
(( نغمة عيد ))
في زحمة الموت تنطق طفولة تائهة عن حجر حنانها .. تتمزق أوتار الصمت باحثة عن مأوى
يذبل من خطرفة الوحدة فصلُ الربيع , تكتسي الحداد حِلّة ,,
سرمدية النظر , لاهية اللب , متمزقة الغواش , جنبذة مابين إقفرارٍ وزهو .. تناقضات عاثت بالحياة فسادا .. في ليلة عيد الفطر المبارك قررت أن استيقظ مبكرا لزيارة وادي السلام في (مقبرة النجف ) لِاعطي للعيد منطق أخر غير منطق الأحياء , انه منطق صلة الرحم بعد الموت , هكذا اعتدت أن ابدأ عيدي بزيارة قبر والدي ّ, فالموت الحقيقي هو موت الضمير لا موت الجسد,,
كان الليل يجاذبني الهدوء , التأمل , التَفَكُر , حتى اخذ النعاس بتلابيبي ,, وأفَقتُ على سنا فجر يخترق نافذتي فِيُقبل بالسطوع أفكاري ويُنَبه من الغفوة مقلٌ أُغمضت على شيء من الهم !!
نهضت ونهض كل شيء معي , أقلامي ,أوراقي,سَكنة الشعر في أوردتي فما زلت شاعراً اهزأ من الهموم بأبياتٍ من قصيد, الملم شعثْ اللحظات بقافية جامحة حد الاشتهاء ,
انه العيد يا هيثم أزح عنك الهموم بكوب قهوة ما عرفت للضجر محطة على إطراف فنجانها ..
تمتمت مع نفسي حتى صنعت الارتياح والتفائل بيوم جديد !!
بعد تهنئة عائلتي الصغيرة وصلاة العيد ,وجبة الإفطار الأولى بعد مرور شهر كامل من الصيام , اتجهت لسيارتي ...
_ هل وضعتن الماء والبخور والأس في السيارة ؟؟
_ نعم ابي كل شيء في الحقيبة ( قالت زهراء ابنتي الكبرى )
_ بابا بابا .. انتظر . نادت مسرعة تبارك ( الابنة الصغرى
_ نعم حبيبتي .
_ ابعث لجدتي بهذه الزهرة قمت باقتطافها باكرا فقد اشتقت لها ( قالت ببهجة عيد وأخذتها بدمعة حنين )
_حسنا بُنيّتي سأذهب ألان .
_إلى اللقاء والدي .
_إلى اللقاء.
قُدتُ السيارة وكانت الشوارع مكتظة بالمركبات والناس انه مصباح عيد فلا ريب في الأمر ..
بين توقف , انتظار , إشارات مرور , سيطرات , لحظات لعلها تجعلك تستاء في يوم كهذا رغما عنك , وبين صخب اللحظات
واذا بطرقاتِ متوالية على زجاج نافذة السيارة
انتبهت فقمت بفتح النافذة رأيت طفلا جذاب الوجه البسه الفقر حلة مؤلمة مهترء الملامح مقفر الهيئة .. آه قد صدق مولاي ( علي عليه السلام ) حين قال : لو كان الفقر رجلاً لقتلته .. انه يستحق شر قتلة !
_عماه أُمي مريضة .. قال وقد لونت أشعة الشمس الحارقة بشرته البيضاء بحمرة مؤلمة ..
اعتدتُ على سماع نفس الكلام من الجميع وكأنهم متفقون ولكن ماذا يفعل اؤلئك المشردون بلا مأوى ؟؟ هم النازحون بعد عزِ العيش ورغد الحياة . أعطيته ما تيسر ليتوجه إلى نافذة أُخرى لعلهم يكرمونه أو يَهيّنونه..
هنيهة من الوقت ..
ركَنتُ سيارتي بمرآب قريب على المقبرة , وترجلت بحقيبتي التي تحمل طعام الموتى .. طعام يتسرب خفية إلى النفوس بعبق أخروي الهيئة بعد أن كان في الحديقة دنيوي الشذى !
بين أفاق الموت يعلو الشحوب .. دويٌّ ألِفته القبور .. وما كادت تألفهُ مسامعي !
تقدمت والدنيا تولي خلفي مدبرة بين احتشاد الموتى وغبار المقبرة وقتامة الدهر .. ها أنا بين حضنين دافئين هل ياتُرى هما من يضمانني أم أنا ؟؟!
أزحت بيدي الغبار عن خانة اسم والدتي
اسمها يدق في قلبي وتحته تاريخ وفاتها
31 / 12 / 2000
قبلت الاسم بين دموع ما لَبُثت أن تَحرِق وجنتيّ الحنين
لتتبخر مخلفة أثرا من ترهلات الزمن .. وعلى يمينها والدي كذا فعلت برقعة الاسم كما والدتي تاريخٌ أخذني للحظة الرحيل
2001/ 5/3...
-هيثم .. قالت بصوت هزيل
_ نعم أماه ,,
كُنت لا أزال في مرحلة السادس الإعدادي هَمَمتُ بالخروجِ فاستوقفني صوتها اللَهِف ,,
*_بني لا تذهب أبقى إلى جانبي فهي اللحظات الأخيرة ,, ودمعتها انصبت على وجنتها لامست قلبي فأتقد بنارٍ وحزنٍ لم أود الإفصاح عنه ,, بصمت عدت أدراجي لِأرقد إلى جانبها واضع يدها على وجنتي حتى أخذتُ تقبيل يدها المشرفة على الشتاء ..
_بني أوصيك بوالدك فلن يطول مكوثه بعدي ..
ما أن رَفعت نظري لها حتى فارقت روحها الحياة .. مرفرفة إلى مثواها الأخير ..
_آمآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ,,
بين أفاق البخور وعطور اليآس وضعت _زهرة تبارك_ على قبر جدتها وتركت لأعواد البخور المصلوبة العبث بأفكاري المندثرة في الجانب الأخر للحياة,حرية الحديث!!
حدقت بما يحيط بي من يقظة ’ من قال انه عالمٌ للأموات ؟! بل انه الجانب الحقيقي للحياة !!
ابتعد مرهق القدم ,تَعلقُ ذرات الأتربة بخطواتي هل تريد المضي إلى عالم يظنه الأحياء حياة! أم انه كرم المقابر ؟!
وبين احتشاد الأفكار وغياب الوعي المتصل بالواقع وأذا بصوت يخترق مَسْمَعيّ الغفلة يشق هدوء الصمت..
_أمي , أمي , أمي , صوت قادم نحوي وفزع في وجهٍ تعقد معه البراءة صفقة أبدية ..
_ماذا بك بنيتي .. بدهشة واهتمام
_عماه أضعت أمي . وهي تبكي وتشهق يلتفها الخوف
_اهدئي عزيزتي سنجدها لا تخافي . بحيرة ..
_هل لي أن اعرف ما يدلنا ؟ أين أخر عهداً لكِ بوالدتك؟
_ عند قبر والدي .. واختنقت الدمعة لتخفيها بكفها الصغير
كانت في الثامنة من العمر سمراء البشرة جذابة الملامح اضطجع اليُتم على محياها.تهيم بالنظر إلى غير استقرار .
_حسنا هل تستطيعي أن تَدُليني على قبر والدك .
_اجل عماه .
قادتني و أنا أرى بزوغ بصيص أمل ,أمسكت يداها وآليت على نفسي أن لا اتركها حتى أجد والدتها .
نسير وتنطوي الحياة من تحت أقدام الغربة . يفيق في ذاكرتي ماضٍ لعيدٍ لن يعود , فأين اليوم من الأمس ؟؟
_انه هنا عماه
رفعت نظري وإذا بي أقف أمام قبر لشهيد علقت صورته مأسوفة الشباب واتخذ من العلم دليلاً لشجاعته;
_اذهب ياعم أنا سأبقى مع والدي .
تهجد الدمع في محراب التيه لعظيم ما سمعت ’أنها تكتفي بقبرٍ لوالدها كي تحتمي به !
سالت بين يديّ دماء طازجة للحرية وانين مر ..
بقيت انظر لطفلة المرماة على قبر والدها تبكيه ام تبكي يتمها ؟!
حتى اقتربت منها امرأة في ريعان الشباب لاهثة الخطوة مقفرة الملامح شاحبة الطلة,
_بنيتي
وعزف العيد دمعة ...
___________________
رشا الشمري
تعليق