على هذه الأرض

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الله راتب نفاخ
    أديب
    • 23-07-2010
    • 1173

    على هذه الأرض

    على هذه الأرض (قصة قصيرة)






    اقتربت منه ابنته، وضعت كفها على رقبته العارية، فتحسس بها برودة أكثر مما وجد في الليلة الصيفية وهو واقف في الشرفة منذ نصف ساعة. ألصقت كتفها بكتفه، نظرت في عينيه الشاردتين ، المعلقتين بشيء غير ظاهر: - فيم أنت ساهم؟ أفي السفر أيضاً؟ زفر زفرة طويلة ، لكنه لم يغير مرمى ناظريه ، ولا تعابير وجهه المتصلّبة
    - أما زلت مصمّماً؟
    سألته وفي لهجتها خضوع ورجاء
    بتذمّر ردّ: - أتعجبكِ حالنا هذه ؟ ولا ندري بم ستقذف إلينا الأيام القادمة كذلك
    - تفاءل بالخير
    بطرف عينه نظر إليها مسخّفاً ومستنكراً فأسكتها، وجدتْ الاستمرار في الحوار ضرباً من العبث فتركتْه ودخلت الحجرة.
    الفكرة تراوده منذ زمن ، عمله الأصلي الذي كان يدرّ عليه الآلاف المؤلّفة كل شهر من قطاع السياحة توقف كله، حتى مطعمه الذي كان في إحدى أجمل المناطق انتهبته أيدٍ عدة، جرّب أن يضرب في وديان الحظ غير مرة فنجح قليلاً وخسر كثيراً. والآن، يرى الأفق قد أطبق على صدره فكاد يخنقه.
    - ها قد سبقني سمير، ليس يفوقني تعليماً ولا أقدر على حرفة، هناك من هيّأ له أوضاعه هناك، بقي أن يصل، يمكنه أن يتدبر السكن والمعيشة مؤقتاً حتى ينال الإقامة، وأنا كذلك من بعده.
    وإن لم نحز الإقامة ، فلنبق لاجئين ينفقون علينا بدل أن نبقى هنا ونحن لا ندري على أي جانب نميل.
    السكون المخيم على حارته الراقية التي كانت من قبل تعجّ بالخلق في مثل هذا الوقت من العام شمل الحديقة المقابلة، أشجارها تبدو كئيبة، تتمايل أوراقها على حزن.
    - الأسى وصل الجمادات ابتسم بسخرية مملوءة بمرارة صدره الخانقة.
    شعر بعدم الجدوى من وقفته وكل ما حوله يوحي إليه بسأم فوق سأمه، مضى إلى الداخل بخطوات متثاقلة، ارتمى على الأريكة وراح يقلّب في هاتفه المحمول باحثاً عن رسائله الأخيرة المتبادلة مع سمير.
    - الآن هو في الطريق البحري إذن، ينبغي أن يكلمني غداً أو بعد غد إثر وصوله الشاطئ، سيتجه من دولة إلى دولة عابراً، ما يزال طريق الرحلة طويلاً ، بيد أن هذه أصعب مراحله. أسند رأسه إلى الأريكة، استرخى قليلاً، راجياً وحالماً بالراحة التي ستأتيه من قبل لحاقه بركب صديقه. أنبهه رنين جهاز جواله، تحسسه تحت كفه .
    كانت الغفوة قد استلبته مما كان فيه، والآن أيقظه الرنين.
    لمح على شاشة الجهاز الساعة:
    - إنها الثانية عشرة والنصف، لمَ تتصل بي الآن؟ كانت الشاشة تعرض رقم أم سمير
    -آلو - كريم، يا بني، يا حبيبي، بالله عليك، ساعدني
    - خيراً خيراً يا خالة؟
    - لقد اتصل بي سمير الآن ، انقطعت به السبل وسط البحر هو ومن معه في قاربهم المطاطي، إنهم يغرقون
    - يغرقون؟!! ماذا تقولين ؟؟
    - أرجوك يا بني، حاول مساعدته.
    أغلق الهاتف وجِلاً، من أين له بالمساعدة وصديقه في عرض البحر بين دولتين لا يعرف فيهما أحداً يعينه.
    ملأه الشتات، الخوف، الاضطراب، راح يتصل بمعارفه المسؤولين واحداً واحداً ، منهم من يعده خيراً، ومنهم من يصدّه.
    ارتمى على الأريكة، وضع يده على رأسه، رغماً عنه ذرفت دمعتان من عينيه. قام في الصباح متثاقلاً يجرر أذيال ألمه، أبلغه الجيران نبأ غرق سمير بعدما فشلت محاولات الإنقاذ المتأخرة ، وجدوا جثته طافية على الماء ويده ما تزال تقبض على جواز سفره.
    فتح الباب الزجاجي الفاصل بين غرفته والشرفة متهالكاً، لفحه هواء الصباح العليل فأجبره على استلذاذه، نظر في الحديقة المقابلة ، وجد أوراق أشجارها تتمايل برهافة، لاحت له تحمل جمالاً غير معتاد. ابتسم معزّياً نفسَه، معلّقاً بصره بالأشجار التي بدت له جميلة كما لم تكن، ردد بصوت يسمعه القريب: - رغم كل شيء يبقى على هذه الأرض ، يبقى .... ما يستحق الحياة.
    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الله راتب نفاخ; الساعة 21-08-2015, 16:46.
    الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ

    [align=left]إمام الأدب العربي
    مصطفى صادق الرافعي[/align]
  • محمود عودة
    أديب وكاتب
    • 04-12-2013
    • 398

    #2
    قصة معبرة لما فيها من حكمة يا ليت كل من يفكر بالهجرة من وطنه أن يقرأها لعله يعود إلى رشده ليعلم أن وطنه وإن جار عليه فهو أحن من غيره وأما الخوف من الموت فمن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
    تحياتي لابداعك

    تعليق

    • عبد الله راتب نفاخ
      أديب
      • 23-07-2010
      • 1173

      #3
      سلمكم الله أخي الكريم
      شرفتموني حقاً
      الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ

      [align=left]إمام الأدب العربي
      مصطفى صادق الرافعي[/align]

      تعليق

      • بسباس عبدالرزاق
        أديب وكاتب
        • 01-09-2012
        • 2008

        #4
        القصة كرست حب الوطن
        و ذلك بغرق -وهم-
        و لكنني أعرف عددا هائلا و آخرين ممن سمعت عنهم، و قد مروا نحو الجهة، عن طريق غير البحر
        و كلهم تقريبا استطاع ايجاد حل ، بل بعضهم بعد وصوله أقسم على عدم العودة

        نعم يظل في الوطن شئ يستحق الحياة و الصمود و التضحية أيضا
        نص جميل
        أعجبني كثيرا

        همسة: نقطة مهمة في النص و هي تتعلق بالحبكة، كيف استطاعت الأم معرفة أن ولدها يغرق في عرض و هناك تنعدم الإتصالات تماما و التغطية، نقطة تحتاج حلا ... حسب معلوماتي

        تقديري الكبير أستاذي
        السؤال مصباح عنيد
        لذلك أقرأ ليلا .. حتى أرى الأزقة بكلابها وقمامتها

        تعليق

        يعمل...
        X