نزف النواعير /هدير الجميلي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • هدير الجميلي
    صرخة العراق
    • 22-05-2009
    • 1276

    نزف النواعير /هدير الجميلي

    نزف النواعير

    رغم صغر سنها كانت تطلعاتها وآمالها كبيرة, وقلبها كان بحب كل الإنسانية ينبض, بدا ذلك جلياً من لهفتها لمساعدة أخيها الأصغر الذي يعاني من الصمم وأختها الصغرى التي ولدت ضريرة, من خلالهما تعلمت أصول التعامل مع الإعاقات, عرفت كيف تستخرج الجواهر من أعماقهم, وأن صبرهم وجلدهم على البلاء يؤهلهم ليكونوا من العظماء, بل هم أعظم البشرية بقلوبهم الرحيمة ومشاعرهم الرقيقة وصفاء أفكارهم ونقاء سريرتهم.
    أحلامها كانت أكبر منها بكثير, هكذا كان يفكر مدير المسرح وهي تجادله محاولة الحصول على يوم فيه, كي تعرض مهارات المعاقين الذين دربتهم على شتى الفنون والحركات, لم يترك المرح محياها, كان الفرح يدحرج التفاؤل في كلماتها, الكل تعجب من أفعالها, ورفضوا إعطاءها الفرصة, كونها أصغر سناً وتتكلم بأكبر من عقولهم, لكن مدير المسرح لم يستطع الصمود أمام جمالها وإلحاحها...
    لم يثنها الفقر وصعوبة الحياة الريفية في القرية المستلقية على ضفاف الفرات عن أفكارها, جمال الطبيعة كان ملهمهاً, تختلي بها, تراقبها وتدون ما تراه, جدائلها تنثر البهجة في كل مكان, تنظر إلى النواعير التي تعتصر ذكريات الأرض وتنزف حزناً على كوارث البشر, لكن هذا لم يحل بينها وبين إغراق الجميع بالسرور, كثيراً ما تسابقت مع أمواج النهر الهائج أثناء ذهابها إلى المدرسة, تراقب سحر شمس الصباح على صفحته البراقة, وفي عودتها تنشغل بالفراشات, تلعب معها في خمائل الطبيعة الخلابة, ما زالت تتذكر توبيخ أمها لها على تأخرها في العودة من المدرسة, لكن حلمها بأن تبتكر شيئاً مفيداً للبشرية لم يغادر خيالها.
    وقفت على خشبة المسرح تتجهز في الكواليس وتهيء الفرقة, لا يجب أن تفشل, لكنها لا تستطيع السيطرة على توترها, مرتبكة تتراكض هنا وهناك حتى كادت أن تقع حين تعثرت بالمدير لولا أن أمسكها, نظر في عينيها وهو يسحب من جسدها اضطرابه: اهدئي, سينجح العرض, فقط اخرجي وقدمي البرنامج, ودعي الباقي لي.
    الاهالي وذوو المعاقين وخاصة الذين حضروا منهم على مضض, لم يتوقعوا ما رأوه, لأنهم لم يكونوا يعرفون مقدار الجهد الذي بذلته شيماء _التي لم تتعدى الرابعة عشرة_في تدريب أبنائهم, تكامل المعاقون الذين أرادوا أن يثبتوا أنهم ليسوا أقل من غيرهم الأصحاء, قاموا بحركات أحرجت المتشائمين, ثم جعلت الدموع تفر من عيون الجميع, حين قرأ أحدهم ما لا يراه من شعر حماسي لكبار الشعراء بلسان ناصع مصقول ترامت الإعجابات ببذخ, وحين قرأ مقعد شعراً وطنياً حرك الكوامن والأيدي بينما بينما يداه وقدماه لا تستطيع الحركة وقفوا احتراماً له, غنى وعزف أخوها فأطرب وأشجى وهو لا يسمع عزفه, لكنه رأى التصفيق المجلجل..
    حين انهالت عليها كلمات المديح والإعجاب علمت أنها في الطريق الصحيح, وأن التصميم والإخلاص أساس أي عمل مشرف, لم تكن الدنيا تسعها, كان قلبها يرفرف كعصفور تعلم الطيران للتو, نسيت كل تعب الشهور في تعليمهم وتدريبهم على كل شيء, كل ما تعرف, هي تعترف أنها تعلمت منهم أكثر مما علمتهم, هكذا قالت في كلمتها الأولى أثناء تقديم البرنامج, وفي الختام.
    أطربت نجاحاتها المتكررة الكثيرين وألهمتهم فدعموها مادياً ومعنوياً فانتشر صيتها, وبقدر هذا الصيت الجميل كانت هناك شائعات تنتشر وتتدحرج ككرات الثلج, لم تستطع معرفة مصدرها ولا سببها حتى بعد تلقيها رصاصة وهي تقدم أحد برامجها الناجحة .
    بحثت عنك في عيون الناس
    في أوجه القمر
    في موج البحر
    فوجدتك بين خافقي أقرب من كل الذين أبحث فيهم
    ياموطني الحبيب...


    هدير الجميلي(هدير نزف النواعير)
يعمل...
X