بوجوه قلقة، وعيون تكاد لا ترمش، كانوا يحدقون بثبات، و يدخنون بتوتر.بينما كانت إشارة المرور تتابع عملها المعتاد دون اكتراث لشوارع المدينة الخالية.
الشاشة كبيرة بما يكفي لرؤية واضحة، وبعيدة بما يكفي لجلوس محايد، على مسافة آمنة من طاولات الصفوف الأولى، المنقسمة إلى معسكرين متوترين و متناقضين.
كان المعلّق يصرخ بحماسة بالغة، وهو يتابع باهتمام شديد، كرة تتقاذفها الأقدام .. وحين عبرت الكرة إلى شباك أحد الفريقين ، غاب صوته خلف ضجيج أحد المعسكرين الذين كادوا يلامسون سقف المقهى وهم يقفزون فرحين، فيما سقطت الأكف فوق جباه المعسكر الآخر حزناً.. قبل أن يعود الجميع إلى صمت تتخلله عبارات ناقدة أو متحسرة.
كصحن مليء بالأنوار و الدهشة والمتعة، يبدو المكان، من علو مرتفع في سماء تلك العاصمة الغربية. وحين كانت الكاميرا تقترب إلى ارتفاع مناسب لترصد مواقع اللاعبين وحركة الكرة ، كنت ازداد دهشة بذلك الترتيب والانتظام..
تذكرت صديقا زرته ذات مساء، سألته وأنا أقف بباب غرفته: " إلى متى ستبقى على هذه الحالة!؟".. ضحك وهو يسألني: " ماذا تقصد !؟".. " أقصد هذا !!" قلت له بيد تشير إلى أشياء غرفته الغارقة بالفوضى.." كأن زلزالا أصابها ،أو إعصارا شديدا مرَ من هنا!!" .. ضحك وهو يزيل عن كرسي بعض ثيابه ويدعوني للجلوس ثم قال وهو يجلس على كرسي مقابل: " هذه ليست فوضى يا صديقي.. إنها قمة الترتيب والنظام!."
ثم تابع ردا على دهشتي : " أليست غاية الترتيب والنظام هو الوصول إلى أشياءك بسهولة ويسر؟".
" والشكل مهم أيضاً " قلت له.."الشكل والتلوث البصري..أمور ثانوية..الجوهر هو المضمون..المضمون فقط!!."
هدأ صوت المعلّق قليلاً وهو يقول بأننا "نلعب" في الثواني الأخيرة من شوط المباراة الأول، ويطمئن الحزينين بأن شوطاً آخر ينتظرنا، قد تميل فيه الكفة لصالحهم..وحين أعلن الحكم النهاية، نقلنا إلى استديو تحليلي، بينما كان اللاعبون ينسحبون إلى استراحتهم.
عيون المقهى، كانت لا تزال شاخصة إلى الشاشة، وقد خف توترها.
دائماً كانت ردة فعل الجمهور المحتشد في ملاعبنا، تثير دهشتي.. شكل التعبير وحدته، الغضب والفرح الهستيريان ،لا يتناسبان مع الحدث، بل يفوقانه إلى حد كبير ..ردة فعل لا يمكن فصلها عن الواقع الذي يحيط بهم، فهم لا يخلعون مشاكلهم وهمومهم الأخرى خارج أسوار الملعب.. تغدو الكرة المليئة بالهواء، ذريعة مناسبة لتفريغ المكبوت..
بين كرة القدم والمسرح، نقاط التقاء عديدة.فالمستطيل الخضر هو المنصة ، اللاعبون ممثلون ، والمدرب هو المخرج ،وهنالك الجمهور ..ورغم الفروق الكمية التي يختلفان فيها، فإن فرقاً جوهرياً يبدو نافراً بوضوح: المتعة التي غابت عن خشبة المسرح المعاصر الغارق بالتنظير والخطابات والشعارات والرمزية ، دفعت الناس إلى مدرجات الملاعب ، حيث القصة تكتب أمامهم ، طازجة ، مليئة، كما الحياة، بالمفاجآت والمنعطفات التي يعشقونها.
عاد صوت المعلق مرحباً، بينما كان اللاعبون يقفون في أماكنهم المحددة، وينتظرون الركلة الأولى. وعاد معه التوتر و الأمنيات المتعارضة ، يغمران فضاء المقهى المشحون بالقلق والدخان.
" لقد تقبّل الخسارة بروح رياضية!" هكذا يصفون امتثال احدهم لنتيجة انتخابية مثلاً .. فقواعد اللعبة الديمقراطية ، أو الثقافة الديمقراطية تجعله يقر بخسارته وهو يصافح نده المنتصر مهنئاً..وكذلك الأمر في كثير من الألعاب الرياضية ، ثمة مهزوم وآخر منتصر ، لا يمكن أن يربح الطرفان. لكن الروح الرياضية تجعل من الطرفين رابحين.
كانت الصيحات تتعالى من المعسكرين، المبارة ما بين كرّ و فرّ. عقارب الساعة خاضعة للنسبية ، الوقت مرتبط بالمشاعر، يضيق على طرف حدّ الاختناق ، ويتمدد على الآخر حدّ التشظي. العيون تنوس بين كرة حائرة و زمن يمضي. المقهى يفيض بالآهات والزفرات والدعاء و الدعاء المضاد.
قرأت ذات مرة، بأن الصينيين القدماء كانوا يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون الفريق المنهزم. وأن مبارة جرت في انكلترا ، كانت كرتها رأس أمير دانمركي خسر معركته. أما في بعض القرى التي مارست اللعبة في القرون الوسطى فكان الركل والعض و الضرب وحتى فقأ العيون ، مسموحاً.. وربما هذا ما جعل الملكة اليزابيت الأولى تصدر قانونا يسجن لاعب كرة القدم أسبوعا أو أن يطلب الغفران من الكنيسة!!.هذا جزء بسيط من تاريخ الكرة القديم، قبل أن تتخذ اللعبة شكلها الحديث على يد البريطانيين..يبدو أن العنف جزء من تاريخ الكرة.
بعض الوجوه مغمورة بالسعادة، ووجوه أخرى تتحضر للنحيب، والمعلّق الذي وصل قمة الحماس،وهو يصرخ معلناً بأن ثوان قليلة فقط تفصل أحد الفريقين عن التاريخ...فالتاريخ للمنتصرين فقط ..
لم تكد الصفارة تستقر بين شفتي الحكم، وهو يمدّ يدا مشدودة إلى مركز الميدان، حتى لامست أصابع المعسكر المنتصر سقف المقهى وتعانقت الأجساد بفرح، فيما كان المعسكر الآخر ينظر بحسرة ودموع نحو الشاشة. كان اللاعبون يتبادلون التحية، قبل أن ترتفع أيديهم مصفقة، لجمهور واقف يحيي طرفي المباراة " بروح رياضية".
أمسى المقهى قنبلة موقوتة..
وحين اختلط المعسكران، كانت السيارات وأعلام المنتصرين، تعبر الشارع دون استجابة لإشارة مرور تتابع عملها المعتاد!!.
الشاشة كبيرة بما يكفي لرؤية واضحة، وبعيدة بما يكفي لجلوس محايد، على مسافة آمنة من طاولات الصفوف الأولى، المنقسمة إلى معسكرين متوترين و متناقضين.
كان المعلّق يصرخ بحماسة بالغة، وهو يتابع باهتمام شديد، كرة تتقاذفها الأقدام .. وحين عبرت الكرة إلى شباك أحد الفريقين ، غاب صوته خلف ضجيج أحد المعسكرين الذين كادوا يلامسون سقف المقهى وهم يقفزون فرحين، فيما سقطت الأكف فوق جباه المعسكر الآخر حزناً.. قبل أن يعود الجميع إلى صمت تتخلله عبارات ناقدة أو متحسرة.
كصحن مليء بالأنوار و الدهشة والمتعة، يبدو المكان، من علو مرتفع في سماء تلك العاصمة الغربية. وحين كانت الكاميرا تقترب إلى ارتفاع مناسب لترصد مواقع اللاعبين وحركة الكرة ، كنت ازداد دهشة بذلك الترتيب والانتظام..
تذكرت صديقا زرته ذات مساء، سألته وأنا أقف بباب غرفته: " إلى متى ستبقى على هذه الحالة!؟".. ضحك وهو يسألني: " ماذا تقصد !؟".. " أقصد هذا !!" قلت له بيد تشير إلى أشياء غرفته الغارقة بالفوضى.." كأن زلزالا أصابها ،أو إعصارا شديدا مرَ من هنا!!" .. ضحك وهو يزيل عن كرسي بعض ثيابه ويدعوني للجلوس ثم قال وهو يجلس على كرسي مقابل: " هذه ليست فوضى يا صديقي.. إنها قمة الترتيب والنظام!."
ثم تابع ردا على دهشتي : " أليست غاية الترتيب والنظام هو الوصول إلى أشياءك بسهولة ويسر؟".
" والشكل مهم أيضاً " قلت له.."الشكل والتلوث البصري..أمور ثانوية..الجوهر هو المضمون..المضمون فقط!!."
هدأ صوت المعلّق قليلاً وهو يقول بأننا "نلعب" في الثواني الأخيرة من شوط المباراة الأول، ويطمئن الحزينين بأن شوطاً آخر ينتظرنا، قد تميل فيه الكفة لصالحهم..وحين أعلن الحكم النهاية، نقلنا إلى استديو تحليلي، بينما كان اللاعبون ينسحبون إلى استراحتهم.
عيون المقهى، كانت لا تزال شاخصة إلى الشاشة، وقد خف توترها.
دائماً كانت ردة فعل الجمهور المحتشد في ملاعبنا، تثير دهشتي.. شكل التعبير وحدته، الغضب والفرح الهستيريان ،لا يتناسبان مع الحدث، بل يفوقانه إلى حد كبير ..ردة فعل لا يمكن فصلها عن الواقع الذي يحيط بهم، فهم لا يخلعون مشاكلهم وهمومهم الأخرى خارج أسوار الملعب.. تغدو الكرة المليئة بالهواء، ذريعة مناسبة لتفريغ المكبوت..
بين كرة القدم والمسرح، نقاط التقاء عديدة.فالمستطيل الخضر هو المنصة ، اللاعبون ممثلون ، والمدرب هو المخرج ،وهنالك الجمهور ..ورغم الفروق الكمية التي يختلفان فيها، فإن فرقاً جوهرياً يبدو نافراً بوضوح: المتعة التي غابت عن خشبة المسرح المعاصر الغارق بالتنظير والخطابات والشعارات والرمزية ، دفعت الناس إلى مدرجات الملاعب ، حيث القصة تكتب أمامهم ، طازجة ، مليئة، كما الحياة، بالمفاجآت والمنعطفات التي يعشقونها.
عاد صوت المعلق مرحباً، بينما كان اللاعبون يقفون في أماكنهم المحددة، وينتظرون الركلة الأولى. وعاد معه التوتر و الأمنيات المتعارضة ، يغمران فضاء المقهى المشحون بالقلق والدخان.
" لقد تقبّل الخسارة بروح رياضية!" هكذا يصفون امتثال احدهم لنتيجة انتخابية مثلاً .. فقواعد اللعبة الديمقراطية ، أو الثقافة الديمقراطية تجعله يقر بخسارته وهو يصافح نده المنتصر مهنئاً..وكذلك الأمر في كثير من الألعاب الرياضية ، ثمة مهزوم وآخر منتصر ، لا يمكن أن يربح الطرفان. لكن الروح الرياضية تجعل من الطرفين رابحين.
كانت الصيحات تتعالى من المعسكرين، المبارة ما بين كرّ و فرّ. عقارب الساعة خاضعة للنسبية ، الوقت مرتبط بالمشاعر، يضيق على طرف حدّ الاختناق ، ويتمدد على الآخر حدّ التشظي. العيون تنوس بين كرة حائرة و زمن يمضي. المقهى يفيض بالآهات والزفرات والدعاء و الدعاء المضاد.
قرأت ذات مرة، بأن الصينيين القدماء كانوا يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون الفريق المنهزم. وأن مبارة جرت في انكلترا ، كانت كرتها رأس أمير دانمركي خسر معركته. أما في بعض القرى التي مارست اللعبة في القرون الوسطى فكان الركل والعض و الضرب وحتى فقأ العيون ، مسموحاً.. وربما هذا ما جعل الملكة اليزابيت الأولى تصدر قانونا يسجن لاعب كرة القدم أسبوعا أو أن يطلب الغفران من الكنيسة!!.هذا جزء بسيط من تاريخ الكرة القديم، قبل أن تتخذ اللعبة شكلها الحديث على يد البريطانيين..يبدو أن العنف جزء من تاريخ الكرة.
بعض الوجوه مغمورة بالسعادة، ووجوه أخرى تتحضر للنحيب، والمعلّق الذي وصل قمة الحماس،وهو يصرخ معلناً بأن ثوان قليلة فقط تفصل أحد الفريقين عن التاريخ...فالتاريخ للمنتصرين فقط ..
لم تكد الصفارة تستقر بين شفتي الحكم، وهو يمدّ يدا مشدودة إلى مركز الميدان، حتى لامست أصابع المعسكر المنتصر سقف المقهى وتعانقت الأجساد بفرح، فيما كان المعسكر الآخر ينظر بحسرة ودموع نحو الشاشة. كان اللاعبون يتبادلون التحية، قبل أن ترتفع أيديهم مصفقة، لجمهور واقف يحيي طرفي المباراة " بروح رياضية".
أمسى المقهى قنبلة موقوتة..
وحين اختلط المعسكران، كانت السيارات وأعلام المنتصرين، تعبر الشارع دون استجابة لإشارة مرور تتابع عملها المعتاد!!.
تعليق