنوان « صراع وعراك » يحكي الشاعر اللبناني ايليا ابو ماضي ضمن قصيدته الرائعة « طلاسم » معاناته مع الذات – التي من طبعها الا تستقر لها حال بل هي كل يوم في شأن – اثر مجموعة من التساؤلات الفرضية والتي لم يجد للاجابة عنها سوى عبارة « لست ادري »

    يقول ايليا أبو ماضي

    صراع وعراك:

    إنّني أشهد في نفسي صراعا وعراكا

    وأرى ذاتي شيطانا وأحيانا ملاكا

    هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكا

    أم تراني واهما فيما أراه؟

    لست أدري!

    كلّ يوم لي شأن ، كلّ حين لي شعور


    هل أنا اليوم أنا منذ ليال وشهور

    أم أنا عند غروب الشمس غيري في البكور


    كلّما ساءلت نفسي جاوبتني:

    لست أدري!


    فاذا كان جواب هؤلاء جميعا هو لاأدري, فانني لست بأعلم ولا أدرى بمن أكون أو قد لاأكون. فاللغز يبقى عالقا في انتظار توفر الحل الابدي. ومن أجل طي صفحة الذات أختم حديث النفس لهذه الليلة بهاته الكلمات :

    اذا سئلت عني

    خذ الجواب مني

    وأجب سائلك عني:


    أني حقا لست أدري



    م.ش.


    التعديل الأخير تم بواسطة محمد شهيد; الساعة 13-12-2017, 15:20.
  • جلال داود
    نائب ملتقى فنون النثر
    • 06-02-2011
    • 3893

    #2
    الأستاذ محمد شهيد

    تحياتي وشكرا على هذا المقال الدسم

    وهنا بيت القصيد :

    ***

    ما ما يمكنني ان استخلصه من خلال هذا الحدث التاريخي فمفاده ان جواب الامام بلا ادري لم يكن ناتجاً عن تواضع عالم جليل فقط (ولو ان التواضع من شيم العلماء) بقدر ما فتئ معبراً عن استحالة وجود جواب كاف شاف مُحيطٍ بجميع جوانب السؤال المطروح. فلو كان عند الامام جواب لأجاب. الا ان قدره ومكانته لم تمنعاه من الامتناع عن الجواب ولو بحضور حشد من الطلبة والعلماء.

    ولنا عودة بحول الله

    تعليق

    • أبوقصي الشافعي
      رئيس ملتقى الخاطرة
      • 13-06-2011
      • 34905

      #3
      مقال رائع
      أهلا بك سيدي معنا
      تقديري.



      كم روضت لوعدها الربما
      كلما شروقٌ بخدها ارتمى
      كم أحلت المساء لكحلها
      و أقمت بشامتها للبين مأتما
      كم كفرت بفجرٍ لا يستهلها
      و تقاسمنا سوياً ذات العمى



      https://www.facebook.com/mrmfq

      تعليق

      • محمد شهيد
        أديب وكاتب
        • 24-01-2015
        • 4295

        #4
        لكم مني ازكى تحية ابعث لكم بها من بلد الثلوج كندا، شاكرا لكم حسن الاستفاضة بارائكم النيرة وعباراتكم الدافئة التي ما احوجني اليها في ليالي مونتريال الباردة.
        في انتظار لقاء بكم يتجدد...

        تعليق

        • محمد شهيد
          أديب وكاتب
          • 24-01-2015
          • 4295

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة قصي الشافعي مشاهدة المشاركة
          مقال رائع
          أهلا بك سيدي معنا
          تقديري.
          استاذنا الفاضل اشكرك جزيل الشكر على تشجيعك. تحيات التقدير

          تعليق

          • محمد شهيد
            أديب وكاتب
            • 24-01-2015
            • 4295

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة جلال داود مشاهدة المشاركة
            الأستاذ محمد شهيد
            تحياتي وشكرا على هذا المقال الدسم

            وهنا بيت القصيد :

            ***

            ما ما يمكنني ان استخلصه من خلال هذا الحدث التاريخي فمفاده ان جواب الامام بلا ادري لم يكن ناتجاً عن تواضع عالم جليل فقط (ولو ان التواضع من شيم العلماء) بقدر ما فتئ معبراً عن استحالة وجود جواب كاف شاف مُحيطٍ بجميع جوانب السؤال المطروح. فلو كان عند الامام جواب لأجاب. الا ان قدره ومكانته لم تمنعاه من الامتناع عن الجواب ولو بحضور حشد من الطلبة والعلماء.

            ولنا عودة بحول الله
            اجل سيدي داود، تواضع العلماء والحكام واصحاب الحل والعقد...هل بات حلما ام استخسروه فينا؟ لله درك يا مالك! اين نحن الان من زمانك؟
            تحياتي اليك سيدي الفاضل

            تعليق

            • محمد شهيد
              أديب وكاتب
              • 24-01-2015
              • 4295

              #7
              تتمة للحديث عن النفس و اجابة عن السؤال الافتراضي :من أنا ومن أكون؟ لابأس بالاشارة الى مواقف تاريخية عظيمة تجسد لنا أهمية التنقيب عن خبايا الهوية والاعتراف بكل شجاعة و مصداقية عن السؤال.
              وفي نفس السياق وجدت هذا الموقف الرهيب للنبي الكريم ذكر في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعدحديث مرفوع : "أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، قَالا : أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ : أَنَّ رَجُلا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنَ الرِّعْدَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ" .

              تعليق

              • محمد شهيد
                أديب وكاتب
                • 24-01-2015
                • 4295

                #8
                مواضيع فكرية ذات صلة:

                في رحاب الإنسان للأستاذ لعوطار
                الإنسان، ذلك المجهول.
                ما الأدب لولا التناقض؟

                تعليق

                • السعيد ابراهيم الفقي
                  رئيس ملتقى فرعي
                  • 24-03-2012
                  • 8288

                  #9
                  جميل هذا،
                  وتقسيم الكاتب الأمريكي الإنسان إلى ثلاثة،
                  نوع من التشتيت،
                  واستشهاد عباس العقاد به،
                  زيادة في التشتيت،
                  لماذا؟
                  لأن الإنسان الفرد العاقل عبارة عن:
                  قناعات وثوابت وطبيعة وعادات واعتقاد،
                  ومع هذا طبيعة الإنسان ليست ثابتة،
                  تزيد وتنقص،
                  لكن،
                  لها مستوى،
                  فالبعض نضعه في قمة الهرم،
                  والبعض الآخر في غيابات جب عميق،
                  والتغير والتغيير وارد، إلى أعلى أو إلى أسفل، فالإنسان ليس معصوماً،
                  إلا أن،
                  سؤالي: من انت؟
                  ماهي قناعاتك وثوابتك وطبيعتك وعاداتك ومعتقداتك؟
                  وهذه شبه ثابته
                  التعديل الأخير تم بواسطة السعيد ابراهيم الفقي; الساعة 21-02-2018, 15:26.

                  تعليق

                  • محمد شهيد
                    أديب وكاتب
                    • 24-01-2015
                    • 4295

                    #10
                    بالفعل، رؤيتك لمفهوم الشخصيه تعتمد على "توابث" في حين هنا القضية غير واضحة المعالم. وبين التابث والمتحول، تتأرجح "الأنا" حتى تفرز لنا شخصية نحتت على رخامة مصقولة sur mesure.

                    أهلا بك مجددا، الأستاذ القدير السعيد إبراهيم الفقي.

                    تعليق

                    • السعيد ابراهيم الفقي
                      رئيس ملتقى فرعي
                      • 24-03-2012
                      • 8288

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة محمد شهيد مشاهدة المشاركة
                      بالفعل، رؤيتك لمفهوم الشخصيه تعتمد على "توابث" في حين هنا القضية غير واضحة المعالم. وبين التابث والمتحول، تتأرجح "الأنا" حتى تفرز لنا شخصية نحتت على رخامة مصقولة sur mesure.

                      أهلا بك مجددا، الأستاذ القدير السعيد إبراهيم الفقي.
                      ====
                      رائع تلخيصك للرؤية التي اعتمدتها:
                      مفهوم الشخصيه يعتمد على "توابث"
                      وبين التابث والمتحول، تتأرجح "الأنا" حتى تفرز لنا شخصية نحتت على رخامة مصقولة sur mesure


                      ----
                      احترمك وأحترم جهدك أخي الفاضل محمد شهيد
                      التعديل الأخير تم بواسطة السعيد ابراهيم الفقي; الساعة 21-02-2018, 21:43.

                      تعليق

                      • محمد شهيد
                        أديب وكاتب
                        • 24-01-2015
                        • 4295

                        #12
                        المشاركة الأصلية بواسطة السعيد ابراهيم الفقي مشاهدة المشاركة
                        ====
                        رائع تلخيصك للرؤية التي اعتمدتها:
                        مفهوم الشخصيه يعتمد على "توابث"
                        وبين التابث والمتحول، تتأرجح "الأنا" حتى تفرز لنا شخصية نحتت على رخامة مصقولة sur mesure


                        ----
                        احترمكوأحترم جهدك أخي الفاضل محمد شهيد
                        وأنت أهل كل الاحترام والتقدير.
                        حفظك الله ورعاك، أخي السعيد إبراهيم الفقي.

                        تعليق

                        يعمل...
                        X