ناي الجنة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • علي التاجر
    أديب وكاتب
    • 21-12-2008
    • 88

    ناي الجنة

    نايُ الجنة

    هذه الخشبة جاءت من هناك. وأخذ يشير إلى الأعلى.
    نظر لي بتجهمٍ كي أعرف أنه لا يقصد السقف، بعدما رآني أحدق فيه وأمعن نظري في الدنشل المتآكل الذي يظلل هذه الغرفة الصدئة. فقام من كرسيه وفتح الباب ثم رفع سبابته نحو السماء...سماء ديسمبر الغائمة.
    قبل ذلك، سألني ربحان وهو يخرج من معطفه ناياً خشبياً:
    - هل تعرف ما هذا؟
    أومأتُ رأسي بإيجابٍ فازردر ريقه كمن يرغب في البدء بسرد حكايةٍ طويلةٍ بعد أن أقعيت له في دكانهِ القديم. كان يلبس ثوباً زرقاء ثقيلة بإمكانها معاندة البرد ومعطفاً جلدياً أسود، ويلفُّ غترته كعمامةٍ على فوديهِ، ويضع بقربه المسجل الذي يدور فيه شريطٌ لموسيقى الناي أجزمُ أنه ذبل واهترأ من فرط دورانه.
    كنت متأكداً أن ربحان، الرجل ذو الثفناتِ المتعرجة والجلد المترهل والذؤابات البيضاء التي ترقطُ خديهِ وذقنه لا يجيد العزف على الناي الذي لا ينتمي أصلاً لهذه المنطقة من العالم. هذا المكان الذي ربما يعرف العود والربابة والدفوف والطبول المصنوعة من جلود الحيوانات، أما الناي، هذا الكائن الموسيقي الدخيل على هذه المنطقة، فإنني لا أعلم كيف تعلق به.
    يقول إنه أحبّ صوته حباً جماً عندما ذهب ذات مرةٍ للسوق فوجد أحد الهنود مقرفصاً وهو يطوقه بكلتا يديه ويرقص بأصابعه على فتحاتهِ مترنماً ويفترش قطعة قماشٍ باليةٍ ليسأل الناس حاجته. ذلك الصوت، حلق به لسنيِّ شبابه البكر وطراوتهِ. يومها، كان يتسلق النخيل بسرعةٍ فائقةٍ بكرّهِ ويجزّ أعذاق الرطب كي يهبها للبطون التي لا تدخلها سوى هذه الثمرة وماءٌ مالحٌ كانت تجود به الأرض التي أصبحت عاقراً الآن. ولذلك احتفظ بواحدٍ في معطفه...قرب قلبه.
    وبعد أن أوصى رجلاً من القرية يعشق الترحال أن يجلب له واحداً بأي ثمنٍ، غردَ كعصفورٍ وجنّح بيديه فرحاً حين أتاهُ نفس الرجل حاملاً إياه في علبةٍ خشبيةٍ، فبدا وكأنه قد حظي بأمنيةٍ كابد من أجلها السنين، فنقده غير آبهٍ عشرين ديناراً كاملةً، رغم تمنّع ذاك الرجل عن أخذ النقود.
    كان يقلبه ويتفحصه بحبٍ كمن يهدهد طفلاً. ينفخ فيه من هواء صدره المشحون بتبغ نارجيلته، ويضع رؤوس أصابعه واحداً بعد آخر كي يتنغم صوت الناي المتهدج، فيخرج أشبه بعواءٍ أو صرخاتٍ تائهةٍ، ويصرّ أن ينفخ فيه كيفما اتفق وهو يقلقلُ أصابعه الرجيفة.
    كنا قد اعتدنا أن نأتي لدكانه بعد الظهيرة. هذا الدكان الذي يبدو أنه بُنيَ ليكون ديوانيةً يجتمع فيها أهل الفريج بعد الغذاء. توجد فيه ثلاجةٌ للمشروبات الغازية، وأخرى للآيسكريم، ورفوفٌ فيها بعض الحلويات والمعلبات، وكرسيٌ خشبيٌ طويلٌ للجلوس يمتد على طول وعرض الدكان.

    * * * *
    ذات ظهيرةٍ، كتمتُ ضحكتي ساخراً من الصوت الذي يغالب فيه تقليد الشريط الذي يدور بلا كللٍ في المسجل. حدجني وهو يحمل نايه بين يديه. كان حاجباه الأبيضان يضفيان على عينيه الناعستين وقاراً دفعني لأن أرخي تقطيب خديّ وأبدو جاداً.
    أنزل نايه ووضعه جانباً ثم قال لي:
    - أنت لا تعلم ما هذا، ولذلك لا تشعر بما يمنحه هذا الناي للقلوب الندية...القلوب التي لم تتيبس مثل قلوب أهل القرية التي لا تختلف عن هذا...وقام يطرق الطاولة التي أمامه بقبضته وهو يزمّ شفتيه الباهتتين متبرماً. خشبٌ...خشب. إن جذوع النخيل في داليتنا ربما تكون أكثر إحساساً وتوهجاً منكم.
    هطل من الشريط لحنٌ رهيفٌ فتدحرجت تقاسيم الناي على إيقاع الطبلة الخلفية التي اشتدّ وقعها. أشار لي واضعاً سبابته على فمه:
    - اصه.... اسمع، اسمع أيها الأبله، ثم أشرع ذراعيه، ووقف مقابلاً الزقاق وباب دكانه وهو يصرخ بحماسةٍ أشفقت عليه منها: اسمعوا أيها المغفلون.
    ثم جلس ثانيةً وافترسني بعينيه الوجلتين:
    - ألا تسمع هذا الصوت...هذا النوح الخرافي؟.
    قلقل رأسه أسفاً وعاد ليدخل نايه في معطفه:
    - لن تتعلموا أبداً. قلوبكم أكثر تخشباً من الجذوع ولا طائل من ترطيبها بألحان الناي.
    رفع كفه وهو يشير لقلبي، فأمسكت بصدري بدهشة وأنا أنتظر ما سيقول:
    - ما الذي هناك؟ قلبٌ أم قطعةٌ جامدةٌ من الزنك؟ز أنت شابٌ يمتلك قلباً قوياً، رياناً وصلباً، زهرةٌ للتوّ نبتت على هذا الكوكب، كيف لك ألا تشعر بكل هذا التغريد الملائكي.
    عضّ على نواجذه فخرج صوته حاداً:
    - كم عمرك؟ عشرون، خمسةٌ وعشرون، وماذا بعد؟ يعني أنك منذ وقتٍ قصيرٍ هبطت لهذا العالم من موطن هذا الناي. يجب أن يصهرك هذا الصوتُ حتى تتحول روحك لحزمة ضوءٍ لتشعر بجسدك يغدو كنسمةً خفيفةً بإمكانه عبور جميع أبعاد هذا الكون. كيف لا وأنا الشائب يتكسر قلبي على ألحانه وأذوب معه كما يذوب على أصابع هذا العازف العظيم.
    هذا الناي غصنٌ مكسورٌ من الجنة. عندما هبط أبوانا آدم وحواء، قاما بأخذ ما استطاعا من أشجار وأوراق الجنة التي طردا منها، ولما نفخ فيه أحدهم وجده يضخ كل هذا الشجى الذي يذكي الحنين ويقدح شوق أولئك الذين لا زالوا يحنون لموطنهم الأول، مثلي.
    أنا لا أعلم فربما يكون ملاكاً تائهاً قد تعلق به ثم لم يعرف طريق العودة قبل أن يهبط أبوانا ونسكن هذه الأرض. ألا تشعر أننا لا ننتمي لهذا العالم الغبي. قتلـَنا البُعد عن موطننا فقتلنا كل شيء، ولا زلنا نقضي هذه الأيام في قتل بعضنا البعض. جنونٌ في جنون. ليتهم لم يجلبوني معهم وتركوني مع هذا الغصن المكسور في الفردوس.
    وبغتةً، بدأ المطر بالهطول فقام ربحان وفتح الباب فأفردت قامتي لأهرب من سجن كلماته التي رماني في زنازينها القاتمة.
    رأيته يمدّ يديه لمطر ديسمبر والريح تلسعنا ونحن نتلفع بغترنا:
    - هذا المطر من هناك أيضاً. كانت أصابعه تتبللُ فيفركها كي يداعب بقطراتها راحته المتشققة. نايٌ وماءٌ يهطل على هذه الأرض عله يغسل قذاراتنا.
    سريعاً رفعت كفي ولوحتً له مودعاً وأنا ألف غترتي ثم قفزتُ كي أتقي ماء الأوحال المتجمع قرب دكانه فسمعته يدعو وهو يعبر للداخل:
    - يا رب اجعل هذا المطر طوفاناً كطوفان نوح، أغرق هذه الأرض، إن ذرية قابيل لا زالت تتكاثر وتتناسل في أرضك، اقتلعنا مثل ما اقتلعت هؤلاء الأوغاد.
    رتج باب دكانه وأنا أحمل ثوبي وأتقافز رعباً وأحسب أن المطر لن يتوقف أبداً فيتسارع خفقان قلبي من الطوفان. خشيتُ ذلك عندما أرعدت السماء ولمحت موجةً متوحشةً تقلب قوارب البحارة من بعيد وترميها كحصاةٍ صغيرةٍ، فسحبتُ ثوبي وعقدتها حول بطني وقمتُ أمشي بمحاذاة جدران البيوت وألعن ربحان الذي قضى على بهجة هذا اليوم الممطر.

    مجلة البحرين الثقافية - العدد 81
  • بسباس عبدالرزاق
    أديب وكاتب
    • 01-09-2012
    • 2008

    #2
    ما يمكنني أن أقول في حق نصك

    أقول فقط كيف استطعت أن أغفل عنه
    أعتذر لنفسي و لنصك عن تقصيري


    رائع و أشد على يديك

    متعة، فكر، فلسفة، ذكاء و حذاقة، و ثقافة، و موسيقى طرقت سمعي دونما صوت

    رائع و أكثر

    محبتي أيها الفنان
    السؤال مصباح عنيد
    لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

    تعليق

    • علي التاجر
      أديب وكاتب
      • 21-12-2008
      • 88

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة بسباس عبدالرزاق مشاهدة المشاركة
      ما يمكنني أن أقول في حق نصك

      أقول فقط كيف استطعت أن أغفل عنه
      أعتذر لنفسي و لنصك عن تقصيري


      رائع و أشد على يديك

      متعة، فكر، فلسفة، ذكاء و حذاقة، و ثقافة، و موسيقى طرقت سمعي دونما صوت

      رائع و أكثر

      محبتي أيها الفنان
      الرائع بسباس ،،

      لا تعتذر يا أخي العزيز، فأنا أشكرك على قراءتك لنصي الذي أضفى عليه مرورك الرائع رونقاً جميلا من كلماتك ،

      لا أشك أن قراءتك هي قراءةٌ عميقة وتعليقاتك تنبع من ذائقة الروائي والقاص المبدع ،،

      أنا بانتظار روايتك التي أرجو أن تكون قريبةً ،،

      دمت بكل الخير ،،

      تعليق

      يعمل...
      X