[read]
- لديّ أقوال هي على درجة من الأهمية بمكان ؛ أرجوك تأذن بسماعها و تسجيلها في محضر الجلسات يا سيدي الرئيس !..
لكن الرئيس تفادى ذلك و لم يلق بالا له و راح تحت الأضواء الأرجوانية ينطق بقرار المحكمة القاضي بنفي صاحبيه إلى الثلث الخالي و الإلقاء به هو في قاع بئر بترولية عسى تجيء سيارة فتدلي دلوها.
كيف خرجت من قصر الدهشة بدهشة القصر لا أذكر؟..!.. وجدتني أطلق ساقيّ للريح وأنا ذاهل ذلك الذهول إلى حين . ولعل للمقادير يد خفية هيأت لي حتى تطأ قدماي قصر عدالة تلك الجزيرة و أخرج منه لأنقب عن سر الحكاية. حكاية هؤلاء المحاكمين على ذلك النحو بالطريقة تلك. ظللت كالتائه بين الأزقة ، ضيقها
و فسيحها أفتش الواحة البحرية حتى جمعت خيوط القصة واحدا واحدا …
... عرفت أن هؤلاء انبعثوا من رحم الأرض، لم يورقوا إلا أنسا وارفا يبدد وحشة الكهوف. بأحضان دفئ إفريقي أخذهم فردوسهم الذي ما لبث أن فقدوه على وجه الكوكب الأزرق جاسوا يفسرون الطلاسم التي صارت بقعر ذواتهم ، تتكور و تنتفخ . أوجسوا في النفس ذعرا ، دفنوا الأذقان في الأسفار!.. تورطوا حتى النخاع في مخزون الإنسانية ثم تجلوا ينفضون الزهد الغامر عن شجن أيامهم الشبيهة بلياليهم. همّوا بإسقاط قليله عبر عدم الاكتراث المفتعل .
بوجه ضحى ممشوق بتفاعلات زمن خارج عن صيرورة أزمنتهم ، أسند الثلاثة كتلا مضرجة بالعلل إلى جذع نخلة بعمر أبي البشر. تتحدى القهر و الجور؛ تقاوم العوادي مع زمرة النخيل و قد بات منذ عهد يحرس الشاطئ العريض. شاهدوهم يوغلون في التيه ؛ رموشهم يغازلها اللون اللازوردي تأسرهم صفرة عاجية ، تخالطها زرقة عذبة الأشعة المنكسرة .
شمس أغسطس تقبل صفحة براقة على مرمى عشر دقات قلب . أشلاء أبدانهم تطفح للموج و الملح و أنى لها بذلك . حدقاتهم غائرة ، كأنما غاصت للعمق تصطاد عرائس البحر .
- ثلاثة قال لي الفران ورابعهم طائرهم المذبوح على صدورهم، منـتف ريشه مقيد الساقين يجلسون، قال، وقت السحر إلى سمار الجزيرة، دوما ينقشون جمرهم على القلوب والثقوب يروون بمرارة قصة طائرهم المذبوح على صدورهم و ذلك قبل أن ترجف الراجفة بالفردوس المفقود.
أما المداح و يده على قلب ربابه ، استجمع نفسا ، عكف ساقا ومد أخرى بسوق اليتامى واختزل الحكاية في شهقتين وعبرتين : » إثنان كالملائكة و ثالثهم نبي !
وهج الشمس يؤجج بصدورهم عرقا و ضيما . يضرم بمهجهم ألسنة طوالا ، تفسّـخ السكينة تسبكها فتستحيل صراخا ما انفكت تكتمه القضبان والفؤوس
و تلجمه المرايا لئلا ينعكس فيحـدث الطوفان .
كانوا يتملصون مؤقتا بنظرات ضائعة تلاحق قوارب الصيادين و هي تتمايل فوق العباب ، يدفعها أصحابها الميل بعد الميل على أمل الظفر بكنوز الأغوار المائية . ثلاثتهم تـتوارى أحلامهم، تتكسر على الصخور و أعينهم مرشوقة بالقوارب التي شقت بعدُ طريقها، تاركة الساحل مهجورا إلا من أجناس لا تشبه أهله في شيء كانت تبتعد.. تتميع أشكالها ، تتحول شيئا فشيئا إلى نقاط استفهام سوداء ؟؟؟
- جلست إليهم ، قال لي الملاح ، مستعذبا حديثهم مصفقا له بالجوارح. في يقظة وفي حلم لم أزل أحفظ لهم آخر صورة قبل أن تنسل أرجلهم من الطريق، قال ، وتطأ حصايات الرمل. كان في أعصابهم ثمة زوبعة عصماء تعصف. تعلقت أبصارهم عنوة برأس نخلة ؛ و لأن لا ذنب لهم سوى أنهم ورثوا عن قامتها الشموخ وسعفاتها الطموح وعن عراجينها العطاء .
درجت أقدامهم مثل الريح تنتهك حرمة محمية وحوش الحضارة . بخرق جوارح ، يلوذون بها رثة ، شابكت أصابعهم مثلثات السياج النحاسي المضروب على امتداد الشاطئ الغاص بشقراوات بلاد الجن الكاسيات بآدمية رقطـاء. تلطخ مياهه نجاسة عشاقهن و ميوعة بعولتهن . المشهد ظل طويلا يستنفر حواسهم ، يدق نواقيس أفـئدتهم.. يصيرها في الحلق.
هكذا طلعوا يرمقون الزبد و حرائق الحنين . صمتهم ينـزل ثقله على المكان كأنما هم بين برزخ و بعث !.. إلى أن انفرجت شفاه صاحبهم المؤرخ عن جمر
و رماد :
- أواه !.. تحصلوا على شاطئنا الجميل ثلثا بعد ثلث ، إثر عمليات التقسيم المقدسة . لهم أن يستحموا بالنهار و يقيدوا عليه شموع عنابرهم بالليل . ما أشقانا
و ما أتعسنا ! ..لم يلبث أن سبح السينمائي بين سياق هتول :
- أهل الجزيرة يا صديقيّ ما انفكوا يشاهدون البحر في الخرائط وعلى كارتات المناظر . هم يهربون لون الموج إلى أحلامهم ليعرضونه بالديابوزيتيف *
في تلك الآونـة ، الجزيرة تحت الكيـّي تأوهت .. و الحديث فيها بدأ يعلوه حديث آخر وينـتفخ... أفواه الأهالي تنفخ على الجذوة، يتـقد جمر غضب يرغب
في حريق.
على قاب قوسين من ذلك تململ المؤرخ بحشرجة صوته ثم استطرد :
- لم أعد أذكر منذ متى كان لنا اصطيـاف ؛ أو حتى بقت للأهالي قـدرة على لمس السيـاج اللهم إلا خلسة و إلا لقوا ما لقـيه سيزيف .
كأنما يدون يوميات سجين تحامل الأديب على السياق:
- إن آباءنا حين خلصوا واحتنا البحرية من الأشباح ، ظنوا المساكين أنهم طردوهم إلى غير رجعة ، وذلك بعد أن استرجعوا طقوسها و تقـاليدها الأصيلة ، هاهم يفـقدون البهجة بفعل فاعل.
قبل تخفّي الراوي، سمعت من ردد أنه أخبرهم بأن الجزيرة هبـّـت ، تعاظم انتفاخها فاستحال منطادا بحجم هيليوم الشمس، أوشك على الانفجار
أو لربّـما على الإقلاع.
أما الثلاثة فظلوا قابعين هناك كأنما يضربون الموعد المؤكد.
هكذا استفهمهما السينمائي وعيناه عدستان بالأبيض و الأسود :
- من يعـمّـر الديار غير أهلها ؟
الأديب و في صوته نبرة الطفولة والكهولة:
- ما بقي وجه منا إلا وقد سرقوه. أغرقوا طفولتنا في الدموع. قطعوا علينا حبل تفكيرنا . شاطئ كشاطئنا هذا أبدا لن أقايضه بسعة قارون .
المنطاد حالـئذ أقـلع من الجزيرة صوب شاطئ البحر، يغلّف هيـئـئه صمت ثـقـيل ضاج
وطالع ما عاد بظهر الغيب …
أمـا هم فلقد تورطوا في حيز الـمجال وحدسهم يسبق مغناطيس الشمس أن يدرك المد و الجزر. في لحظة عارية عارمة ،لا تنفلت من بين أصابع القدر
شعر ثلاثتهم بحفيف كحفيف الطير بهدير كهدير النهر ، بضيق كحرج البحر .
مالـوا ركبـوا الحشـد وقد حط المنطـاد دونما تأخيـر . وقفوا عليه . شمـّروا سراويلهم .. قمصانهم.. عمالقة راحوا يشربون ماءه من ضحاهم إلى
أصيلهم حتى بلغوا القاع ولم يعـد ثمت للزرقة أثر غـير زرقة السماء . ثم عادوا إلى بيوتهم في سكينـة الأئمة و الرهبان .
يومها لم يـعِ الساسة ما حدث !.. لا دونت الصّـحافة الخبر ببنطها العريض ، ولا علق عن الحدث مراسل أمين . غير جدة وأنا بإحدى الأمسيات كنت
مـارّا بحارة يتيمة ، سمعتها تغزل لأحفادها الحكاية تقول:
- لو مرة بالليل يا صغاري
فاجأكم الغول و العنقاء بالسؤال
لو مرة بالليل يا صغاري
فاجأكم الغول و العنقاء بالسؤال
- من شرب البحر أب الأهوال ؟!..
لا تهلعوا أحبتي ، أيا صغاري ..
قولوا فقط للغول ..
قولوا للعنقاء في إكبار :
من غير البحر قد شرب البحر ؟ !.
[/read][read]
بقلم/ السعيد مرابطي
[/read][read] ....................- الديـابـوزيـتـيف : الحـركة السـاكـنة
[/read][read]
[/read]
...................................
- الديـابـوزيـتـيف : الحـركة السـاكـنة -
تعليق