صراخ ممزوج ببكاء و عويل ، صوت اٍمرأة تصرخ و تنادي :
_ النجدة ، اٍلحقوني اٍنه يقتلني ..
لا أحد يجيب الابواب ما تزال موصدة العمارة صامتة الا من صراخها ، صوت حزام سرواله و هو يجلدها به يصنع اٍيقاع على صوت صراخها ، أغنية الألم لا أحد يريد سماعها تستشيط غضبا حين ترى أن لا أحد يرغب في انقاذها منه للحظة تنسى بكائها تتشبث بقوة بالدرابزين هاربة من ضرباته و تعاود الصراخ :
ألا يوجد رجال في هذا البلد، اٍنه يقتلني ..
المرأة المسكينة مازالت تؤمن بزمن المعتصم ، بالرغم أنه في قرارة نفسها تدرك أن زمن المعتصم قد ولى و أنقضى .
وأخيرا كلماتها تحرك بعض النخوة في سكان العمارة فيخرج رجلان من منزليهما و يبعدانه عنها ، صار الجميع يرفض التدخل في أي شيء الكل غالق عليه بابه ، فمهما حصل لا أحد يتحرك خشية التورط فيما لا تحمد عقباه لا يهمهم آن كان من يتعرض للخطر بريء أو ضعيف المهم لا يجرون لمشاكل لا تخصهم . تنتصر أخيرا سياسة النعامة في مجتمعنا الكل يفضل دفن رأسه في الرمل. المشكلة هنا ليست بسيطة فالشخص الذي يتصرف بهذه الطريقة مع زوجته ليس رجلا عاديا بالنسبة لسكان العمارة، فهو رجل شرطة. ربما لو كان شخصا أخر لكان أهون عليهم، لكن رجل شرطة. جاراه يعملان المستحيل لتهدئته و اٍبعادها من قبضته . يدخلانها للبيت و يطمئنانها أنهما سيأخذانه برفقتهما و لن يتركاه يعود حتى يهدأ تماما .
جهيدة لا تتكلم أي شيء يقال لها تمؤ برأسها فقط . منذ زمن بعيد لم تعد تتكلم ما تعيشه مع زوجها أخرسها ، ثم ماذا تقول هي لا تعرف أصلا لماذا يحصل هذا ، تتمنى لو تفهم ما الذي يجعله يعاملها بهذه الطريقة ، أنها ليست أول مرة و لا الثانية ، فالشخص يتوقف عن العد حين يتعب و تصبح الأرقام بلا معنى ، و هي توقفت عنه منذ زمن طويل .
تنظر حولها دون هدف محدد الغضب يسيطر عليها ترغب في تكسير أشياء البيت لكنها متعبة ، دوامة من المشاعر المتضاربة تولد بداخلها و تتعبها ، حزن ، ألم ، الحسرة و اليأس و كأن كل أحاسيس الدنيا تجمعت عندها و هذا يرهقها أكثر فأكثر ، هذه الدوامة من المشاعر تفقدها تركيزها ، غصة تحس بها تعصر معدتها و شيء ما يضغط على حلقها تريد أن تبكي ففي السابق جسدها من كان يبكي ، في هذه اللحظات دموعها ترفض النزول تريد أن تستريح ما تعيشه متعب جدا و هذا يؤلم أكثر من ألم الجسد ، فروة رأسها تتخدر و عروق رقبتها تتصلب أكثر تحرك رأسها يمينا و شمالا لتسمع طقطقات آتية من رقبتها و كأن هذه العروق تتكسر أو أنه صار فيها فقاعات بلاستيكية و أحد ما يفقعهم ، تسير بلهفة نحو هاتفها تذكرت أمها ، تريد أن تكلمها ، لكن ماذا ستقول ؟ حين تذكرت والدتها سالت دموعها . أخيرا أتت هذه الدموع لكن ليس في التوقيت المناسب ، تضع الهاتف من يدها و تبكي ، ستستغل هذه الفرصة قد يخرج بكاءها شحنة الضغط الذي هي فيه ، ثم ماذا ستقول لوالدتها ، الكلام لم يعد ينفع تجر نفسها لغرفتها تميل على سريرها تلم ساقيها و تسحبهما لأعلى و تنكمش ، الصداع بدأ يشتد تتمنى لو تتوقف عن التفكير ، ماذا لو كان هذا التفكير مثل التنفس لكتمته ولو قليلا حتى ترتاح لكنه لا يرحمها .
سيعود بعد قليل و سيتكرر نفس السيناريو و سيعتذر لكن هذه اللحظة فقدت رونقها و رومانسيتها فقد صارت سمجة. أنها تحفظ هذا المشهد المزعج بالنسبة لها، شريط كلماته يمر في مخيلتها. يبدأ دائما بكلمة "سامحيني" المقززة هكذا تراها هي في مثل هذه المواقف ثم يستمر في سرد تبريرات و تعليلات مملة و مضجرة ، لحظة تكرهها أكثر حتى من لحظة اعتدائه عليها ، أنه يكون في قمة كذبه بوعده المتكرر بعدم ضربها مرة أخرى و أنه سيحاول أن يسيطر على غضبه .
لحظة الرياء ، هكذا تسميها لم يكن يوما يعني ما يقوله ، أنه يكون أكثر صدقا و أكثر قرب لحقيقة ذاته في أوقات عنفه ، لم يجرؤ يوما أن يعدها بأن يتغير ، لأن ذلك مرفوض عنده ، التغيير مشروع كبير لا يقدر عليه.الأدهى من ذلك أنه يعيش ما يفعله على أنه أمر طبيعي و كيف لا وقد تربى ليكون هكذا.. أبوه ضرب أمه و جده ضرب جدته فلماذا هو لا يفعل مثلهم؟
يدخل الغرفة لم تسمع صوت خطواته ،تنظر أليه لكن تشيح بسرعة نظرها عنه و لا تبدي أية حركة ،أنها لا تريد أن تغير شيئا في المشهد ، مادامها تحفظ جيدا ما سيحدث و ما سيقول ، فلن تحاول تغيير شيء. كلما أطال في الكلام تصبح لا تسمعه .
" أنت استطعت أن تنسيني الفرح ، أنت الشخص الذي حطم كل شيء كان لدي ، ذات يوم ستعرف من تكون بالنسبة لي. كنت سأتخرج من كليتي قبل أن تدخل حياتي ، أوقفت دراستي و اغتلت معها أحلامي ..معك أنت كرهت نفسي و جسدي الذي تحبه و تخرج عليه كل جنونك ، أحيانا تعذبه و تؤذيه و أحيانا يتحول لدمية تتسلى بها ..أنت سجني الذي لم أستطع التخلص منه..أنا لا أكرهك أنت، بل أكره نفسي و ضعفي و استسلامي ".
تنظر أليه فتجده ساكتا ، بدا لها أنه أنهى كلامه ، صار سهلا عليها ٍالغاء وجوده ، فحواراتها الداخلية تنفس عنها و تعزلها عنه ، فنادرا ما تكون تصغي له.يترك الغرفة متجها نحو الصالة يفتح التلفاز بهدوئه المعتاد فلا شيء جديد لحظة غضب انتهت كسابقاتها.تغادر جهيدة أيضا وجهتها المطبخ ، عليها أن تستمر في أداء واجباتها بصورة عادية.
هذه المرة توصلت لشيء خطير جدا يرعبها صارت موقنة أن هذا الرجل سبب تعاستها و استمرارها معه سيدفعها للجريمة عنفه معها ليس السبب بل مجرد وجودها معه يخنقها فهي تحمله كل أسباب معاناتها و حزنها وهي خائفة من أن عنفه معها سيدفعها لعنف أكثر شراسة . تغسل يديها ، تمسحهما و تعود حيث يجلس تقف فجأة أمامه حاجبة عنه التلفاز :
_ منير أريد منك شيئا..أتمنى أن تفكر فيه جيدا .
يحاول الابتسام لكن ملامحها الهادئة و نظرتها الباردة تشعره بقشعريرة بين كتفيه لم تكن يوما هكذا:
_ قولي ما تريدين ، ما الموضوع؟
تعليق