حلُم في حانة
صدحت مكبرات الصوت من مأذنة جامع المحلة الوحيد بأعلى صوتها من فوق سطوح المنازل المتداخلة, مخترقة أفاق المدينة الغافية, بددت صمت الليل وسكونه, وأيقظته من نوم هانئ بإعلانها بدأ يوم عمل شاق بعيد من جديد.
نهض متثاقلاً من فراشه الرث بعد أن أمسك بعكازه وسار بخطوات متعرجة غير منتظمة باتجاه المرآة المسودة القديمة, رمق ملامح وجهه المشوه رسمت عليه السنين تجاعيد تشبه أنهار صغيرة وكبيرة متوازية تنبع من طرف عينيه تسقي عشب لحيته الكث لتصب بالقرب من أذنيه, رتب شعره بيديه على عجل وخرج مسرعاً. نزل من درج شقته الحديدي الصدئ بصعوبة بالغة ليتماهى مع ظلام أزقه محلته الموحشة الضيقة, دروب متعرجة تتلوى بين بيوت متهالكة تتكأ على أساساتها الهشة لتقف صامدة, تملئوها أكوام النفايات تختلط رائحتها برائحة مياه السواقي السوداء الأسنة, تنتشر عليها كلاب تطارد قطط سائبة.
جدران خاوية تتصاعد لقممها بقع الرطوبة, تنتشر عليها كتابات أطفال ورسوم متنوعة تتناثر بينها أبواب صغيرة بألوان كالحة, وتعلوها شبابيك صغيرة, أغلبها مفتوحة عسى أن ينعم أهلها بنسمة هواء باردة منعشة وسط ليلة تموزية لاهبة.
وصل للشارع العام البعيد بعد جهد ومعاناة, كأنه عاد للحياة بعد خروجه من قبرٍ موحشٍ مظلم.
ينظر من زجاج نافذة الباص, شوارع المدينة واسعة نظيفة تنبض بالحياة, تعيش حياة صاخبة كأنها في وضح النهار, بنايات شامخة بواجهات زجاجية لامعة كأنها صنعت من الماس تنعكس عليها الاضواء القريبة والبعيدة, شباب يمرحون تنبعث أصوات الموسيقى الصاخبة من سياراتهم الفارهة, حدائق بأزهار ملونة وأشجار خضراء عالية, تختلف كثيراً عن أزقة حارته الميتة الغارقة بعتمة الظلام الدامس.
ما أن وصل لمكان عمله المعتاد, جلس على الكرسي بجانب باب الحانة الواسع ذات الواجهة المتلألئة بمصابيح ملونة براقة, رجال ونساء, عشرات الشباب من الجنسين كانوا متأنقين قبل أن يخرجوا مترنحين يمسك بعضهم البعض ليصلوا سياراتهم المركونة, خرج أخرهم صاحب الحانة متجهم الوجه رمى عليه مفاتيح الباب من بعيد وغادر بسيارته دون أن ينبس بكلمة.
عاد الصمت وساد السكون ألا من صوت الكلاب السائبة في طرقات المدينة, نباح الكلاب متشابه في كل الامكنة, حتى أشرقت شمس الصباح, وسرعان ما خرج الجميع ليمارسوا أعمالهم المختلفة.
قرأ في الكتاب لبعض الوقت, كتب بعض الخواطر في دفتر جيبه الصغير, سقى الأزهار وأشجار الحديقة, قضى بذلك أكثر من نصف نهاره قبل أن يلجأ لفراشه داخل غرفته الصغيرة بجانب الحانة هرباً من لهيب الشمس الحارقة, يلفه الصمت من كل جانب.
- ما الذي جنيته من ايام عمرك, ما الذي حققته من أحلام, هل كانت لك أحلام أصلاً..! ما الذي ستحققه في السنين القليلة القادمة, قضيت حياتك تقاتل في حروب طاحنة لا ناقة لك فيها ولا جمل, حتى فقدت ساقك العزيزة التي لا تعوض بثمن ولا بنصرٌ كاذب, ثمان سنوات كاملة, قتلت بعض البشر بغير وجه حق, ومات بين يديك الكثير من أصحابك, خرجت منها بلا وظيفة أو عمل, عانيت الفقر طوال أيام الحصار وجلدك سوط الجوع الكافر على مدى ليالٍ طويلة, لم تتذوق بيوم طعم امرأة, ولم تشعر بطعم حنان الأبوة, ثم ماذا, وماذا بعد...!, أنهض لتستمتع بحياتك ولو ليوم واحد فقط, يوم تعيشه مثل بقية البشر, وليكن ما يكون, ليأتي من بعدك الطوفان.
- أهلا بك كنت بانتظارك, افتقدتك كثيراً أين كنت غائباً عني طوال تلك السنين البائسة, نعم كل ما ذكرت صحيحٌ تماماً, أيامي ذهبت هدراً قضيتها بفقر وحرمان, بداعي صون الامانة والالتزام, كم كنت مغفل... أين أنت الأن, أين ذهبت, أين اختفيت, لا ترحل وتتركني وحيداً أرجوك..!.
- كان ذلك صوت الشيطان لا تدعه يغويك ولا تستمع لما قال, لا يهمك مما فاتك أنت أفضل بكثير من غيرك فلم تزل تنعم بحياتك, ولديك مكان ربما بائس لكنه يأويك كل ليلة, ولديك عمل ربما تراه بسيط لكنه يسد رمقك, سيتحسن وضعك تدريجياً وتشعر بمتعة الحياة قريباً مع الوقت.
- من أين أتيت, أغرب عن وجهي الأن يا كذاب, سئمت كلامك ونصائحك البغيضة, قضيت العمر كله وأنا أستمع اليك دون جدوى, أنظر بعينيك الى ما اوصلتني اليه, أبتعد عن وجهي, أبتعد عني لا أريد ان أرى وجهك بعد اليوم,, أذهب بعيداً يا تافه.
تعكز بعكازه ونهض من كرسيه متعجلاً, دخل الحانة ثم أوصد الباب من خلفه.
في الداخل ظلام دامس يتخلله بعض بقع الضوء من فتحات الستائر الصغيرة, ما أن أنار الضوء, أرضية من المرمر كأنها بحيرة ماء أزرق, تنتشر فوقها عشرات الموائد حمراء كبيرة لامعة, عليها شمعدانات فضية براقة, وتتحلق حولها كراسي خشبية يغطيها قماش مخملي أحمر, جدران مزججة بالكريستال, تغطي السقوف رسوم ونقوش مغربية مبهرة تشبه كنيسة قوطية تتدلى منها ثريات مثل عناقيد عنب خضراء كبيرة كأنها مصنوعة من حجر الزبرجد.
شغل تكيف القاعة قبل أن يجلس على احدى الموائد, صفق بيديه تصفيق شديد ونادي بأعلى صوته, (بوي,, بوي) أعاد اليه صدى صوته فناء القاعة الواسع.
- سمعني أجمل المعزوفات الصاخبة لديكم, وأجلب لي أفضل وأغلى أنواع الخمر الفاخرة, ثم بعدها أعد لي العشاء من ما لديكم من اسماك نهرية وبحرية وأنواع اللحوم المشوية, الكثير من اللحوم, قال مع نفسه طوال العمر وأنا جائع.
ترك مكانه ووقف بجانب المائدة المقابل ثم أنحنى برأسه للأسفل وهو يقول - حاضر يا سيدي أمرك.
أتجه لمكان (البار) مصطبة طويلة من المرمر الأبيض, خلفها معرض واسع يرتفع من الأرض للسقف يحتوي داخل رفوفه مختلف أنواع الزجاجات, صفراء, بيضاء, سوداء, حمراء, بأسماء وأشكال مختلفة.
أنتقى من بينها أجمل أربع عبوات وأرقى أنواع المقبلات الفرنسية واللبنانية, مع علبة كبيرة مليئة بمكعبات الثلج, مع صينية من أنواع الأسماك والكباب ومختلف المشويات وضعها على الطاولة - تفضل يا سيدي. عاد لمكانه بعد أن نفخ نفسه وقال: شكراً لك, أبقى قريباً مني ربما احتجتك بشيء. نظر لما أمامه بغضب, كل ما تحب النفس وتشتهي, ربما كانت تساوي راتبه لأكثر من شهر.
- أستمتع بما تحب وترغب بسنين عمرك الأخيرة, انتهت ومضت أيامك الجميلة, قضيتها بالحزن والألم, حرمت نفسك من متع الحياة وملذاتها, وخرجت منها خالي الوفاض, عوض ما فاتك قبل فوات الأوان, أن كل يوم يمضي من حياتك لا يمكنك تعويضه.
- لقد عدت أهلاً بك ..حسناً ,, حسناً سأفعل يا نديمي. ت
جرع كأسه الأول, شعر بتأثير الخمرة وهي تسري في عروقه, أحتسى الأول والثاني والثالث بلهفة عطشان وعلى عجل, بدأ تأثير الخمر يجري في عروقه ويأثر على عقله بعد أن أحس بالدوار.
- أتعلم أن في كل ليلة تمتلئ هذه القاعة بأناس مهمين أكثرهم يخفون وجوههم عن العامة قبل دخولهم وبعد خروجهم من هنا, مترفين, يرقصون, يضحكون, يمرحون, ينثرون الكثير من الأموال على رؤوس الراقصات, يأكلون ما لذ وطاب من أصناف الطعام لغاية الساعات الاولى من كل صباح.
أنهى زجاجته الاولى وفتح الثانية وهو منصت يستمع لكلماته كأنها سكاكين تنغرز بباطن عقله, أستمر يشرب الخمر يستمع لحديثه النديم معه, يشرب ويستمع حتى قطب جبينه وأخذ يتفصد العرق من جبهته, قبل أن يرمي كأسه بعيداً ويقف على عكازه ثم صرخ بأعلى صوته.
- كفى, كفاك هراء, من أين لهم كل هذه النقود ليصرفوها بمثل هذا البذخ.! من أين يجمعوها, هي حقوقنا وأموالنا المسلوبة, منافقون, مجرمون, قتلة, فاسدون, هؤلاء هم المسؤولون عن فقرنا وجوعنا, هم المسؤولون عن حرمان أطفالنا, أوجدوا بفسادهم مدننا الخربة البائسة, هم من تسبب ببتر ساقي وسلبني طعم عيش الحياة مثل بقية البشر, في حروب يسموها من أجل الحفاظ على تراب الوطن, نحن الفقراء فقط علينا التضحية من أجل الوطن, ونموت من أجل الوطن, وتقطع أجسادنا لأشلاء... كل ذاك لأجل الوطن, أنها فوضى وحياة همجية لا يمكن ان تبقى هكذا مستمرة للأبد.
بضربات هستيرية هشم كل شيء أمامه وبعثره بعيداً, حطم طاولته وقلبها رأساً على عقب, ضرب زجاجات الخمرة المتبقية بأرض الحانة وهشمها, أخرج ولاعة من جيبه, قدحها ورماها على بركة الكحول, أضرم النار وسرعان ما تحولت لغول أصفر يلتهم بشره كل ما يلاقيه أمامه, المناضد, الكراسي, الستائر القريبة, البار, زجاجات الكحول, سرعان ما وصلت النار للسقف وامتلأت القاعة بالدخان الأسود الخانق, وهو جالسٌ وسط النار مثل مجنون يضحك بهستيرية ضحكاً ببكاء ثم صرخ بأعلى صوته: سوف أودع الحياة القذرة بسعادة.
سمع صوت كأنه طرق شديد على باب بعيد, كان أحدهم ينادي بصراخ: أين أنت يا هذا, هل أنت ميت... أخرج بسرعة, أستيقظ وفتح عيناه بصعوبة.
كان صاحب الحانة – هل كنت نائم أم ميت, أعطني المفاتيح وأذهب لبيتك حالاً فقد بدأ وقت عملنا. رتب فراشه, حمل عكازه من الأرض تأبطه, ليعود من حيث أتى.
فراس عبد الحسين
صدحت مكبرات الصوت من مأذنة جامع المحلة الوحيد بأعلى صوتها من فوق سطوح المنازل المتداخلة, مخترقة أفاق المدينة الغافية, بددت صمت الليل وسكونه, وأيقظته من نوم هانئ بإعلانها بدأ يوم عمل شاق بعيد من جديد.
نهض متثاقلاً من فراشه الرث بعد أن أمسك بعكازه وسار بخطوات متعرجة غير منتظمة باتجاه المرآة المسودة القديمة, رمق ملامح وجهه المشوه رسمت عليه السنين تجاعيد تشبه أنهار صغيرة وكبيرة متوازية تنبع من طرف عينيه تسقي عشب لحيته الكث لتصب بالقرب من أذنيه, رتب شعره بيديه على عجل وخرج مسرعاً. نزل من درج شقته الحديدي الصدئ بصعوبة بالغة ليتماهى مع ظلام أزقه محلته الموحشة الضيقة, دروب متعرجة تتلوى بين بيوت متهالكة تتكأ على أساساتها الهشة لتقف صامدة, تملئوها أكوام النفايات تختلط رائحتها برائحة مياه السواقي السوداء الأسنة, تنتشر عليها كلاب تطارد قطط سائبة.
جدران خاوية تتصاعد لقممها بقع الرطوبة, تنتشر عليها كتابات أطفال ورسوم متنوعة تتناثر بينها أبواب صغيرة بألوان كالحة, وتعلوها شبابيك صغيرة, أغلبها مفتوحة عسى أن ينعم أهلها بنسمة هواء باردة منعشة وسط ليلة تموزية لاهبة.
وصل للشارع العام البعيد بعد جهد ومعاناة, كأنه عاد للحياة بعد خروجه من قبرٍ موحشٍ مظلم.
ينظر من زجاج نافذة الباص, شوارع المدينة واسعة نظيفة تنبض بالحياة, تعيش حياة صاخبة كأنها في وضح النهار, بنايات شامخة بواجهات زجاجية لامعة كأنها صنعت من الماس تنعكس عليها الاضواء القريبة والبعيدة, شباب يمرحون تنبعث أصوات الموسيقى الصاخبة من سياراتهم الفارهة, حدائق بأزهار ملونة وأشجار خضراء عالية, تختلف كثيراً عن أزقة حارته الميتة الغارقة بعتمة الظلام الدامس.
ما أن وصل لمكان عمله المعتاد, جلس على الكرسي بجانب باب الحانة الواسع ذات الواجهة المتلألئة بمصابيح ملونة براقة, رجال ونساء, عشرات الشباب من الجنسين كانوا متأنقين قبل أن يخرجوا مترنحين يمسك بعضهم البعض ليصلوا سياراتهم المركونة, خرج أخرهم صاحب الحانة متجهم الوجه رمى عليه مفاتيح الباب من بعيد وغادر بسيارته دون أن ينبس بكلمة.
عاد الصمت وساد السكون ألا من صوت الكلاب السائبة في طرقات المدينة, نباح الكلاب متشابه في كل الامكنة, حتى أشرقت شمس الصباح, وسرعان ما خرج الجميع ليمارسوا أعمالهم المختلفة.
قرأ في الكتاب لبعض الوقت, كتب بعض الخواطر في دفتر جيبه الصغير, سقى الأزهار وأشجار الحديقة, قضى بذلك أكثر من نصف نهاره قبل أن يلجأ لفراشه داخل غرفته الصغيرة بجانب الحانة هرباً من لهيب الشمس الحارقة, يلفه الصمت من كل جانب.
- ما الذي جنيته من ايام عمرك, ما الذي حققته من أحلام, هل كانت لك أحلام أصلاً..! ما الذي ستحققه في السنين القليلة القادمة, قضيت حياتك تقاتل في حروب طاحنة لا ناقة لك فيها ولا جمل, حتى فقدت ساقك العزيزة التي لا تعوض بثمن ولا بنصرٌ كاذب, ثمان سنوات كاملة, قتلت بعض البشر بغير وجه حق, ومات بين يديك الكثير من أصحابك, خرجت منها بلا وظيفة أو عمل, عانيت الفقر طوال أيام الحصار وجلدك سوط الجوع الكافر على مدى ليالٍ طويلة, لم تتذوق بيوم طعم امرأة, ولم تشعر بطعم حنان الأبوة, ثم ماذا, وماذا بعد...!, أنهض لتستمتع بحياتك ولو ليوم واحد فقط, يوم تعيشه مثل بقية البشر, وليكن ما يكون, ليأتي من بعدك الطوفان.
- أهلا بك كنت بانتظارك, افتقدتك كثيراً أين كنت غائباً عني طوال تلك السنين البائسة, نعم كل ما ذكرت صحيحٌ تماماً, أيامي ذهبت هدراً قضيتها بفقر وحرمان, بداعي صون الامانة والالتزام, كم كنت مغفل... أين أنت الأن, أين ذهبت, أين اختفيت, لا ترحل وتتركني وحيداً أرجوك..!.
- كان ذلك صوت الشيطان لا تدعه يغويك ولا تستمع لما قال, لا يهمك مما فاتك أنت أفضل بكثير من غيرك فلم تزل تنعم بحياتك, ولديك مكان ربما بائس لكنه يأويك كل ليلة, ولديك عمل ربما تراه بسيط لكنه يسد رمقك, سيتحسن وضعك تدريجياً وتشعر بمتعة الحياة قريباً مع الوقت.
- من أين أتيت, أغرب عن وجهي الأن يا كذاب, سئمت كلامك ونصائحك البغيضة, قضيت العمر كله وأنا أستمع اليك دون جدوى, أنظر بعينيك الى ما اوصلتني اليه, أبتعد عن وجهي, أبتعد عني لا أريد ان أرى وجهك بعد اليوم,, أذهب بعيداً يا تافه.
تعكز بعكازه ونهض من كرسيه متعجلاً, دخل الحانة ثم أوصد الباب من خلفه.
في الداخل ظلام دامس يتخلله بعض بقع الضوء من فتحات الستائر الصغيرة, ما أن أنار الضوء, أرضية من المرمر كأنها بحيرة ماء أزرق, تنتشر فوقها عشرات الموائد حمراء كبيرة لامعة, عليها شمعدانات فضية براقة, وتتحلق حولها كراسي خشبية يغطيها قماش مخملي أحمر, جدران مزججة بالكريستال, تغطي السقوف رسوم ونقوش مغربية مبهرة تشبه كنيسة قوطية تتدلى منها ثريات مثل عناقيد عنب خضراء كبيرة كأنها مصنوعة من حجر الزبرجد.
شغل تكيف القاعة قبل أن يجلس على احدى الموائد, صفق بيديه تصفيق شديد ونادي بأعلى صوته, (بوي,, بوي) أعاد اليه صدى صوته فناء القاعة الواسع.
- سمعني أجمل المعزوفات الصاخبة لديكم, وأجلب لي أفضل وأغلى أنواع الخمر الفاخرة, ثم بعدها أعد لي العشاء من ما لديكم من اسماك نهرية وبحرية وأنواع اللحوم المشوية, الكثير من اللحوم, قال مع نفسه طوال العمر وأنا جائع.
ترك مكانه ووقف بجانب المائدة المقابل ثم أنحنى برأسه للأسفل وهو يقول - حاضر يا سيدي أمرك.
أتجه لمكان (البار) مصطبة طويلة من المرمر الأبيض, خلفها معرض واسع يرتفع من الأرض للسقف يحتوي داخل رفوفه مختلف أنواع الزجاجات, صفراء, بيضاء, سوداء, حمراء, بأسماء وأشكال مختلفة.
أنتقى من بينها أجمل أربع عبوات وأرقى أنواع المقبلات الفرنسية واللبنانية, مع علبة كبيرة مليئة بمكعبات الثلج, مع صينية من أنواع الأسماك والكباب ومختلف المشويات وضعها على الطاولة - تفضل يا سيدي. عاد لمكانه بعد أن نفخ نفسه وقال: شكراً لك, أبقى قريباً مني ربما احتجتك بشيء. نظر لما أمامه بغضب, كل ما تحب النفس وتشتهي, ربما كانت تساوي راتبه لأكثر من شهر.
- أستمتع بما تحب وترغب بسنين عمرك الأخيرة, انتهت ومضت أيامك الجميلة, قضيتها بالحزن والألم, حرمت نفسك من متع الحياة وملذاتها, وخرجت منها خالي الوفاض, عوض ما فاتك قبل فوات الأوان, أن كل يوم يمضي من حياتك لا يمكنك تعويضه.
- لقد عدت أهلاً بك ..حسناً ,, حسناً سأفعل يا نديمي. ت
جرع كأسه الأول, شعر بتأثير الخمرة وهي تسري في عروقه, أحتسى الأول والثاني والثالث بلهفة عطشان وعلى عجل, بدأ تأثير الخمر يجري في عروقه ويأثر على عقله بعد أن أحس بالدوار.
- أتعلم أن في كل ليلة تمتلئ هذه القاعة بأناس مهمين أكثرهم يخفون وجوههم عن العامة قبل دخولهم وبعد خروجهم من هنا, مترفين, يرقصون, يضحكون, يمرحون, ينثرون الكثير من الأموال على رؤوس الراقصات, يأكلون ما لذ وطاب من أصناف الطعام لغاية الساعات الاولى من كل صباح.
أنهى زجاجته الاولى وفتح الثانية وهو منصت يستمع لكلماته كأنها سكاكين تنغرز بباطن عقله, أستمر يشرب الخمر يستمع لحديثه النديم معه, يشرب ويستمع حتى قطب جبينه وأخذ يتفصد العرق من جبهته, قبل أن يرمي كأسه بعيداً ويقف على عكازه ثم صرخ بأعلى صوته.
- كفى, كفاك هراء, من أين لهم كل هذه النقود ليصرفوها بمثل هذا البذخ.! من أين يجمعوها, هي حقوقنا وأموالنا المسلوبة, منافقون, مجرمون, قتلة, فاسدون, هؤلاء هم المسؤولون عن فقرنا وجوعنا, هم المسؤولون عن حرمان أطفالنا, أوجدوا بفسادهم مدننا الخربة البائسة, هم من تسبب ببتر ساقي وسلبني طعم عيش الحياة مثل بقية البشر, في حروب يسموها من أجل الحفاظ على تراب الوطن, نحن الفقراء فقط علينا التضحية من أجل الوطن, ونموت من أجل الوطن, وتقطع أجسادنا لأشلاء... كل ذاك لأجل الوطن, أنها فوضى وحياة همجية لا يمكن ان تبقى هكذا مستمرة للأبد.
بضربات هستيرية هشم كل شيء أمامه وبعثره بعيداً, حطم طاولته وقلبها رأساً على عقب, ضرب زجاجات الخمرة المتبقية بأرض الحانة وهشمها, أخرج ولاعة من جيبه, قدحها ورماها على بركة الكحول, أضرم النار وسرعان ما تحولت لغول أصفر يلتهم بشره كل ما يلاقيه أمامه, المناضد, الكراسي, الستائر القريبة, البار, زجاجات الكحول, سرعان ما وصلت النار للسقف وامتلأت القاعة بالدخان الأسود الخانق, وهو جالسٌ وسط النار مثل مجنون يضحك بهستيرية ضحكاً ببكاء ثم صرخ بأعلى صوته: سوف أودع الحياة القذرة بسعادة.
سمع صوت كأنه طرق شديد على باب بعيد, كان أحدهم ينادي بصراخ: أين أنت يا هذا, هل أنت ميت... أخرج بسرعة, أستيقظ وفتح عيناه بصعوبة.
كان صاحب الحانة – هل كنت نائم أم ميت, أعطني المفاتيح وأذهب لبيتك حالاً فقد بدأ وقت عملنا. رتب فراشه, حمل عكازه من الأرض تأبطه, ليعود من حيث أتى.
فراس عبد الحسين
تعليق