حبل الغسيل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ام تنهنان
    أديب وكاتب
    • 13-06-2015
    • 19

    حبل الغسيل

    تبقى مريم تراقبه دون أي كلمة ، ولكنها تلاحظ ٍانزعاج كبير على وجهه ، ليس من عادته البقاء صامتا أقل شيء كان سيلاعب ولديه . لا تتوقف عن التسائل ما سر الكيس الأسود الذي أحضره معه و حاول ٍاخفائه تحت فراش الطفل الصغير ، فكل البيت مجرد غرفة واسعة بعض الشيء منها غرفة النوم ، و غرفة الجلوس و المطبخ ، كل ما كان يهمهم أنها تلمهم و تقيهم التشرد في الشوارع .
    مع حلول الظلام أوى الطفلين لفراشهما بعد تعب شديد فهما لا يتوقفان عن اللعب طوال اليوم مع أبناء الجيران ، فالشارع متنفسهما الوحيد.
    تحاول مريم التظاهر بعدم ملاحظتها أي شيء و عبد الخالق يعمل جاهدا على جعلها تتأكد من أنه نام ، تمر الدقائق كأنها ساعات طويلة و رتيبة . و أخيرا تغط مريم في نوم عميق ،فالفجر يكاد يبزغ ، يتسلل عبدالخالق من فراشه بهدوء حتى لا يزعج من معه، يسحب الكيس بحذر من تحت فراش ولده و يخرج الحبل الذي كان يخبؤه طوال الأمسية ، يأخذ في حبك أنشوطة بيد ترتجف حزنا ، وليس خوفا ولديه نائمين أمامه و هو يخشى أن يتخيل ما سيعانيانه مما سيفعله .
    خشخشة الكيس تجعل مريم تتململ في مكانها، عبد الخالق لم يعد يحس بشيء ، اللحظة الآتية تأخذ كل تفكيره أنه يرى فيها الحل ، بل الصحيح الخلاص ، هكذا سينهي معاناته و معانات أبنائه أو هكذا يظن . الأنشوطة جاهزة ، يقف متجها نحو الباب ، لكن هذه المرة مريم تفتح عينيها ، يذهلها ما تراه تحت الضوء الخافت للغرفة للحظة لا تفهم ما يحدث لكن سرعان ما يتضح لها كل شيء تنتفض في مكانها ثم تقفز مرعوبة ممل تراه :
    _ عبدالخالق..أنت جبان
    صوتها أرعبه أكثر من أي شيء آخر أكثر حتى مما كان مقدم عليه.
    _ ماذا تقولين ؟ كيف؟.
    عبد الخالق غير مستوعب ما حدث ، لم يرد أن تراه هي بالذات . ما كان يجب أن تراه، كيف سيشرح ما كان ينوي فعله ، تقترب منه مثل المجنونة و تسحب الحبل من يده :
    كيف تجرؤ ؟ أنا و أطفلك لمن تتركنا؟
    _ أنا لا أقدم لكم شيئا ، وجودي كعدمه ، بدوني تكونون أحسن . تعبت من عجزي ، وعدم قدرتي على اعالتكم .
    _انت سبب وجود هذه الاسرة ، طوال هذه السنين كنت سبب وجودنا والآن تريد أن تتركنا .
    يحاول عبد الخالق أخد الحبل من يدها بحركة آلية فهو لم يعد يعرف ماذا يفعل ، او ماذا يقول .الموقف صعب يجعل تفكيره مشلول ، حتى هذا الحبل الذي يريد استرجاعه لا يعرف ماذا يفعل به .هذه اللحظة التي هو محتجز فيها افقدته ادراكه للحاضر او حتى المستقبل ، وردت فعل مريم زادته توتر وحرج ٍاذ تسلمه الحبل دون تمنع او مقاومة ، وهذا جعل يداه ترتجفان وصدره يضيق ، هواء الغرفة لم يعد يكفيه ليتنفس ، طنين قوي في اذنيه وكأن فرقة صراصير يعزف دون تناغم بداخلهما .
    _ أريد ان أستريح ، حتى الموت يعاندني ولا اتمكن من ادراكه .
    كان يكلم نفسه أكثر مما كان يكلمها يرفع نظره الى مريم يستنجد بها لم يعد يعرف ماذا يفعل ، وكأنه كان داهبا في رحلة طويلة وفجأة لم يعد يدرك كيف يتصرف رحلته تأجلت أو ألغيت.يحاول البحث عن فكرة في ذهنه فلا يجد شيئا .
    رأسه فارغ الا من دوار شديد يثير غثيانه .مريم صعبت عليه الموقف لماذا لا تقاومه ، لماذا لا تتكلم أو تصرخ ؟ أصلا لماذا استيقظت ؟ يشعر باختناق بطيئ ، يريد حلا لماذا لا يموت الان وينتهي كل شيئ ؟ هذه هي اللحظات المزعجة تستمر طويلا ، وكأن شريط الزمن علق وراح يعيد ويعيد ليؤلم أكثر ، ويسحق كل كيانه .
    يمضي متجها نحو الباب ليس لأنه عرف ما يريد بل لأن ضياعه أتعبه ويرغب في تغيير تلك اللحظة الابدية .تسبقه مريم وتقف مسندة ظهرها للباب فاتحة ذراعيها :
    _ أتركيني أموت ، أرجوكي .
    يشد بأكثر قوة على الحبل لا يريد أن يتراجع لن يظهر أمامها أنه كان يعبث فقط ، أو أنه خاف في آخر لحظة .
    _ لن أدعك تتركنا يا عبد الخالق ، نبقى جميعا معا أو نرحل جميعا ...
    _ لست ذاهبا في رحلة
    _ الموت رحلة لا أحد يعود منها .. وستأخذنا معك يا عبد الخالق ، لن أقبل أن تلقي عليا مسؤولية أطفالك ونفسي أيظا ، انت مسؤول عنا ...
    تمسك بيده وترفعه بقوة تهزه يتدلى الحبل بينهما .
    _ قبل أن تخنق نفسك أقتلني أنا وأطفالك .
    عبد الخالق لايسمع ، ماذا يحدث ؟ زوجته مريم جنت ، يظن انه سمع هذيان امرأة مجنونة .ماذا اقترف في حياته ليعش مثل هذه اللحظة المدمرة . مريم لا تتركه يستجمع نفسه أو تمنحه فرصة ليبدأ عقله في التفكير .
    _ سأوقظ الطفلين ، ابدأ بالصغير لا أريده أن يرى ما سيحدث ثم أخاه أول فرحتنا .. يجب أن أتأكد أنك أرحتهما من قساوة ما سيأتي ثم سيكون دوري .
    يشعر عبد الخالق أن زوجته بجنونها هذا تسبقه بأشواط ، انها تقفز به من حلم مزعج الى كابوس لايطاق ، جنونها يرعبه أكثر من الموت نفسه .يتمنى لو يعود الى الامس حيث يقف أمام متجر الخردوات حيث أشترى الحبل اللعين هناك في ناصية الشارع بقرب المخبزة ، يدقق النظر بزوجته وكأنه وصل الى فكرة عبقرية كانت تائهة عنه طوال هذه السنين . الآن يعرف أين الخطأ الذي أرتكبه ، أخطأ العنوان ، كان يجب أن يدخل للمخبزة زوجته وأولاده محتاجين للخبز او حتى قطعتين من الحلوى يقتسمونها على النصف ليحصل كل واحد على نصف قطعة حلوى كما كان يفعل دائما .هذه هي المعظلة ، أخطأ في العنوان ، وهذا الخطأ سيكلفه حياة أولاده وزوجته . ينقل نظره لطفليه النائمين فرغم حوارهما لن يستيقظا .انه يرى صورة الطفلين يتدليان من طرف الحبل يصارعان الموت، ويشعر بتفسخ مفاصله عن بعضها البعض يسقط الحبل من يده . مريم لاتتكلم تراقبه وتنتظر في ردة فعله في هذه اللحظة مشاعرها تجمدت لا شيئ يهمها في هذا الكون كله سوى شيئين اثنين هما اما أن يترجع عبد الخالق عن فكرته أو أن يموتوا جميعا .
    "سأدهب معه أنا وأطفالي لن أدعه يتركنا ..يريد الحل السهل لنفسه ، وضع النهايات سهلا على كل أحد . الاستمرار وسط المتاعب و المشاكل هو الصعب ، يريد أن ينسحب ويتركني ماذا أستطيع أن أفعل أنا وطفلين من دونه "
    حوار داخلي لا يتوقف عند مريم . تنحني و تلم الحبل من على الارضية ، تأخد في لفه بصمت :
    _ أرميه
    يقول عبد الخالق
    أحتاجه لنشر الغسيل .. أنت أحضرته لنشر الغسيل .
    تدسه وسط خزانة الملابس وكأن ما حدث صار بعيد جدا تكاد تنساه ذاكرتهما ، أو أنه لم يحدث أصلا كلماتها تعود به للواقع تسحبه من غيبوبته يرجع حاضره مربوط بأول أمس ملغيا لحظة الجحيم التي كان يعيشها .
    تقترب منه تلفه بدراعيها تدفن رأسها في صدره وتجهشو بالبكاء . دموع مريم كانت مثل دماء تقطر من قلبه ، يربت عليها بلطف ليخفف من رجفتها :
    _أحضني بقوة ، أرجوك
    مريم تريد أن تشعر بقوته من جديد ، وكيف لا وهو الذي يعطيها الامان ، قوتها كانت تستمدها دائما منه .لا تريد أن تشعر بضعفه أو تحسسه أنه ضعيف ، تتمنى لو يفتت ضلوعها بدراعيه :
    _ ولداك يعتبرانك بطلهما ، يتنافسان على التشبه بك يجب أن تبقى صورة البطل في عينيهما ، وأنا أتمنى أن يكونا مثلك في كل شيئ .
    _ حتى بعد ما حصل
    _ كل الرجال يشترون حبال لكن الطيبون والاقوياء أمثالك يعرفون انه للغسيل .
    _ انت امرأة ...
    تقاطعه مريم :
    _ أنا امرأة وفقط يا عبد الخالق أنا زوجتك وأريد أن أنجب منك طفلا آخر .
    _ أنت مجنونة
    تمتزج ابتسامتها مع دموعها وأخيرا يبتسم عبد الخالق يسحبها برفق عائدين لسريرهما .
  • خشان خشان
    مستشار أدبي
    • 09-06-2007
    • 618

    #2
    سلمت أستاذتي

    هذا حديث هو في جوهره عن أمة وإن كان في شكله عن أسرة.

    لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    أسأله تعالى أن يرحم هذه الأمة.
    [align=center]
    العروض الرقمي تواصل مع فكر الخليل وصدور عنه لما يليق به من آفاق
    http://sites.google.com/site/alarood/
    [/align]

    تعليق

    • ام تنهنان
      أديب وكاتب
      • 13-06-2015
      • 19

      #3
      أستاذي الكريم
      أشكرك كثيرا على تكرمك بالتعليق على هذه القصة ، أتمنى أستاذي من النخبة أمثالك أن لا يكلوا و لا يملوا من محاولة اعادة التفاؤل لشعوبنا فأنهم يستحقون أكثر من هذا اليأس المعشش في وجدانهم ، الموت ليس حلا ، واذا كان بمثل هذه الطريق فأنه يكون بلا معنى.
      شكرا مرة أخرى استاذ خشان خشان.

      تعليق

      • سحر جبر
        أديب وكاتب
        • 09-03-2009
        • 667

        #4
        "كل الرجال يشترون حبال لكن الطيبون والاقوياء أمثالك يعرفون انه للغسيل."
        تصيبنا الضغوط باليأس ولكن طاقة الأمل قابلة للاشتعال من جديد.. تعجبنى مريم شجاعتها وقلبها.
        دام ابداعك عزيزتى
        مع خالص ودى وتحياتى
        الثقافة هي ما يبقي بعد أن ننسي ما تعلمناه

        تعليق

        • رشيد شرشاف
          أديب وكاتب
          • 24-06-2015
          • 246

          #5
          الأستاذة المحترمة أم تنهنان
          قصة شيقة وأسلوب جميل
          إحباط البطل و يأسه جعله يفكر في الإنتحار
          الزوجة تذهب مذهبه
          هناك إستسلام وخضوع للهزيمة والإنكسار والتضحية إن لزم الأمر بالأولاد
          إنعطاف في آخر القصة وتراجع عن هذا الفعل الشنيع و إقدام البطلين على إنجاب طفل جديد
          ترى هل هذا هو الحل؟
          كلما ضاقت الأمور نفكر فيما يزيدها تعقيدا...
          تحياتي و تقديري سيدتي
          كن ابن من شئت واكتسب أدباً يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ فليس يغني الحسيب نسبته بلا لسانٍ له ولا أدب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي

          تعليق

          • ام تنهنان
            أديب وكاتب
            • 13-06-2015
            • 19

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة سحر جبر مشاهدة المشاركة
            "كل الرجال يشترون حبال لكن الطيبون والاقوياء أمثالك يعرفون انه للغسيل."
            تصيبنا الضغوط باليأس ولكن طاقة الأمل قابلة للاشتعال من جديد.. تعجبنى مريم شجاعتها وقلبها.
            دام ابداعك عزيزتى
            مع خالص ودى وتحياتى
            شكرا أستاذة سحر على تواضعك و التعليق على القصة ،مهما أشتدت المحن على الشخص أن يحافظ على روح
            الامل عنده ، فالليل دائما يكون فيه نجوم .
            و دمتي نجمة في سماء الادب ،شكرا مجددا.

            تعليق

            • ام تنهنان
              أديب وكاتب
              • 13-06-2015
              • 19

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة رشيد شرشاف مشاهدة المشاركة
              الأستاذة المحترمة أم تنهنان
              قصة شيقة وأسلوب جميل
              إحباط البطل و يأسه جعله يفكر في الإنتحار
              الزوجة تذهب مذهبه
              هناك إستسلام وخضوع للهزيمة والإنكسار والتضحية إن لزم الأمر بالأولاد
              إنعطاف في آخر القصة وتراجع عن هذا الفعل الشنيع و إقدام البطلين على إنجاب طفل جديد
              ترى هل هذا هو الحل؟
              كلما ضاقت الأمور نفكر فيما يزيدها تعقيدا...
              تحياتي و تقديري سيدتي
              شكرا أستاذ رشيد شرشاف على تعليقك ، في لحظة اليأس قد يتصرف الشخص بطريقة خاطئة و هذا ما حدث مع البطل لكن الزوجة رد فعلها عادي جدا ، تخيل نفسك على شاطيء البحر و ترى الشخص الذي يعني لك الكثير يغرق لن تفكر أبدا أن كنت تجيد السباحة أم لا ستقفز لتعيده ، و هذا ما فعلته البطلة ، مجرد قفزة في البحر.
              و انجاب طفل آخر رمز لتجدد الحياة و الامل أيضا ، و قد يكون حلا و ليس تعقيدا ، زيادة المسؤولية تجعلنا نعطي بطاقة أكبر.
              شكرا كثيرا أستاذ ، شرفني تعليقك.

              تعليق

              يعمل...
              X