كنتُ عائداً للتو من المدينة ،حيث كنت في زيارة صديقي "سامر" الذي توفيت زوجته منذ أيام، فآثر مقام الوحدة والعزلة ، وانتحى بعيداً عن أعين الناس ،فقضيتُ سحابة اليوم في محاولة إثناءه عن الولوج في طريق الألم الذي شقه مُكرها حتى استطالت لحيته وتخضبت بالشيب .. تركت متعلقاتي وأغراضي بحوزة صديقي ،وعرجت بمركبتي إلى سوق الفاكهة لبيع محصول الرمان ، بعدما قضى الجليد على نصفه، ومنح النصف الثانى موتاً أخر.. كان الطريق مابين القرية والسوق يُقارب خمسة أميال ...وكانت مركبتي القديمة تقطعه بشق الأنفس، حيثُ أنها من الطراز العتيق . فقد قيل لي عند شرائها أنها من مخلفات الجيش الألماني، وأنها أقلت هتلر هرباً إلى تخوم إيطاليا ،ريثما يُصدق الحلفاء أكذوبة الإنتحار ..لم أتوان لحظة واحدة في دفع ثمنها حيث أن البائع كان يريد بيعها بأي ثمن ،ولو بحماري الأشهب، أو استبدالها بجالونين من العسل المصفى الذي كُنت التقطه من قمم الجبال ..ظل المحرك يُشمخر ويزمجرُ من شدة البرودة، واستحالت أشداقه تزأر من غصص البرد والصقيع المتسرب إلى أحشائه .. فسرعان ما تسرب الصقيع إلى خزان الوقود، مما جعل المركبة تتجشأ الكثير من مخاط الزيت والغاز ،فظلت تزبد وتربد حتى طفح الوقود، وتسرب بين المضخات، وفوق المحرك ،ومرق أيضاً إلى جوانبه وحواشيه، ثم توقف المحرك بعدما نضب الوقود، واستحالت المركبة كُتلة ثلجية.. تسلل إلي أحساسُ بالأحباط واليأس ،مما جعلنى ألف وادور حول نفسي ، لعلى أجد حيلة في إدارة المركبة، والخروج من المأزق .. لكن البطارية تلونت برداء أبيض واكتست بقشرة ثلجية سميكه ..فكان لابد أن أسارع بإنقاذ المحصول قبل أن يقضي الجليد على الشطر الأخر من الثمار ..فقمت على الفور بتغطية العربة بكسوة الشتاء ، وانتظرت ريثما يأتي أحدهم يُقلني أو يساعدني في اجترار العربة، ولو كلفني ذلك القاء نصف المحصول لتخفيف الثقل عن المركبة .. ولكن سرعان ماتكاوم الجليد وغمر الطرق، وندف الثلج البللورية تقاطرت على الطريق فالتهمت معالمه ..كُنت حينئذا عالقاً في الطريق المكتنز بأطنان من الجليد ، وخوفي من فساد المحصول، أثقل همومي ،وديون المزرعة لم تسدد بعد ،أبواق الدائنين لاتفتأ تطرق مخيلتي ،إنني في أمس الحاجة إلى المال من أجل شراء أربعة ثيران لحرث الأرض ، ولم أكن أملك المال الكافي لإبتياع جرار .. كانت الديون تُثقل كاهلي وتزيد من أعبائي..ومما زاد الطين بله ، أننى ابتعت نصيب أخي ،ومنحته أخر فلس لدى حتى يرحل إلى أوروبا للدراسة والعمل .. تذكرت كم حاول صديقي أن يمنحنى بعض المال لقضاء حاجتي ..لكنني خشيت الأستدان ،وإثقال كاهلي بدين أخر، شكرته لصنيعه ،وتذرعت بعدم الحاجة إليه في الوقت الحالى ،حيثُ كُنت أعقد الآمال على محصول البرتقال والليمون.. لكن قطار الجليد بدد تلك الأوهام تحت قضبان السراب..لم يمض القليل حتى شعرت بوخزات البرد القارس تنشب في أوصالي، فتخشبت مفاصلي وشعرت بالبرودة تغزو أوصالى ،فكنت بين الفينة والأخرى أطمئن على المحصول الذي تسرب إليه البرد واكتسى بقشرة بيضاء، فعلمت أنه في طريقه للفساد ..نفذت طاقتى وشعرت بالجوع يستنزف طاقتى شيء فشىء، فهمت على وجهي في البرية .. واشتدت الرياح الباردة ، وثارت في وجهي عاصفة ثلجية ،ورنوت إلى الصقيع وهو يطعن سماء الأفق ببلورات متطايرة على شكل شظايا رقيقة تشبه زغب القطن..كنت حينها أبحث عن شيئا ًمن الطعام يُسكن صوت أحشائي الصاخب، التي لا تنفك تدق جوعاً وألماً ،،وأنا أنصت إلى طحيناً داخل أمعائي يأكل بعضه بعضا .. نكست رأسي كزهرة ذابلة آدها الطل والندى ،تكورت بين أجنحة مهترئة، ألتمس الدفء من طاقة النفس الذابلة ،والرياح لاتذرني وحيداً ،لاتفتأ تلسعني بوخزاتها الباردة، فيقشعر جسدي، ويرتجف ،ونصال الجوع تُثخن أمعائي تضوراً.. الضباب يتكاثر من حولي ، ويملأ الفضاء بخيوط بيضاء معقدة تصلً الأرض بالسماء ،يحجُب معها المزارع والمروج والتلال المحيطة تتلاشى شيئا فشيء ، وتتبخر أكواخ المزارعين المتلاصقة من الوجود .. كتمت البرودة أنفاسها تحت طبقات الجليد الأبيض والتي اكتسبت صلابة لا تقاوم..بدا أن القري القريبة من التلال تلفظ أنفاسها الأخيرة في غفلة عن العالم، حيث ُنفذت المؤن من المخازن ،ونفقت الدواب ، هناك الموت الأبيض يزحف بلا رادع ،تلاشت معالم السماء والأرض ،وسدت في وجهي الطرق والجسور .. فشرعت أزحف بين أشرعة الضباب ،وأمسح قشور الثلج التى تسللت إلى وجهى ، فأبصرت مركبة مطمورة في أكوام من الجليد ،فهشمت النافذة الزجاجية ،وألفيتها كتلة لحمية مُحنطة بالجليد فوق المقعد حاولت دفعها عن عجلة القيادة، وندف الثلج لاتفتأ تطعن وجهي ، هويت إليها ألتمس شيء من الدفء أو ما يسد رمقي ، نزعت قبعته واعتمرتها على عجل بعد أن تخدر نحري ، حاولت البحث في معطفه عن شيء يؤكل ، غاصت يدي بين طيات ملابسه فلم أجد سوى قنينة من الماء قد أفسدها الجليد وتحجرت ، وكسرات من الخبز اليابس عالقة بين قفازه نزعتهما فتكسرت أصابعه، وطوحتهما على الفور في فمي أذدريهما، وألعق ماتبقى من فوضى بلساني اليابس حتى لا أفقد منه شيء.. لكن ذلك لم يفى بشيء معى بل شعرت بمعاول اليأس تأد بذور الأمل داخلى ،فأذعنت للهلاك المحدق بي في قنوط تام ،ثم هويت إلى شجرة قريبة مني قد إكتست قشورها برقاقه من الجليد، فتعلقت بها تعلق اليأس الملهوف ،ونشبت مقارضي في لحائها حتى هويت إلى الأرض فتمطيت وتكورت ثم غبت في عوالم مجهولة، واستحال جسدي كتلة ثلجية ،وغابت عني الحياة إلا من بقعة بسيطة في عيني ،كانت ترصد ماحولي، وتلحظ إلى ندف الجليد وهي تتسامى وتتهادى في جو السماء..كان مشعلي الأخير ينضب ،والصورة تملس شيء فشيء، وقد نضب معينها إيذانا برحيلي ،والروح في رمقها تحمل حقائب السفر في وداعها الأخير ،وصفير القطار يدوي في مخيلتي عابراً إلى طريق قد شقه الموتى .. وقبل أن تملس الصورة وتتلاشى معالمها ،رأيت طيفاً رقيقاً بدا لى كائناً فضياً، يدنو شيء فشيء ، كان يتفرس في وجهي ،ويختال من حولي بأجنحته الفضية وقوامه الممشوق، وأنا في ذهول لا أقوى على شيء ..بسطت أناملها الرقيقة وأزالت الرقاقة الجليدية التي كانت تكسو قبتي، ثم شرعت الفتاة الفضية تطرح الثلج المتكاوم حولي بذيلها اللامع، كأن لأليء النفائس مرصعة على ذوائبه وأعرافه ..كنت أرى حياة تند بين أناملها وبريق يومض من أظافرها ..ثم رأيتني وهي تحملني بين ذراعيها بلمسة حانية ..شعرت بسكون وصفاء أبدي، لاسيما حينما رنا إلى مسامعي تراتيل عذبة ترنو ألحانها إلى فؤادي ،فيتبدد الحزن الجاثم فوق صدري ،وعلى مقربة مني إحتشد عدد لا حصر له من كائنات الفضة، لم يتوقفوا عن العزف والغناء في مشهد بهي فاق حدود الخيال.. وتسامى فوق صور التناغم والإنسجام ..فاقت الصورة قدرتي على الوصف والتخيل ،كأنني عصفور هزيل يرتجف من الخوف والبرد ،وما لبثا أن برقت أجنحتها عندما ضربت الأفق بذيلها اللامع فتزين بألوان قوس قزح الزاهية .. شعرت وقتها بنعاس شديد قد إنتبنى من سكرة الحدث،ثم ألفيتني مُسجياً على مائدة في كوخ مهجور قد التمع فراشها حينما زملتني به.. كانت عيناها متوهجة كمصباح تزداد طاقته الحارقه كلما نظرت إليه.. ثم استحالت عينيها زرقاء بعدما خبأ ضوئها شيء فشيء ، وشرعت تردد كلمات بصوت عذب وبلغة لم أستجلي معانيها ذات مفردات بديعة كالتى تُنشد في الأوبرا.. ثم أسبلت عيناها وابلاً مدراراً ،ودموعها الفضية ولثماتها الحارة تسح على وجهي كشؤبوب فاض من الغيث ،فتسري في جسدي طاقة هادرة تمنحني الدفء والسكون، وتعيد لي الحياة شيئا فشيء، ثم دست ورقة بيضاء في راحة يدي، وأشارت إلي بطرفها..ثم ألفيتنى وقد دبت الحياة في جسدي واستعدت عافيتى ، وقمت فزعاً منهوكاً بعدما تحلب العرق من أعطافي.. كان الطيف قد أملس بعيداً،وأثرها عالقاً في الهواء الندى ،حتى تلاشى شيء فشيء ، فهرولت إلى الخارج أتفرس في وجه المكان ،فصرخت وصوتها الندى ،مازال يعانق أنفاسي .أترانا نلتقى .فتسامت الفتاة بين نُدف الثلج ،ثم استحالت ياسمينة بيضاء ،هوت بين يدى ،فغصت بها إلى حنايا صدري ، فذابت وتلاشت،واستحالت بللورة بيضاء ،ولم أرها بعد اليوم
طيف...9
تقليص
X
-
المشاركة الأصلية بواسطة محمود عودة مشاهدة المشاركةنص رائع لغة سلسة وسرد ماتع أحداث مترابطة وقفلة تنم عن حب وصدق وفي
مودتيالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
صديقي الكاتب " الثائر " أحمد فريد
اعتذر منك يا أخي ، و لكن أراها " خاطرة .. او اقرب إلى الخاطرة " عنها من القصة "
فـ اللغة ، واسلوب التناول السردي .. علت عليه " اللمحة الشعرية او التخاطرية " فـ افقدتها الحبكة القصصية "
وارجو الا اكون ازعجك بهذه الملاحظة ..
ودمت بكل ود .
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة أحمدخيرى مشاهدة المشاركةصديقي الكاتب " الثائر " أحمد فريد
اعتذر منك يا أخي ، و لكن أراها " خاطرة .. او اقرب إلى الخاطرة " عنها من القصة "
فـ اللغة ، واسلوب التناول السردي .. علت عليه " اللمحة الشعرية او التخاطرية " فـ افقدتها الحبكة القصصية "
وارجو الا اكون ازعجك بهذه الملاحظة ..
ودمت بكل ود .
شكراً لكالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة عزت فوزي أحمد الحجار مشاهدة المشاركةنص جدير بالقراءة .. خيال خصب ولغة سلسة وإحساس حالم طاف بي إلى عوالمه الخاصة المدهشة ... تحياتي لقلمك المبدع ومحبتي لشخصك الحالم
تحياتي لحضرتكالحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
-
سلامي الحار صديقي أحمد فريد،
في الجقيقة أصيب أنسا عندما أدخل نصوصك.
ما تفضّل به الإخوة موضوعيّ بين شاكر و ناقد، لأنّ النصّ جميل بقطع النّظر عن التصنيف. اللغة شاعريّة و السّرد مترابط و الخيال متقد، و قيل إنّها أقرب إلى الخاطرة. يحتمل النصّ كلّ ذلك لانحيازك للجملة على حساب الفكرة أو الطرح الجدير بصفة قصّة قصيرة.
و لنكون إيجابيين أدعوك كقارىء أن توظّف موهبتك لسرد الأحداث في مستقبل نصوصك في سياق بناء قصصيّ له مقوّمات القصّة من حياد و مفارقة ترجى من ورائها (بخفاء) برهنة أو لفت نظر أو تقويض مفهوم أو تصوّر أو نقد أو سخرية إلى غير ذلك من المضامين التي يزخر بها عالم النّاس..
لك كلّ الودّ أخي.
تعليق
-
-
المشاركة الأصلية بواسطة محمد فطومي مشاهدة المشاركةسلامي الحار صديقي أحمد فريد،
في الجقيقة أصيب أنسا عندما أدخل نصوصك.
ما تفضّل به الإخوة موضوعيّ بين شاكر و ناقد، لأنّ النصّ جميل بقطع النّظر عن التصنيف. اللغة شاعريّة و السّرد مترابط و الخيال متقد، و قيل إنّها أقرب إلى الخاطرة. يحتمل النصّ كلّ ذلك لانحيازك للجملة على حساب الفكرة أو الطرح الجدير بصفة قصّة قصيرة.
و لنكون إيجابيين أدعوك كقارىء أن توظّف موهبتك لسرد الأحداث في مستقبل نصوصك في سياق بناء قصصيّ له مقوّمات القصّة من حياد و مفارقة ترجى من ورائها (بخفاء) برهنة أو لفت نظر أو تقويض مفهوم أو تصوّر أو نقد أو سخرية إلى غير ذلك من المضامين التي يزخر بها عالم النّاس..
لك كلّ الودّ أخي.الحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
-
تسللت الشمس من خدرها رويدا ،ونثرت خيوطها تعانق كساء البحر، فبرقت أمواجه وتلمظت ، وتوقدت على شواطئه شموع الدفء والسكينة،فلمع البحر كاللؤللؤة تحيطه قشور من الدرر والزبرجد .. وفي أثناء ذلك خرج الفأر مانشو برفقة أصدقائه من عشيرة الفئران الحمر ليستجموا قرب الشاطيء ويتنسموا عبير البحر قبل هطول المصيفين وزحفهم إلى الشاطيء .. افترشوا الرمال وعمدت إناث الفئران إلى إعداد الطعام من شراب التوت الساحر وثمار النقب اللذيذة فيما انكفىء الذكور على ممارسة اللهو والعبث وركل بعضهم البعض واحتفار الأخاديد وبناء القلاع والجسور ومحاكاة الأدميين في سلوكياتهم من خلال التحرش بالفتيات والغطرسة والخيلاء والتصنع ... وأثناء مطاردة بعضهم البعض رمق مانشو قنينة من الزجاج تتأرج بين الأمواج ، جرفها التيار إلى حافة الشاطيء فعلقت بالرمال المخضلة ،هرول الفئران يتسابقون أيهم يصل إليها ..حاول جاز أن يقتلع السداده بمقارضه وأنيابه لكنه سرعان مافشل إذ وجد صعوبة في انتزاعها قال فيرو "
-إن رائحتها تشير أنها صودا ..فيما أعترض جاز و روبا :
- ليست صودا أيها الأحمق ..أنها زجاجة خمر روسية معتقة تعود للأمبراطور ستالين
كاراس
- لم يكن ستالين أمبراطورا ..كان سفاحا
لينيدي
- إنها زجاجة فارغة حملتها المياة ..ذلك فحسب ..هيا دعكم منها فلنتناول الطاعم ..!
مكث مانشو يحوم حول الزجاجة ..وتراهنوا فيما بينهم على نزع السدادةالتعديل الأخير تم بواسطة عبد الحميد عبد البصير أحمد; الساعة 16-02-2016, 10:45.الحمد لله كما ينبغي
تعليق
-
ما الذي يحدث
تقليص
الأعضاء المتواجدون الآن 66429. الأعضاء 5 والزوار 66424.
أكبر تواجد بالمنتدى كان 409,257, 10-12-2024 الساعة 06:12.
Powered by vBulletin® Version 6.0.7
Copyright © 2025 MH Sub I, LLC dba vBulletin. All rights reserved.
Copyright © 2025 MH Sub I, LLC dba vBulletin. All rights reserved.
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش-1. هذه الصفحة أنشئت 14:02.
يعمل...
X
😀
😂
🥰
😘
🤢
😎
😞
😡
👍
👎
☕
تعليق