حالتان
1
قالت لك جدّتك في ذلك الصباح الشتوي البارد من سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة وألف وهي تدسّ في جيبك بيضة مسلوقة :"اعلم يا ولدي أنّ في لذعة برد أجرا يجازيك به ربّ العالمين وفي كلّ خطوة إلى المدرسة رضى من الرّحمان وفي كلّ تصبّر عن الجوع وعد لا يخيب بشبع في مستقبل الدّهر"وكنت تسير بلا ميدعة ولا معطف يقيك البرد وكنت غاية في السعادة تخرج يدك من جيبك وتعرضها للريح القارسة تدعوها لتأخذ منك اليوم وتدّخره لغدك الذي ترجوه أفضل من يومك. وكنت تقول: كلّ ما اشتدت قسوة البرد كلما كان الأجر مجزيا وكان النّجاح حليفي .ويستبدّ بك الجوع فتتوجه في سرّك إلى ربّ العالمين مناجيا :ها أنت تراني أصبر على الأكل والشرب فلا تخيّب ظني في الامتحان فهو على الأبواب ومسائل الحساب تبدو عويصة .وقد يحدث أن تشتري قطعة من "البشكوتو" بثمن البيضة المسلوقة التي تبيعا لعمك عمر صاحب المتجر المجاور فتبدأ مع تلك القطعة لعبة جميلة مليئة بالرهانات :لن أكل أكثر من ثلثها وأنا في الطريق إلى المنزل ثمّ يبدو لك في الطريق أن الثلث كثير فتقول سأمسك عن الأكل مستبقيا ما فضل إلى رحلة العودة إلى المدرسة في النوبة المسائية .وقد تقول سأتصدّق بها ليعوضني بها الله تسديدا وتوفيقا يوم يهان التلاميذ وتخفق قلوبهم وتجف حلوقهم من رعب الامتحان .
كنت أفعل ذلك كله وهدي الجدّة يتردّد في مسمعي وفي قلبي وفي خاطري .
2
في تلك الأصبحة الشتوية الباردة كنت أختار أن أسلك المعبّد فجدّتي تخاف عليّ من المسالك الفلاحية الملتوية رغم اختصارها للمسافة ولم تكن الحوادث المرورية ترعب الناس في قريتي فلا تمرّ سيارة قبل نصف ساعة من مرور سابقتها .وحينما وصلت إلى دار "الحبيب " فوجئت بجمع غفير من النّسوة يبكين ويندبن ويقطّعن الشعور ويلقين بالتراب على رؤوسهنّ . وقفت أنظر إلى هذا المشهد المرعب .لا أدري من قال يومها "إنّ الحبيب قد مات " ولم أكن لأكترث للخبر فالحبيب هذا لا أذكر أني رأيته مرّة في حياتي .ثمّ ما علاقتي بالحبيب الميت وهو قد سلك طريقا إلى الآخرة وأنا أسلك طريق الدّنيا والصعيدان متباينان حدّ التناقض الصارخ .هممت بالذهاب ولكني تمهلت قليلا فقد شدّني منظر امرأة تدعى "ريحانة " وقد توسطت حلقة من النّساء الملتاعات وجعلت تنوح لهنّ فيذبن لنواحها كمدا ويقطّعن شعورهن .كان نواحا شجيّا أخاله أسقط سلّة كتبي من يدي وأعتقد أنّ وقت الدّخول إلى الأقسام قد فاتني يومها دون أن أتفطّن إلى ذلك .كانت ريحانة تتوسط النّسوة وترفع صوتها الشجيّ من حنجرتها المطربة فتعدّد خصال الميت وتذكر فضائله وتشيد ببطولاته في ردّ العدوان وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف وقد تبين لي بعدما كبرتُ أنها لم تكن صادقة في كثير مما كانت تدعيه له من أمجاد وبطولات وقيم .كانت تلقي الصوت ثم تدور واقفة وتولي وجهها لامرأة أخرى فتشكو لها لوعتها وتجيّش عواطفها فتنطقها بالآه وقد تدفع بها إلى السقوط أرضا لتضرب التراب بعنف وتثيره وتغمر به رأسها وأدباشها .ثم إذا هي أنهت الدّورة جلست وجلست النسوة حولها وجعلن يمددن إليها الأيدي يطلبن ما يطفين به حرقتهنّ وكانت تدور بوجهها وهيأتها إليهن كما تدور عقارب الساعة فتوفي كلّ امرأة حقها وتعطيها ما تطلب فتعينها بالقول الشجيّ على لطم الصّدر وتقطيع الشعر وإنشاب الأظافر في اللحم الحيّ من الخدود ...يا له من مشهد مهيب ...لما كبرت علمتُ أنّ أكثر بكاء المرأة في المآتم إنما هو بكاء على نفسها وليس على الميت وقالت لي جدّتي بعد أن حدّثتها بالأمر :"وليدي كثير نبيح الكلب على روحه"
ريحانة ماتت منذ ما يقارب العقد وساءني ألّا امرأة ناحت عليها .ألم يكن حريا بريحانة –رحمها الله- أن تدعو في حياتها من ينوح عليها ؟
توفيق بن حنيش 19أكتوبر 2015
1
قالت لك جدّتك في ذلك الصباح الشتوي البارد من سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة وألف وهي تدسّ في جيبك بيضة مسلوقة :"اعلم يا ولدي أنّ في لذعة برد أجرا يجازيك به ربّ العالمين وفي كلّ خطوة إلى المدرسة رضى من الرّحمان وفي كلّ تصبّر عن الجوع وعد لا يخيب بشبع في مستقبل الدّهر"وكنت تسير بلا ميدعة ولا معطف يقيك البرد وكنت غاية في السعادة تخرج يدك من جيبك وتعرضها للريح القارسة تدعوها لتأخذ منك اليوم وتدّخره لغدك الذي ترجوه أفضل من يومك. وكنت تقول: كلّ ما اشتدت قسوة البرد كلما كان الأجر مجزيا وكان النّجاح حليفي .ويستبدّ بك الجوع فتتوجه في سرّك إلى ربّ العالمين مناجيا :ها أنت تراني أصبر على الأكل والشرب فلا تخيّب ظني في الامتحان فهو على الأبواب ومسائل الحساب تبدو عويصة .وقد يحدث أن تشتري قطعة من "البشكوتو" بثمن البيضة المسلوقة التي تبيعا لعمك عمر صاحب المتجر المجاور فتبدأ مع تلك القطعة لعبة جميلة مليئة بالرهانات :لن أكل أكثر من ثلثها وأنا في الطريق إلى المنزل ثمّ يبدو لك في الطريق أن الثلث كثير فتقول سأمسك عن الأكل مستبقيا ما فضل إلى رحلة العودة إلى المدرسة في النوبة المسائية .وقد تقول سأتصدّق بها ليعوضني بها الله تسديدا وتوفيقا يوم يهان التلاميذ وتخفق قلوبهم وتجف حلوقهم من رعب الامتحان .
كنت أفعل ذلك كله وهدي الجدّة يتردّد في مسمعي وفي قلبي وفي خاطري .
2
في تلك الأصبحة الشتوية الباردة كنت أختار أن أسلك المعبّد فجدّتي تخاف عليّ من المسالك الفلاحية الملتوية رغم اختصارها للمسافة ولم تكن الحوادث المرورية ترعب الناس في قريتي فلا تمرّ سيارة قبل نصف ساعة من مرور سابقتها .وحينما وصلت إلى دار "الحبيب " فوجئت بجمع غفير من النّسوة يبكين ويندبن ويقطّعن الشعور ويلقين بالتراب على رؤوسهنّ . وقفت أنظر إلى هذا المشهد المرعب .لا أدري من قال يومها "إنّ الحبيب قد مات " ولم أكن لأكترث للخبر فالحبيب هذا لا أذكر أني رأيته مرّة في حياتي .ثمّ ما علاقتي بالحبيب الميت وهو قد سلك طريقا إلى الآخرة وأنا أسلك طريق الدّنيا والصعيدان متباينان حدّ التناقض الصارخ .هممت بالذهاب ولكني تمهلت قليلا فقد شدّني منظر امرأة تدعى "ريحانة " وقد توسطت حلقة من النّساء الملتاعات وجعلت تنوح لهنّ فيذبن لنواحها كمدا ويقطّعن شعورهن .كان نواحا شجيّا أخاله أسقط سلّة كتبي من يدي وأعتقد أنّ وقت الدّخول إلى الأقسام قد فاتني يومها دون أن أتفطّن إلى ذلك .كانت ريحانة تتوسط النّسوة وترفع صوتها الشجيّ من حنجرتها المطربة فتعدّد خصال الميت وتذكر فضائله وتشيد ببطولاته في ردّ العدوان وإغاثة الملهوف وإقراء الضيوف وقد تبين لي بعدما كبرتُ أنها لم تكن صادقة في كثير مما كانت تدعيه له من أمجاد وبطولات وقيم .كانت تلقي الصوت ثم تدور واقفة وتولي وجهها لامرأة أخرى فتشكو لها لوعتها وتجيّش عواطفها فتنطقها بالآه وقد تدفع بها إلى السقوط أرضا لتضرب التراب بعنف وتثيره وتغمر به رأسها وأدباشها .ثم إذا هي أنهت الدّورة جلست وجلست النسوة حولها وجعلن يمددن إليها الأيدي يطلبن ما يطفين به حرقتهنّ وكانت تدور بوجهها وهيأتها إليهن كما تدور عقارب الساعة فتوفي كلّ امرأة حقها وتعطيها ما تطلب فتعينها بالقول الشجيّ على لطم الصّدر وتقطيع الشعر وإنشاب الأظافر في اللحم الحيّ من الخدود ...يا له من مشهد مهيب ...لما كبرت علمتُ أنّ أكثر بكاء المرأة في المآتم إنما هو بكاء على نفسها وليس على الميت وقالت لي جدّتي بعد أن حدّثتها بالأمر :"وليدي كثير نبيح الكلب على روحه"
ريحانة ماتت منذ ما يقارب العقد وساءني ألّا امرأة ناحت عليها .ألم يكن حريا بريحانة –رحمها الله- أن تدعو في حياتها من ينوح عليها ؟
توفيق بن حنيش 19أكتوبر 2015
تعليق