رسائلها
i
تناولت المرأة من الركن الاشد انعزالا من المكتب حزمة سميكة من الرسائل المرصوصة بشدة بحبل خشن من القنب و وضعتها على الطاولة المنتصبة في وسط الغرفة .
ارتسمت على الخيوط الممتدة على وجهها النحيل الحساس إمارات تأنّ عنيد فلأسابيع و هي تلقن نفسها ما زعمت القيام به.
قصمت الحبل بيدين مزرقّة العروق من على الرسائل المرصوصة بمقص فانزلقت تلك التي على القمة باتجاه الطاولة و بحركة سريعة أقحمت أصابعها بين الرسائل تنثرها و تقلبها الى أن غطت سطح الطاولة الواسع تماما.
كانت أمامها ظروف مختلفة الاحجام و الاشكال معنونة بخط يد رجل واحد و امرأة واحدة . لقد أعاد لها كل الرسائل منذ اربع سنوات حين طلبت أن يرسلها جميعا و هي منهكة جراء الاحتمالات المفزعة . لقد بيتت النية أن تتلفها كلها , رسائله و رسائلها , لكنها منذ ذلك الحين , تتغذى عليها و تستمد منها قوتها و تحفظ روحها من الهلاك . لكن الوقت حان عندما غدا هاجس الخطر لا يمكن تجاهله , فلقد أيقنت منذ شهور أن ذلك أصبح ماضيا و عليها أن تفارق كنزها و تتركه بلا حراسة .
هزل جسدها و انكمش من دوام تفكيرها بدفقات الالم و شدة الكرب التي سيجلبه اكتشاف الرسائل للآخرين , بل لشخص واحد ,وفوق كل شي , كان قريبا منها , حيث رقته و سنوات اخلاصه يجعلن منه بحكم العادة عزيزا عليها .
اختارت بهدوء و عشوائية رسالة من الكومة التي أمامها و زجت بها في النار المزمجرة و بذات السكينة الحقتها بأخرى و مع الرسالة الثالثة أخذت يدها بالارتعاش و سريعا ما داهمتها نوبة محمومة فألقت الرابعة و الخامسة و السادسة في أتون اللهب بتعاقب منزوع الانفاس ثم توقفت و أخذت تلهث مهدودة القوى و حدقت بالنار بعينين متألمتين متوحشتين.
أوّاه ! مالذي قامت به و مالذي لم تقم به! و برهبة مسعورة , بدأت تبحث في الرسائل التي أمامها . أي منها أُلقيَ خارج حياتها ببالغ القسوة و بلا رحمة ؟ بحق السموات , ليست الأولى , تلك التي كتبت حين تجرئا و نطقا بكلمة " أحبك " قبل أن يعلموا الأمر ,لا , لا ,إنها لا زالت هناك في مأمن . ضحكت بلذة عارمة و رفعتها الى شفتيها , لكن ماذا بشأن الأخرى , تلك العزيزة و الأكثر اندفاعا , ماذا لو فُقدت ؟ تلك التي صاغت العاطفة الجارفة كل كلمة فيها , تلك الكلمات التي شقت طريقها بجموح نحو عقلها فيما مضى , و لا تزال تثيرها الى اليوم بذات الوتيرة كما اعتادت أن تثيرها مئات المرات سابقا عند التفكير بها .
وجدتها و سحقتها براحتيها ثم قبلتها مرارا و بأسنانها الحادة البيضاء مزقت إحدى زواياها حيث كتب الاسم , و كالخبز المقدس قضمتها متذوقة الطعم السابح فوق لسانها.
يا لتلك السعادة التي أحست بها عندما شعرت أنها غير مضطرة لإتلافها كلها . ياللفراغ و الوحشة التي كانت ستسبغ بها أيامها الباقية . كانت ستبقى مع خواطرها , الخواطر الخادعة التي لن يكون بمقدورها أن تضعها في يديها و تضمها كما فعلت بهذه الرسائل , الى قلبها و وجنتيها .
لقد أحال الرجل الماء الذي في عروقها الى خمر جلب لهما الهذيان , أما الآن, فلقد تساوى كل شيء و أصبح من الماضي, و ما بقي من الرسائل طُوّقَ بذراعيها .
مكثت تتنفس بسكينة و روّية و خديها المتوردان يرتاحان على كومة الورق . لقد فكرت بطريقة لتبقي عليها سليمة و بعيدة من أي عطب محتمل ,هذه الرسالة التي ستؤول حتما الى نشارة بطعنات أحدّ من الشفرات .
لقد وجدت طريقة في نهاية المطاف مشبعة بالفزع, إنها الطريقة التي أرعبتها و شوشتها حينما فكرت بها في البداية.بالطبع قد قررت أن تتلف جميع الرسائل بنفسها قبل أن تأزف النهاية , لكن على أي شكل تأتي النهاية ؟ و متى ؟ و من سيخبرها بذلك ؟
ستحرص ألا تترك مدخلا للصدفة و ذلك عبر شخص تعهده اليه بالرسائل , وأهم ما في الأمر , أن يمتنع عن معرفة محتواها .
استفاقت من سكرة الفكرة و جمعت الرسائل المبعثرة مرة أخرى الى بعضها البعض تحزمهم ثانية بحبل القنب الخشن فغلفت الحزمة المكتنزة بقطعة من الورق الابيض المصقول و كتبت بالحبر على ظهرها بأحرف كبيرة واضحة " أعهد بهذه الحزمة الى زوجي. و بإيمان خالص بولائه و حبه أسأله أن يتلفها دون أن تُفتح "
وحين لم تكن مختومة , أسند خيط واهن الغلاف الذي بإمكانها انتزاعه و استبداله و قتما شعرت بالمرح و أرادت أن تمضي ساعة برفقة حلم مسمّم من تلك الايام التي شعرت أنها عاشتها.
ii
لو أتى على حزمة الرسائل عند أول تأجج من أسفه اللاذع لما كان وقتها أي تردد بأن يتلف الرسائل بحزم و بلا أسئلة , ولبدا الأمر تعبيرا رائعا عن الأخلاص و طريقة لللتودد لزوجته , و وسيلة للصراخ بحبها حينما كان العالم لا يزال ممتلأ بوهم حضورها. لكن الشهور مرت منذ ذلك اليوم الربيعي عندما عُثر عليها ممددة فوق الأرضية قابضة بقوة على مفتاح المكتب حيث بدت كانها تحاول الوصول اليه عندما اختطفها الموت .
إن اليوم مطابق لحد كبير لذلك اليوم منذ سنة عندما كانت أوراق الاشجار تتهاوى و المطر ينسكب بانتظام من السماء الرصاصية التي تلاشى منها الوميض و اختفى الوعد . لقد عثر صدفة على الحزمة في الزاوية النائية من مكتبها و بالضبط كما فعلت منذ سنة , حمل الحزمة الى الطاولة و وضعها هناك و بقي واقفا محدقا بأعين مرتبكة في الجملة التي تواجهه " أعهد بهذه الحزمة الى زوجي , و بإيمان خالص بولائه و حبه أسأله أن يتلفها دون أن تفتح ".
إنها لم تخطىء أبدا , كل خطّ في وجهه الذي شاخ ينطق بالولاء و الصدق و عيناه كانتا من الوفاء كعيني كلب . لقد كان شخصا طويلا و قويا , و بشعر رقيق خالطه الشيب , انتصب في ضوء النار بكتفيه المتهدلين المنحنيين و بوجه مميز الذي لابد أن يكون وسيما عند الابتسام . لكنه كان بطيئا " أن يتلفها دون أن تُفتح " أعاد القراءة , و بصوت نصف مرتفع " لكن لماذا دون أن تُفتح "
تناول الحزمة مرة أخرى بين يديه و أمالها و تحسسها و علم أنها تحتوي على رسائل مرزومة بشدة , إذن كانت رسائل التي طلب منه أن يتلف دون أن تُفتح .
لم تلُح مطلقا في حياتها أن لديها سر بعيد عنه , لقد عرفها باردة و بلا عاطفة لكنها مستقيمة و مراعية لراحته و سعادته . لكن ,لم لا يحمل بين يديه سر شخص آخر عُهد به اليها حيث وعدت بأن تصون؟ لكن لا , و إلا لأشارت للأمر بكلمة إضافية أو سطر آخر . لقد كان السر سرها , شيء مُصان في هذه الرسائل و أرادت أن يموت معها .
لو كان باستطاعته ان يتصورها واقفة على شاطيء بعيد رفيف الظلال تنتظره لسنين مُشرعة يديها لينضم اليها و يجتمع بها ثانية , لما تردد لحظة في إتلاف الرسائل , و لفكر بثقة مفعمة بالامل بوقت اللقاء السعيد ذاك ," روح لروح , ستخبرني بكل شيء , يمكنني الانتظار و الثقة الى أن يحين اللقاء"
لكنه لم يقدر على تصورها منتظرة أياه في أي فردوس سماوي , أحس أنه لم يعد أي جزء صغير منها في هذا العالم أكثر مما كان قبل ولوجها اليه .
لكنها جسّدت ذاتها خلال أمنية غير مجسّدة بروعة أخّاذة ,لُفظت حينما كانت الحياة تدب في أوصالها , لُفظت بكل الثقة بسلطتها و إمكانيتها حيث أدركت أن أمنيتها ستبلغه عندما تكون يد الموت قائمة بينهما , أسكرته الفكرة ,فجاش شيء في نفسه من جرأتها الساطعة و روعة التصرف الذي أعلى من شأنه و رفعه منزلة عن باقي البشر الفانين .
لكن " مالسر الذي يمكن لامرأة أن تختار ليموت معها ؟ و بذات السرعة التي تناهى الى ذهنه هذا السؤال تفشت وبلحظة الحميّة في دمه .
انكمشت اصابعه حيال الحزمة التي في يديه و غرق في كرسي محاذ للطاولة , لقد حرمه ,ولومضة سريعة, شك معذِب من الشرف و المنطق,بأن يدا أخرى ربما شاركته أفكارها و عواطفها و حياتها .
أقحم ابهامه القوي تحت الخيط الواهن الذي بفتلة صغيرة سيخضع لمبتغاه " و بإيمان خالص بولائك و حبك " لم تكن الاحرف المخطوطة تسعى لفهم ما تكنه العين , بل كان صوتا يحدث روحه و يناجيه , فسرت على إثره رجفة من كرب في بدنه وأرخى رأسه على الرسائل.
تذكر عرافا كان قد رآه ذات مرة رافعا رسالة الى جبهته زاعما أنه خبر فحواها , ثم انتابته الحيرة فجأة فلو أنه تمنى مثل هذه الحزمة هدية و أجهد نفسه على تمنيها لما أتت اليه . ثم اختفى هذا التفكير فجأة وسيطر عليه السطح الاملس للورقة الباردة على حاجبه كلمسة يد امراة ميتة .
مرت نصف ساعة قبل أن يرفع رأسه , صراع صامت في داخله , لكن ولاءه و حبه انتصرا في النهاية , وبوجه شحاب متغضن من المعاناة ,أدرك أنه لم تعد هناك حاجة من البقاء في البيت و مع ذلك لم يفكر لو للحظة بزج الحزمة في اللهب لتلعقه الالسنة المحمرة و تتفحم و يتكشف نصفها لعينيه , كلا انها لم تعن هذا مطلقا .
نهض ممسكا وزنة الورق البرونزية من على الطاولة ووضعها بأناة على الحزمة , مشى نحو النافذة و نظر الى الشارع الممتد في الاسفل , كان الظلام قد أطبق والسماء لا تزال تقذف المطر حيث أمكنه رؤيته منهمرا خلال الضوء الاصفر الباهت المنبعث من حافة مصباح الشارع و صوت ارتطامه بالنافذة يطنّ في أذنيه و حين عندما استعد لمغادرة المنزل اقحم الحزمة في اعمق جيب في معطفه و حين أصبح في الشارع لم يسرع كبقية الناس في تلك الساعة بل مشى بخطوات بطيئة واسعة متزنة غير آبه بلفح البرد و المطر لوجهه بالرغم من حمله لمظلته.
لم يكن مسكنه بعيدا عن سوق المدينة و لم يمضي وقتا طويلا قبل أن يجد نفسه منتصبا أمام مدخل الجسر الممتد فوق النهر الواسع العميق النتدفق الذي يفصل بين ولايتين . كانت الريح تندفع بقسوة و هياج و حيث انتصب غدا الظلام مستحكما . آلاف الانوار في المدينة التي خلّفها وراءه احتشدت كنجوم السماء سوية, تغرق في الافق البعيد الغامض تاركة اياه وحيدا في الكون المظلم الفسيح . سحب الرزمة من جيبه و مال قدر استطاعته فوق صخرة الحاجز الكبيرة و قذف بها بعيدا عنه في النهر . اندفعت الحزمة مستقيمة و برشاقة من يده ولم يقوى على متابعة سقوطها عبر الظلام و لا سماع ارتطامها بالماء البعيد . لقد تلاشت بصمت في بقعة داكنة كالحبر لا يمكن سبر غورها أبدا. شعر و كأنه يبعثها اليها , يرسلها ,الى ذلك العالم المجهول الذي مضت اليه .
iii
و بعد ساعة او اثنتين جلس حول طاولة بصحبة عددا من رفاقه كان قد دعاهم ذلك اليوم للعشاء. جثم ثقل على روحه , وراوده يقين انه بالامكان وجود سر تختاره المرأة ليموت معها . لقد استحوذت عليه الفكرة و احتلت عقله و أبقته متنبها و يقظا تراوده الشكوك معتصرة قلبه محيلة كل نفَس من الوجود الى لحظة الم حقيقي . لم يعد الرجال الذين أمامه اصدقاء الامس , ففي كل منهم اشتم عدوا محتملا ,فلم يأبه بكلامهم و تابعه بشرود تام .خطر بباله أنها ربما نذرت نفسها لهذا الشخص أو ذاك و أجهد نفسه ليستعيد الاحاديث التي جرت بينهما , مستحضرا رقة تعابير وجهها التي ربما عنت ما لم يشتبه به في تلك اللحظة ,فغشيهُ ضباب من المعاني في كلماتها التي لاحت كتجاذب اعتيادي لآداب اللطافة الاجتماعية .
قاد بنفسه الحديث حول المرأة سابرا أولئك الرجال و أفكارهم و تجاربهم , لم يكن شخص واحد من ادعى بل عدد منهم إن اختار ذوق الرجل امرأة فقوة لا ترد تحرك المرأة و عواطفها. لقد استمع الى مثل هذا التفاخر الاجوف من ذات المجموعة سابقا و دائما ما قابله باحتقار مشوب بالفكاهة و لكن اليوم كل تعبير فظيع و آثم فارغ أُلبس معنى جديدا يكشف احتمالات لم يأخذها بالحسبان حتى الى الآن .
كان مسرورا عندما غادروا ,ليس رغبة في النوم لقد كان تواقا للوحدة , بل كان لا يطيق صبرا اقتحام غرفتها التي امضت نصيبا كبيرا من حياتها فيها و هي ذاتها التي وجد فيها تلك الرسائل . من المؤكد أن يكون هناك المزيد من الرسائل في مكان ما , فكر , قصاصة منسية أو خاطرة أو تعبير مكتوب ملقى بلا حراسة باحدى المعجزات .
في الساعة التي فيها عادة يعتزل كل ما حوله لينام و جد نفسه جاثما أمام المكتب خاصتها حيث شرع يبحث في المزالق و الجرارات ثم في أعشاش الطيور و في الثقوب و الزوايا , لم يترك قصاصة عن أي شيء بلا قراءة , العديد من الرسائل التي وجدها كانت قديمة , قرأ بعضها سابقا و أخرى جديدة و لكنه لم يعثر على أي رسالة تحتوي حتى لو على دليل واهن أن زوجته لم تكن تلك المرأة المستقيمة و الوفية التي دائما اعتبرها كذلك.
شارف الليل على الانقضاء قبل أن يفرغ من بحثه الذي أورثه نوما مضطربا كان قد انتزعه قبل ساعة من موعد استيقاظه المعتاد . كان حلما مشحون بأحلام متنافرة محمومة غريبة , رأى و سمع تمكن من عبرها من رؤية و سماع النهر الداكن بصورة باهتة ’ رآه مسرعا حاملا قلبه و طموحه و حياته . لكن الرسائل وحدها لم تكن الوحيدة التي يمكن عبرها أن تخون عواطفُ النساء ,فلقد عرفهن و خاصة فيما يتعلق بالحب فهن يعلّمن الفقرات المليئة بالعاطفة في كتب الشعر أو النثر . إن هذا يوضح و يكشف عن أفكارهن الخبيئة . لكن ربما هي لم تفعل ذات الشيء؟ ثم شرع بتنقيب مضن مستنزف للطاقة يفوق البحث الأول , فقلب صفحة صفحة الكتب المكدسة في غرفتها , كتب الخيال و الشعر و الفلسفة , لقد قرأتها كلها . لكنه لم يعثر و لا في أي مكان و لا بأي اشارة أن ما كتبه المؤلف كان صدى لسر حياتها . السر الذي حمله في يديه و قذف به في النهر . بدأ بحذر و بالتدريج يسائل هذا الكتاب و ذلك الكتاب , باذلا أقصى جهده ليعلم أي الطرق الملتوية قد سلكتها و فكرت بها .
أهم ماعلمه عنها أنها كانت بلا عواطف , باردة في التعامل . طفق يسأل عنها , فأخبره شخص أنه أعجب بفكرها و آخر بانجازاتها و ثالث صرح أنها جميلة قبل أن يداهمها المرض , متحسرا أن جمالها يعوزه دفء المحيّا و التعبير . لقد كال البعض لها المديح لدماثتها و طيبتها و آخرون لذكائها و لباقتها .
أوه , إنه من العبث أن تحاول معرفة شيء من الرجال ! ربما أدرك الأمر الآن.
إن النساء وحدهن يتكلمن بما عرفن . و حقا تكلمن , و بلا تحفظ . أغلب النساء قد احببنها و تلك اللواتي لم يحببنها حملن لها الاحترام و التقدير .
iv
لكن , لكن " هناك سر واحد يمكن للمراة أن تختار ليموت معها " استمرت تلك الفكرة التي في تلبسه و حرمانه الراحة . ليال و أيام من الشك و الارتياب بدأت تنخر أعصابه و تنكل به . لو أن أسوء ما يخشاه يتأكد لمنحه سلاما طال انتظاره حتى لو على حساب سعادته .
لم يعد يهتم بأي حال أن تكررت زيارة أصدقاءه أو أن يأتوا و يذهبوا , لم يعد يبالي إن نجح في هذا العالم أو سقط أو أن يتزوج أو يموت , لم يعد يكترث إن جاءه المال بضربة حظ أو تملص من بين يديه , لقد بدا له الفراغ و العبث الوسائل الوحيدة التي يقدمها العالم لتسلية الرجل . إن الطعام و الشراب الذي وضع أمامه فقدا مذاقهما أيضا .
تماما, لم يعد يعرف أو يهتم إن أشرقت الشمس أو دنت السحب رأسه , ضباب كثيف غلفه عندما كان في أسوء درجات ضعفه , مبعثرا كينونته و مخلفا في روحه أمنية واحدة فقط , رغبة تقضمه لمعرفة اللغز الذي كان يحمله بين يديه و قذف به في النهر .
و في ليلة قاتمة منتقصة البهاء غارت نجومها , طفق يجوب الطرقات مرتعد البدن متهدم الجسد , لم يعد يسعى ليعرف من الرجال و النساء ما لم يجرؤوا على البوح به أو لم يستطيعوا ذلك , النهر وحده عرف . قصد الجسر و وقف هناك بذات المكان الذي اعتاد الوقوف فيه مرات عديدة لساعة كاملة منذ تلك الليلة التي أطبق فيها عليه الظلام و ابتلع رجولته . لكن النهر عرف . أنصت للنهر الذي يبقبق و يفرقع , شعر أن النهر اخبره بشيء , لكنه يعدُ بكل شيء , أصغى لوعده القادم القادم بصوت مغوي , الوعد بالسلام و الهدوء النقي . قدر على سماع انسياب التيار , إن أغنية الماء تدعوه , و بعد دقيقة , مضى سعيا ورائها لينضم اليها و لسرها وسط راحة لا حدود لها .
تمت