الاديب الراحل يحي عمار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عقاب اسماعيل بحمد
    sunzoza21@gmail.com
    • 30-09-2007
    • 766

    الاديب الراحل يحي عمار



    بقلم د. شوقي أبو لطيف
    كلّما أطللت على وادي التيم من نافذة المترقّب، لَمَحْتَ في العشب ظلالاً تشي أن ها هنا مساكب للودّ زُرِعت، وأن مبيت التاريخ والذكرى هو في بعض الشجر، الذي يقصّ على النسائم بعض ما نسجه الزمن على الأصول والفروع، وأن الزارع الذي تنسكب على يديه بذور الوداد والترحاب والعطاء، والذي يبيت التاريخ بين جنبات ذكرياته ووجدانيّاته، هو الفتى التيمي الأغر يحي حسين عمّار، هو ذلك الطفل اليتيم ذو الملامح الوسيمة، المولود في ينطا منتصف العشرينيّات من القرن المنصرم، والذي تربّى على قيم فيها من السمو والرفعة والقِدم، ما لحرمون المقدّس من عراقة وشموخ.

    لقد اجتاز هذا الفتى بعصاميّته كل عوائق البؤس والنأي والحرمان، ليغدو ذات يوم مؤرّخا لوادي التيم بكلّيته، في كتاب قيّم من ثلاثة أجزاء تتضمّن معظم ما يدّخره الوادي من تراث وإثراء، بدءاً من موقعه الجغرافي وواقعه وتنظيمه الإداري، وآثار حرمون التاريخيّة، وما كان لثلوجه من امتداد تجاري في البحر المتوسّط نحو دمياط أيّام الفراعنة، أضف الى ذلك موجزاً لتاريخ دولٍ قامت على هذه الأرض، من خلال العودة الى تاريخ الإنسان القديم في سوريا، والحرب الفارسيّة اليونانيّة، وممالك ما بعد الإسكندر الكبير مثل مملكتيْ السلّوقيين والأنباط، وعمليّة انتقال القبائل العربيّة بعد انفجار سد مأرب، والعلاقة بين الإسلام ومتنصّرة العرب، ومجيء اللخميين الى لبنان، واتخاذهم من وادي التيم مركزاً لتجمعهم، مروراً بالقرامطة والحركات الباطنيّة، حيث معركة وادي القرن، في الجانب الشمالي الشرقي من وادي التيم، بين القرامطة والعباسيين، ثم احتضان الوادي لعقيدة التوحيد، المنطلقة من مصر إبّان حكم الفاطميين، وتداعيات هذا الإحتضان والصراعات المحليّة إثر هذه الدعوة، والمعارك التي دارت بين الشهابيين والصليبيين في الوادي، ومجيء المغول اليه، ومعركة عين جالوت، ومعركة سهل عيحا، والطفرة المغوليّة الثانية الى بلادنا، وانتهاءً بالعادات والعاديات، في وادي التيم، باعتباره موطناً للأولى ومستودعاً للثانية، حيث تتبيّن روح البحث الإثنولوجي في قراءة تراث وادي التيم، في مجالات الزراعة والأزياء واللغة والتقاليد والمفاهيم والقيم والأنصاب والرموز، ويُفْرِد المؤرّخ التيمي يحي عمّار فصلاً خاصّا لتاريخ بلدة "الكُنيسة" المندرسة، منتقلاً الى راشيا وحاصبيا في ظل الدولة العثمانيّة، وعلاقة الإمارة المعنيّة بتلك الدولة، وحروب فخرالدين المعني الثاني مع العثمانيين، الى إعطاء وادي التيم حكاما للبنان، ابتداءً ببشير الأوّل، ليختتم الجزء الثالث من كتابه: "تاريخ وادي التيم والأقاليم المجاورة"، بحملة محمّد علي باشا على سوريا ولبنان، وحرب اللجاة، ومعركة وادي بكّا الكبرى بين الدروز وابراهيم باشا، ودور شبلي باشا العريان، وكل من الشيخين علي جنبلاط وناصر الدين العماد، وما دفعه وادي التيم من أثمان الصراع بين البشيرين.

    لقد اتسع قلب الراحل الكبير لوادي التيم، أكثر مما اتسعت له أرجاء الوادي الذي أحب، وذلك بسبب غياب يحي عمّار القسري مرّتين: الأولى في هجرته الى كندا للإنضمام الى أفراد عائلته المغتربين، والثانية في وفاته خارج الوطن الأم، وهو الذي لطالما كان يشدّه الشوق والحنين الى تربة قريته ينطا، والى كل حبّة تراب من وادي التيم، وكل نُسَيْمة من نسائم لبنان.

    لم تتسع لـ يحي عمّار كل مساحة هذه الأرض التي أحبّها، وأحبّ تاريخها وأهلها وتراثها، فلطالما كان يردّد بحماسة وفخر ما كتبه العلاّمة فيليب حِتّي من أن تاريخ لبنان يبدو أطول ثلاثين مرّة من تاريخ الولايات المتّحدة الأميركيّة، وأن تاريخ وادي التيم الذي أعطاه فقيدنا الراحل قسطاً وافراً من عمره وجهده وعقله، هو جزء كبير وهام من تاريخ هذا الوطن الصغير، الغني بتراثه ورجاله. بيد أنّه وكلّما أطللت على وادي التيم من خاطرة شاعر توشّحت التلال ببيارق شجيّة واهتزّت الخوابي، لكأن أفراساً تجوب المدى فتعلو الأهازيج وتسكن الريح، أما صخور المكان فتنطق وأما جذوره فتعمق. وفيما تترنّم بالشعر يزفّ الغناء وينسج الجمال ويحكي البطولات، فإنّك لتغتني بالنشدان الى "الكُنيسة" والشيخ عبد القادر الريّان، والى ثورة سلطان باشا الأطرش وأدهم خنجر، والى حيفا من الجنوب، والى المشارف البهيّة من جبل الشيخ في حرب تشرين، والى البروق والبروج التي تلمع فوق الوهاد وهي تحمل صبر الزمان لكأنّها "الصافحات"، تلك التي أنشدها فقيد وادي التيم يحي حسين عمّار، مثلما أنشد "نجوى ولكل قصيدة حكاية"، هي حكايات عمره ينغمس فيها الحزن بالحنين، وتنمزج فيها الذكريات بالمرارات. إنّه شاعر جُرِحَ فؤاده فسال ألَمُهُ حروفاً مجمرة تنقل الدفء الى صقيع الأيّام، وتوقظ البصر من حلكة العتمة، وتُلقي على الروح رداءً فريداً، لذا نُسِجت الكلمة في شعره نسجاً وجدانيّاً، يحاكي بصدقٍ ما تضج به المشاعر الجوّانيّة لأبناء تلك الحقبة، من سكّان القرى الضائعة بين التراب والغيم عند سفوح حرمون، لتتجلّى صورة الحدث المُسْتَشْعَر في وجهيه: الخارجي المحسوس، والداخلي المُفَكَّر، مسرحاً ملحميّاً لواقع حي يتحرّك بنبضٍ درامي خاص.

    يحي حسين عمّار، أيّها الراحل الحبيب، كم ستفتقد الى شخصك المعطاء مجالس الفكر والأدب والرأي، تحدّت فتمتع الأسماع بالنفيس من ذكريات الجدود وقيمهم ومعتقداتهم، ومواقف البطولة والمكرمات والمروءات، تلك التي جادت بها ذاكرتك المُدهشة أثناء تسجيل توثيقي مصوّر في منزلك العامر في ينطا بمبادرة من الدكتور شوقي أنيس عمار، وعلى مقربة من الأماكن التي شهدت أحداث التاريخ الذي كتبت، وفي مقام الشيخ الفاضل محمد أبي هلال في بلدة كوكبا، والتي كنت قد جمعت بعضاً منها الى جانب الحقائق التاريخيّة والوقائع والمشهديّات السالفة، بجهد بحثي مميز في كتابك القيّم "تاريخ وادي التيم والأقاليم المجاورة"، وبأسلوب شيّق ولغة عربيّة رشيقة، تستقي فيهما الكثير الكثير من روح هذا التيم وروحيّة شيوخه وأوليائه الصالحين، ما يجعل هذا الكتاب مرجعاً للباحثين وأهل العلم، ومنهلاً للمتعطّشين من أبناء هذه البلاد المنسيّة، الى رؤية تراثنا التيمي موثّقاً في حلّة جليلة من حلل البحث العلمي الجاد، والهادف الى بعث الحياة والتجدّد لهذا التراث، وعلى هدي من مسالك العقل والحكمة.

    كم سنفتقد اليك، الى ذلك الوجه النبيل الجميل الذي أحبَّ لبنان وطناً للإنسان، وطناً للتلاقي الحضاري، وطناً للسلام والوئام، ومنطلقاً للإهتداء الى الأسرار الكونيّة والمعارف السنيّة، كم سنفتقد إليك قريباً حبيباً، وركناً عالياً، وسنداً غالياً، نأنس الى نصحه وتوجيهه، والى محبّته وعاطفته الصادقتين، اللتين كانتا تجريان من عذيب الينابيع فترويان القلوب، ثم تأخذان بنشر الطيّب من عطر الروابي التيميّة الوادعة، بالزهور البريّة والرياحين الشذيّة، فتنتشي الجوارح والأعماق.

    ولقد عرفناك أيها الفقيد الغالي أباً كريماً لأُسرة كبيرة كريمة من بنات وبنين، وأخاً مرشداً لأشقّاء واخوة وأقارب وأصدقاء، لطالما أحبّوك وافتخروا بك، وإبناً بارّاً لبلدة تيميّة تراثيّة يحمل اسمها في اللغتين: السريانيّة والآراميّة معنى "الحمامة البيضاء"، لكأنّها الراية الخافقة بالأمل، المثلجة للصدور، والتي تعلو من على هذه القمم، لتتبيّن جليّة، وللقاصي والداني، بأبنائها الطيبين ذوي المروءة والسماحة والإباء، يجسّد مكانتها ورفعتها المغترب منهم والمقيم، بكثير من الوفاء والدماثة والأصالة.

    يحي عمّار، كنت بارّاً بأهلك بني معروف، وبمجتمك وانتمائك العربي الأوسع، بر المعرفة والثقافة والبناء الإنساني. يحي عمّار كنت بارّاً بوطنك الحبيب، برّ الذوْد والتضحية وصدق الولاء في جيش لبنان، وفي ميادين الشرف والعزّة والكبر. يحي عمّار سنظلُّ نفتقد إليك ما حنّت الى الذكرى مهاتف الفكر ومواجع الفؤاد، فأنت المالئ التيمين، الجامع الجبلين، المُنْتَمِي والمُنْتَمَى إليك.


يعمل...
X