قراءة فى قصة (أيا..جدى..)للدكتور/مصطفى عطية جمعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبدالرؤوف النويهى
    أديب وكاتب
    • 12-10-2007
    • 2218

    قراءة فى قصة (أيا..جدى..)للدكتور/مصطفى عطية جمعة

    أيا . . جدي . .

    [align=justify]تمددتَ على " الكنبة " التي تتوسط ساحة الدار . لك أيـام تشكـو من ضيـق أنفاسك ، و ثقل صدرك . تتلحف بملاءة أرختها خالتي عليك . أمكث بجوارك ، أترقب انفلاج عينيك المكسوتين بالبياض في حدقتيهما ، عندما تكشفها أجفانك عند الآذان ، ثم يرتخي الوجه ، و تستكن التجاعيد المنتفخة من طول الرقاد . تتمتم :
    - صدري سخن . . . يفور . .
    تزفر ، يلسعني زفيرك . الكل مشغول عنك ، تأتي عيونهم ، تتأملك في غفوتك . تتعلق أناملي المدببة بكفك الأسود ، براحته الخشنة ، و أظفارك المطمورة في أصابعك . كنت تضحك على بكائي عندما يسقط " الشاكوش " على حواف يدي ، و أنا أقلّدك عندما تدق المسامير و تصنع شُبّاكًا أو بابًا . تطبطب على ظهري ، و ذراعك يتوغل في جيب " السَيـّالـة " في جلبابك ، لتخرج " الكراملة " و تقول : " أنت نجار نونو . . . و أنا نجار عجوز " . وتردف : " زبائني كلهم ماتوا أو مثلي ، ناس توّصل ناس " .
    و تقبع على أريكتك أمام دكانك الذي يشغل طرف دارنا ، تنظر في اللا شئ .
    يتحرك جسدك النحيل ، و عظامك تبرز من أكتافك ، يدك متخشبة بيدي ، تهمس وتكرر :
    - حرّك " الكنبة " . . . و تشير ناحية " الدهليز " .
    ألُفُّّها ، و أكتم أنّاتي ، و تلتف معي ، قد صرت خفيفًا ، تهمس بأن أكفّ . ثم استكانتك ثانية ، و استفهام يتشكل بنفسي . يتحرك لسانك بالتمتمة . . . و أفغر فمي كلمات السماء تتغلغلني و بـرودة تسري في مسامي من راحـة كـفـك . أهذا هو الموت؟، الخوف منه، تتصلب أمامي ، أبكي بقوة ، خالتى تسلّك أصابعي منك تسقط طاقيتك عن صلعتك ، و شيبتك ، تطبق خالتي شفتيك القائمتين ، و تشد إصبع قدمك الكبير . . ؟ ثم الملاءة على وجهك . لم لا تصرخين يا خالتي ؟ دموع فقط تبلل ثوبك و أنت تستندين برأسك إلى ركبتيك في انزوائك بجانب السرير النحاسي العالي . صرخات النسوة اللائى ملأن الدهليز ، تائه أنا في أثوابهن السوداء و أيديهن ترقع خدودهن اللاتى تحمرن . . . . . و خالتي لا زالت في قرفصتها . . . ؟
    * * *
    قبرك من قوالب الطين ، سوَّيته بيدك ، و كنت معك ، و ها هي عظامك الملفوفة تتمدد في الحفرة ثم التراب . . . الأرجل عائدة . هل ستبقى هنا و حدك ؟
    * * *
    الكنبة في اعوجاحها نحو القبلة ، و جلبابه مطـوي بطرفهـا ، السكـون ، خالتي . . في تكومها ، و “ الكراملّة “ المتناثرة على الأرض الأسمنتية ، أربتُ على كتفها ، و أشير بالتساؤل إلى الكنبة ، تحتويني أكف خالتي السمراء ، فأتجمع في حجرها ، تهز أصابعها مشيرة بين الكنبة حيث كان جثمان جدي وإلى قبلة الجامع .







    [/align]
  • عبدالرؤوف النويهى
    أديب وكاتب
    • 12-10-2007
    • 2218

    #2
    عند الرحيل ....أحبك أكثر
    ***************


    [align=justify]أيا ....تاريخى ..
    أيا ....عمرى..
    أيا..روحى التى خرجت منى.
    فى الرحيل ..أحبك ..جدى.. أكثر وأكثر وأكثر.
    الموت/الرحيل/القبر الطينى /النهاية المحتومة.

    (1)
    بدموع حارقة وفجيعة تسحق الروح ،يعيش الطفل لحظة الموت وهو الذى يعدو نحو الحياة.
    السارد ينبش فى ذاكرته وتطفو لحظة الموت صاعقة ،لحظة طفولة عانت الموت وشاهدت خروج الروح إلى بارئها.
    لحظة محفورة فى الذاكرة لاتشيخ ولاتهرم .حية،متوهجة
    قبضة الموت،أظافر الموت ،أنياب الموت،زئير الموت،هزيم الموت ،عواء الموت،صراخ الموت،فزع الموت ،هدير الموت،قسوة الموت،هلع الموت،شجن الموت.
    لماذا لاتذهب أيها الموت بعيدا بعيداً؟؟
    عشت هذه اللحظات كثيراً ،تعيها الذاكرة ولاتنساها.مهما تطاول الزمن ومضى العمر.

    (2)
    الإنسان هو المخلوق الوحيد من مخلوقات الله الذى يعرف أنه سيموت،إنه الحزن الأبدى والشقاء الإنسانى .
    عبر ثلاثة مشاهد تؤرخ مسيرة الموت والحياة ،يأخذنا القاص إلى

    " المشهد الأول"
    إنه أطول مشهد فى القصة ،إنه يقص عن جدٍ مريض بالقلب ويعانى من ذبحات صدرية ،هذا الفوران ،هذه النار الحارقة بالصدر التى تشوى القلب وتميته بقوتها وقبضتها الفولاذية .
    (أ)
    الجد يعمل نجاراً ،يُشكل من الكتل الخشبية أشكالاً جميلة وأثاثاً رائعاً ،يعيد لها الحياه مرة أخرى ،أليس سنة الوجود التغير والتبديل؟
    إنه دفقة الحنان وفيض الحب ،يحمل فى جيبه "الكراملة" ،هذا النوع من الحلوى المشهورة،إنها الطعم الحلو والمذاق الأحلى ،ثتناثر بعد رحيله فتملأ أرض الغرفة ،كان حلواً ،وخلّف بعد رحيله الحلوى.
    مات كل أصحابه وزبائنه وهاهى النهاية تطرق بابه.. لكن معاناة الموت قاسية ومريعة ومحطمة .
    (ب)
    طفلُ يصاحب جده، ليل نهار ،ربما كان يتيم الأب والأم،فكان الجد أباً وجداً ،يتعلق به الطفل ويحاول أن يُقلده فيما يصنع فكان نجاراً نونو ،لايزال أخضر العود غض الإهاب.يسعى حثيثاً لإدراك الحياةومبهمات الوجود وغوامض الأشياء. يستمد خبراته وتجاربه من الجد/ الأب /التاريخ/ التراث.
    طفل واعٍ ومدرك ولماح وذكى، شعلة متقدة من الوعى والإدراك ،عينان بصيرتان بما يعتلج بالصدر وتشى به الوجوه.
    يمتلك القدرة الفائقة على الملاحظة والمشاهدة والإمساك بتفاصيل دقيقة .
    تعتريه الفجيعة ،فها هو سنده وتاريخه ومعلمه وصاحبه وصديقه يتبخر أمام عينيه ويمضى .
    (ج)
    خالة الطفل وهى الأم الرؤوم لابن أختها الراحلة(حسب زعمى) ،تتصف بالقوة والسيطرة على مشاعرها ،يموت أبوها أمام عينيها ،تُغمض عينيه إلى الأبد وهما اللتان رأت من خلالهما الطيبة والكرامة والحنان والأبوة والسعادة .
    ها هما ينطفئان إلى الأبد ،يذهب نورهما ولايتبقى لها من أبيها سوى جسدٍ تبخرت منه الحياة ،عصفت به قبضة الموت العاصرة الساحقة.

    "المشهد الثانى "

    القبر الطينى الذى أعده الجد ،تمهيداً لحلول ليل النهاية السرمدى ،وها هو الجد يوارى الثراب ويكتنفه الصمت الأبدى ،وها هم المشيعون يعودون أدراجهم إلى مناحى حياتهم .

    .
    "المشهد الثالث"

    حجرة الجد التى خلت من حياة الجد وحل فيها صمته الأبدى ، الخالة الصامتة وابن أختها (القاص) المتساءل دوماً ،تموت الكلمات بأعماقها ،ترد على تساؤلات ابن أختها بالإشارة،تضم فى حجرها ابن أختها لعله يعيد إليها دفءالحياة .


    (3)

    كنت متهيّباً فى الكتابة عن هذه القصة التى لاحقتنى طويلاً فى صحوى ومنامى .
    كنت أهرب منها وإليها ،أليس هو الموت الذى لامفر منه!!

    خيّم الحزن الشفيف والفجيعة على أجواء القصة ، كانت مارشاً جنائزياً ،ذكرنى بالموسيقى النابغة موتسارت،هذا الطفل المعجزة ألذى ألّف الموسيقى وهو طفل غرير ، كسارد قصتنا .
    ضمير المتكلم للقاص أعطى للقصة عمقاً وسموقاً لقدسية الموت ورهبته ، بل كان أسلوب الإلتفات شائعاً بين ضمير المتكلم وضمير الغائب،بل كانت لغة الإشارة من الخالة هى أقوى وضوحاً وأكثر تماهياً مع لحظة الحزن الصاعقة ،فكان الصمت ،فكأن صمت الجدإلى الأبد ،قد شمل الخالةالملتاعة بظلاله الكئيبة ،فمات الكلام مع موت الجد.

    المفردات اللغوية ،من أدق ما يمكن تسطيره، فبلاغة السرد اللغوى عند القاص تُشكل منهجاً فى رسم الصورة القاتمة والكئيبة والحزينة والمتساءلة والشخصيات التى تنهزم أمام جبروت الموت.
    خوف ،موت ،برودة،ضيق ،سواد...............

    ""أهذا هو الموت؟، الخوف منه، تتصلب أمامي ، أبكي بقوة""

    القاص وصّافاً لما رآه وشاهده ،استطاع أن يميط الغموض عن أقسى لحظات يمر بها الجنس البشرى على الإطلاق.
    استطاع بلغة متماسكة قوية مُعبرة، أن يحيك حدثاًخطيراً ويمسك بتفاصيل دقيقة ،لايدركها ولايتمكن منها الكثيرون،حياةً وموتاً ،وألماً ومرضاً،وصمتاً ودهشةً،وكلاماً وصمتاً.



    (4)
    أيا ...جدى....

    حرف نداء للبعيد ..
    أين أنت أيها الجد الحنون ؟
    كيف العيش بعد رحليك ،بعد فقدك؟؟

    أيا ..جدى ...
    لقد رحل الجد وفقده القاص وحُرِم منه إلى الأبد ،كان فقداً جسيماً فوق طاقته وقدرة تحمله .
    لم يكن حزناً (آهٍ ..ياجدى)،فلم يكن القاص قد أدرك بعد ماهية الحزن.

    الفقد والغياب والصمت والرحيل ..موسيقى جنائزية سيطرت على وعى القاص وجذبته إلى أعماقها السحيقةودروبها الشاسعة .

    كان القص موقفاً غاية التوفيق فى رسم هذا اللحظة القاسية المدمرة وتناغم الموسيقى الحزينة للكلمات ،بل كانت الأصابع سمراء ،ولحظة الفقد التى هى أقوى من الحزن.. فقد ينتهى الحزن ،لكن يظل الفقد مستمراً .[/align]

    تعليق

    يعمل...
    X