دفاتر زينب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • حسن العاصي
    أديب وكاتب
    • 10-01-2015
    • 267

    دفاتر زينب

    عندما استيقظ ذات صباح في شهر آب القائظ ,كان جبينه يرشح عرقاً , بدأ يتمتم بكلمات مبهمة وهو يتلوى ألماً من صداع في منتصف الرأس , بعد أن كان قد قضى ليلته في صراع مع الكوابيس التي داهمت نومه ولم يتذكر منها سوى عبق رائحة السجائر حين امتص آخر سيجارة وألقى برأسه على الوسادة كي ينام .

    ولم تجدي نفعاً مع هذه الكوابيس جميع المحاولات لطردها , وأفراد عائلته اصطفوا واجمين بجانب سريره لايدرون مايفعلون ,بعد ان أيقظتهم صرخته المدوية منتصف الليل , الا أن والدته العجوز أصرت على تلاوة بعض سور القرآن الكريم فوق رأسه وهي تمسح جبهته براحة يدها اليمنى .

    كان حين استيقظ قد قرر – وهو بالمناسبة نادراً ما يستطيع التقرير في شأن من شؤون حياته – أن يحطم احتكار الكتابة الصحفية على حد تعبيره , وأن يقتحم أسوار هذه القلعة المغلقة على أصحابها وينضم إلى جنود القلم كما كان يسميهم , الذين كان يراهم يدخلون ويخرجون من الباب الرئيسي لمقر إحدى المجلات الحزبية الاسبوعية , يتأبطون بعض الصحف اليومية وحزمات من الأوراق لايدري مابها , ومنهم من ارتدى ثياباً بالغ في أناقتها بدرجة ملفتة , تتدلى حقائب جلدية من أكتافهم يتنافسون في اقتناء الأجمل منها, والله وحده يعلم مابداخلها , ولم يجرؤ صاحبنا يومًا على الاقتراب منهم , رغم أمنيته أن يلقي التحية على واحداً منهم , اأو أن يبادروه السلام , الا أن شيئاً من هذا لم يحصل .

    وبعد طول انتظار وتردد , ارتدى أفضل مالديه من ثياب وسرح مابقي من شعر رأسه , وكي تكتمل الأناقة أفرغ نصف زجاجة عطر رخيص فوق رأسه , وعرج إلى محل تصليح الأحذية في طريقه إلى المجلة كي يلمع حذاءه ويرتق الثقوب الجانبية فيه كي لا يلحظها أحد مما قد يحول دون تحقيق ما قد عزم البدء فيه .

    طرق باب المجلة و والتقى عدداً من المسؤولين في إدارتها وفي هيئة التحرير ,وأصر على أن يلتقي مسؤول قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية بشكل منفرد للتباحث معه في القضايا المصيرية التي تعصف بالأمة , ولما كان المسؤول مسافراً للمشاركة في نشاطات أحد المؤتمرات التي دعي إليها , اكتفى بلقاء النائب الذي أخبره أن لافرصة أمامه لمقابلة السيد رئيس التحرير الذي يستشيط غضبا لأن الدعوة وصلت إلى رئيس قسمه واعتبر الأمر إهانة شخصية له , وأنه حاول عبثا أن يتصل بالقائمين على المؤتمر ليرسلوا له دعوة أخرى , بعد شعوره بالخيبة لفشل المؤامرة التي حاك خيوطها في مكتبه بمعاونة السكرتيرة لمنع رئيس قسم الدراسات من السفر .

    وبعد يومين كاملين أمضاهما صاحبنا في غرفة موصدة , مكتفيا بالضروري من الغذاء والماء , وهو يفرك يديه ببعضهما , يحاول عصر رأسه والامساك بفكرة مقالته الأولى والتي ستكون طريقه إلى مجد الصحافة يدخله من الباب الواسع , كما ستجعل منه إنساناً مشهورًا وشخصاً مهماً وتضع إسمه بجانب كبار الكتاب .

    وعندما أدرك أن وحي الكتابة قد أشفق عليه وأنه قد حانت ساعة الصفر ,أخذ يبحث في زوايا المنزل عن القرطاس والقلم , وبعد جهد مرير وجد القلم , وعبثا حاول العثور على القرطاس , وحين فقد الأمل من هذا البحث المضني الذي استغرق ساعتين كاملتين , بعثر خلالهما محتويات غرف المنزل , وحين استدرك أنه لم يكن في يوم بحاجة الى القرطاس , التفت الى دفاتر شقيقته زينب وكانت لازالت طالبة ابتدائية .

    التقط أحد هذه الدفاتر وبدأ مشواره مع الكتابة الى أن ملأ صفحات الدفتر الاربعين بمقالته العظيمة التي تناولت خطاباً سياسياً كان قد ألقاه في حينه أحد القادة السياسيين .

    استل صاحبنا القلم بيده اليمنى , وأحكم قبضته اليسرى على الدفتر المسكين و وراح يشيد ويمتدح خطاب القائد الملهم مبتدءًا مقالته على النحو التالي :

    قال الأخ القائد في خطابه التاريخي الذي ألقاه منذ يومين بحضور عدد كبير من ممثلي الأحزاب وحركات التحرر الصديقة وحشد غفير من جماهير شعبنا و ثم فتح مزدوج ونقل بأمانة تامة الجزء الأول من خطاب القائد , فملأ ثماني صفحات كاملة , وتبعا لأصول الكتابة الصحفية اغلق المزدوج في المقطع الأول .

    وفي مستهل الصفحة التاسعة كتب صاحبنا هذه العبارة الصغيرة , ويضيف القائد الكبير و ثم فتح مزدوج مرة أخرى ونقل حرفيا الجزء الثاني من خطاب القائد فغطى عشر صفحات كاملة , وعندها أطلق زفرة تطايرت من شدتها الأوراق أمامه , ومنح نفسه قسطا من الراحة شرب خلالها سبعة فناجين من القهوة بالتمام والكمال , وعندما طلب المزيد بالحاح تشوبه العصبية , هرعت شقيقته زينب الى الجيران تستجدي بعض البن للمفكر العظيم .

    وبعد أن انتهى من تدخين علبة سجائر كاملة من النوع الرخيص امتصها حتى الفلتر , مسح جبهته المتعرقة واستأنف حربه الشرسة مع المقالة .

    ففي مطلع الصفحة الثامنة عشرة تابع الصحفي الجليل ماقد بدأه وكتب : وفي مجال آخر تعرض القائد المقاتل لقضية الصراع العربي الاسرائيلي , بما يؤكد استمرار حزبه في خوض غمار الكفاح المسلح , ثم فتح مزدوج وأورد مقاطع كاملة مطولة من خطاب القائد الفذ حتى وصل الى آخر سطر من الصفحة الاربعون من دفتر أخته زينب , كان خلالها قد حرق نصف علبة السجائر التي أرسل أخته لشرائها و وابتلع أربع حبات من مسكن الألم للسيطرة على مشاعره الجياشة التي أججتها كلمات القائد الحماسية ثم أغلق المزدوج , وبطح اسمه تحت المقالة وسمح لنفسه أن يضع تحت الاسم اشارة تقنية ’’ 24 اسود ’’ .

    بعد أن أتم انجاز هذه الخبطة الصحفية أطلق صفرتين متواصلتين , وضم الدفتر إلى صدره كما تضم الأم البكر وليدها , وارتمى متهالكا فوق الكنبة مباعداً مابين رجليه تاركا العنان لخياله يصور له عالم الأضواء والشهرة .

    ثم استدعى زوجته وأولاده الصغار , وبصوت خطابي تغلب عليه الجدية المصطنعة طلب من زوجته أن تشرف من الآن فصاعدا على شؤون المنزل والأولاد , وأن تتحدد زيارات الأقارب والأصدقاء بناء على مواعيد مسبقة , وأن تطلب من الجيران التزام أقصى درجات الهدوء والسكينة , وطلب من أطفاله عدم تشغيل التلفزيون والمذياع إلا بناء على تعليمات منه وذلك فقط للاستماع الى نشرات الأخبار التي بات من الضروري أن يعتاد على الاستماع إليها من الآن فصاعدا لمتابعة مايجري من تطورات على الساحة الدولية , وأن ..... وأن .., لأنه منصرف تماما منذ هذه اللحظة الى الكتابة في القضايا المصيرية الكبرى , والتي لابد من أن يدلي بدلوه فيها بعد أن لاحظ أن زملاءه من كبار الكتاب والمفكرين لم تسعفهم قدراتهم الذهنية للالمام بكافة جوانبها , وطلب من ابنه الكبير أن يحضر له كمية كبيرة من الأوراق البيضاء وعددا من الأقلام كالتي يستخدمها أقرانه .

    فصدق المساكين ماسمعوه وبالغت الزوجة في تطبيق تعليمات زوجها الكاتب الجاد المنصرف لمعالجة القضايا الشائكة , وتحول المنزل الى دير مهجور , صمت مطبق, زوار قليلون يتناقصون يوما بعد يوم , وصاحبنا المفكر عابس الوجه مقل في الكلام وكثير التدخين , تهاجمه نوبات من السعال الشديد بين الحين والآخر , يضع يده اليسرى أعلى جبهته على طريقة القادة والمفكرين , وفي يده اليمنى قلمه وأمامه أكوام من الدفاتر والورق تنتظر الاشادة والمدح بالخطيب , لقادة بدا صاحبنا يتابع تحركاتهم ومهرجاناتهم حتى لاتفوته واحدة .

    ولعل الفرق الوحيد بين صاحبنا الذي كتب ذات يوم على دفتر اخته زينب , وبين العشرات من أمثاله , أنه أمين ونزيه في إبداعاته , يضع الكلام الذي ليس له بين مزدوجين , فيما يتركه الآخرون حراً طليقاً وينسبونه لأنفسهم ولايخجلون .

    أيها الكتبة , من كان منكم بلا دفاتر زينب فليرجم صاحبنا بحجر .
    يتدفق نبضي على وريقات قلبي...وتفيض ضلوعي ورداً على ضفاف رحيقها
  • فوزي سليم بيترو
    مستشار أدبي
    • 03-06-2009
    • 10949

    #2
    ربنا يخليلوا أخته زينب ودفاترها
    سؤال بريء :
    هل أنت متأكد يا أخي حسن أن بطل النص قد كتب حرفا
    في دفتر زينب ؟
    أظنه والله أعلم قد سطا على دفتر زينب بما ما هو مكتوب عليه من
    أفكار الشقيّة أخته زينب !
    وعليه ما ورد في هذا النص ليست من بنات أفكاره ، إنما من أخوات أفكاره
    وسلامي لك أخي حسن العاصي
    فوزي بيترو

    تعليق

    • حسن العاصي
      أديب وكاتب
      • 10-01-2015
      • 267

      #3
      الله يحفظ أخوات جميع الكتبة
      للعلم .. زينب هي الأخرى قد اشتهرت كروائية بعد سنوات قليلة
      والفضل يعود إلى دفاتر العائلة
      شكراً العزيز فوزي سليم بيترو على القراءة
      محبتي واحترامي
      يتدفق نبضي على وريقات قلبي...وتفيض ضلوعي ورداً على ضفاف رحيقها

      تعليق

      • منار يوسف
        مستشار الساخر
        همس الأمواج
        • 03-12-2010
        • 4240

        #4
        من كان منكم بلا دفاتر زينب فليرجم صاحبنا بحجر .
        كلهم أو أغلبهم عندهم دفاتر زينب
        و قد صارت هذه الدفاتر مثل الغبار الذي نتنفسه رغما عنا

        راق لي أسلوبك الأدبي الجميلة
        و الخاتمة قوية جدا

        تحياتي و تقديري أستاذ حسن

        تعليق

        • حسن العاصي
          أديب وكاتب
          • 10-01-2015
          • 267

          #5
          العزيزة منار يوسف
          اختلط الفارع مع الدارع
          وأصبح الغث أكثر من السمين
          أسعدني أنك كنت هنا
          شكراً على القراءة
          مودتي واحترامي
          يتدفق نبضي على وريقات قلبي...وتفيض ضلوعي ورداً على ضفاف رحيقها

          تعليق

          يعمل...
          X