رواية التاج المفقـــود /الفصل الثاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سعد فهيد العجمي
    أديب وكاتب
    • 02-12-2015
    • 54

    رواية التاج المفقـــود /الفصل الثاني


    الفصل الثاني

    2003
    وصلنا أخيرًا!
    عند الحدود ظهر أفراد الفريق العراقي الذي سيتعاون معنا في رحلة البحث عن أسرانا، ومع اقترابنا منهم أمكنني أن ألمح وجوهًا لوّحها البؤس، وسكن أعينها الحزن.
    من بعيد لاح لي وجه منير بملامحه الضاحكة، كم اشتقت لتلك الابتسامة الوضّاءة!
    لوّحت بيدي، و ما أن رآني حتى وثب ناحيتي صائحًا بمرح:
    - "جاسم الغريب! أيّها الوغد (بو عَشرة) أما زلت على قيد الحياة؟"
    - "ما زال لسانك طويلًا، كعهدي بك يا منير!"
    عانقني بحرارة ضاحكًا:
    - "من شبّ على شيء شاب عليه يا صديقي!"
    إنّه منير بمزاحه المعهود وروحه المرحة، لم تغيره الأحداث فيما يبدو، كان طويل القامة، قويّ البنية بشامة على خده، لا يزال وجهه يحتفظ برونقه القديم رغم عوامل الزمن، أدهشني أنّه كان يلفّ رأسه وأذنيه بغترة لم أرَه فيها من قبل، وقفنا نتبادل جمل الترحاب وبعض الذكريات المضحكة التي كانت لنا.
    هذه هي المرة الثانية التي أجتمع فيها مع منير، صديق الرحلات والسهرات في مهمّة خطرة- وقد افترقنا رغمًا عنّا- كانت المرة الأولى تجربة صعبة، لاتزال مرارتها تلسع أعماقي!
    ***
    1983
    انطلقت سيارة الكارجو العسكرية بعد هبوط الظلام، وراحت تموج بِنَا وسط منطقة المستنقعات، كان هدفنا الكتيبة الكامنة خلف خطوط من السواتر الترابية، وعلينا أن نجتاز فتحات بينها للوصول إليها، كنا نفس المجموعة أنا ومعي صديقي منير المنسق الإعلامي للسفارة العراقية في الكويت، و ناظم مهندس الكتيبة، ومرافق عسكري بمدفعه الهاون، بالإضافة إلى السائق، فجأة انهالت علينا رصاصات القناصة الإيرانيين الذين يراقبون موقع الكتيبة فسقط سائق السيارة صريعًا، صدمني موته، وهنا صاح بنا المرافق العسكري للاستمرار زحفًا، التفتّ خلفي لأرى سائق الاحتياط المتواجد بالكتيبة يرمي بجثة السائق خارج السيارة بلا رحمة وينطلق بها سريعًا، فعل ذلك بتلقائية وكأنّه أمر اعتيادي، فيما استمر الآخرون بالزحف.
    توقفت ولم أعد أشعر بخطورة الموقف، لولا أن امتدت يد منير تسحبني بشدة للاحتماء بجانب الساتر الترابي، لم يكن كزحفي في فيلكا أو أيام الشقاوة في الديرة، فقد كان علينا هنا تفادي الرصاص والشظايا المتطايرة وكانت حياتنا على المحكّ!
    وكأنّ أبواب الجحيم فتحت على مصراعيها فور وصولنا؛ فانهالت القذائف من كل حدب وصوب، واشتغلت مدفعية الكتيبة للردّ بعنفٍ وكثافة نيران خلتها لن تتوقف!
    بدأ المهندس ناظم وشريكه حامل الهاون سباقًا مع الزمن لاتخاذ القياسات المناسبة، وما هي إلا لحظات حتى بدءا بإسقاط القناصة الإيرانيين من حولنا!
    بعد ساعة- وقد هدأ كل شيء- خرجت من الحفرة التي توارينا فيها، كانت ملابسي ووجهي ويداي ملطّخةً بالطين والسواد، بل كان كل ما حولي أسودًا!
    تهيأنا للعودة فأشار علي منير- بوجه كالح كالموتى- بتدوين كل ما أرى، تجولت قليلًا وسط بحيرات الدم لأتبيّن ما حولي، وأخرج بانطباع أخير أدوّنه، هالني حجم المأساة والكارثة، كانت عشرات الجثث قد تناثرت أشلاؤها وتلونت الأرض بالأسود والأحمر، تمالكت أعصابي بصعوبة رغمًا عني، وأدرت الكاميرا لأصوّر أبشع ما توصلت إليه الإنسانية!
    ***
    قمت بواجب التعارف بين صديقي منير ومرافقي مصطفى:
    - " العزيز مصطفى"
    صافحه منير بهدوء بينما ردّ الآخر تحيته ببرود؛ ما جعلني أتوجّس خيفة من بوادر توترٍ بانت ملامحه.
    فجأة برز كلب صغير من وراء الرجال وراح ينبح بشدّة، ثم ظهر شاب خلفه يصيح وهو يهرول:
    - "جعبل! جعبل! انتظر أيها الأحمق!"
    - "جعبل؟!"
    هزّ منير رأسه ضاحكًا:
    - "هذا هو اسم الكلب! إنّ كاظم مُغرم به!"
    صافحني الشاب العراقي بحرارة، ومنير يقول:
    - "بالمناسبة: كاظم شاعر موهوب، وستعرفون هذا خلال رحلتنا"
    ظلّ الكلب يواصل نباحه، فهتف كاظم غاضبًا:
    - "جعبل! تأدب!"
    أقعى الكلب على قدميه وأحنى رأسه، لمح كاظم دهشتنا:
    - "إنه كلب مُدرَّب!"
    جلست القرفصاء وأخذت أمسح براحتي على رأس جعبل؛ فراح يهزّ ذيله في سرور.
    ضحك كاظم قائلاً:
    - "لقد أحبّكَ جعبل من أول نظرة! "
    أضحكت العبارة الجميع؛ ما خفف التوتّر وأشاع جوًا من الراحة بيننا.
    همستُ في أذن الكلب :
    - " لحسن حظك أنَّ هذه أول مرة ألمس فيها كلبًا من غير أذى!"
    (لو كان هذا الجعبل في زمن مستورة؛ لتحول إلى شعلة من النار تهرول!)
    مستورة التي كانت معلمًا من معالم زمن ٍ مضى، كنت فيه فتىً أغرّ أسعى لشهرة تعوضني الإحباط الذي كان يلازمني، حتى لو تحقق بالعمل مع تلك المشعوذة!
    ***
    استقل الفريقان أربع سيارات بعد انضمام سيارتيّ الجانب العراقي، وتقدمنا باتجاه المعسكر البريطاني، حيث تمّ أسر بعض المسؤولين عن الأسرى، كانت سحب الدخان تعكّر الجو، وألسنة اللهب تتأجج أحيانًا وتخبو أحيانًا أخرى.
    طريقنا إلى مدينة البصرة كان مليئًا بالمآسي، كانت المدينة العظيمة تنهار أكثر وأكثر، بسبب عبثية الأنظمة الّتي توالت على حكم العراق، وآخرها نظام صدّام الدموي الذي أسقطه التحالف الغربي منذ شهر، وقد صارت نهبًا للجيوش تتقاسم كعكتها بكل ضراوة، و ما يزيد حزن القلب أكثر هو قلة المياه في بلد يمرّ بها دجلة والفرات وانقطاع الكهرباء المستمر، قفزت إلى ذهني صورة قاتمة:
    كيف كان الأسرى يقضون أيامهم ولياليهم في أماكن باردة، تقشعرّ الأبدان لمجرد التفكير فيها؟! كيف يعيشون في أماكن لا تحتوى على أبسط الحقوق الخاصة بهم، مثل قضاء حاجتهم، وتنظيف أجسادهم، وطعام مقبول لا تعافه الأنفس؟!
    قطع سلسلة أفكاري صوت كاظم العذب، يصدح بشعر أبي فراس الحمداني:

    أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَةٌ*** أيَا جَارتَا هلْ تَشعرينَ بِحَالي
    مَعاذَ الهَوَى ماذُقتِ طارِقةَ النَوى*** وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ

    شجعه منير بصيحة إعجاب، فتابع:

    أيَضْحَكُ مَأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَة ٌ*** ويَسكتُ مَحزونٌ، ويَندبُ سَالِي
    لَقدْ كنتُ أَوْلَى مِنكِ بالدمعِ مُقلة ً*** وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!

    تأوّه مصطفى:
    - "وضعتَ يدك على الجرح يا كاظم!"
    انتبهت فجأة من غفلتي مع صوت كاظم على أصوات الرشاشات!
    أجبرت غزارة الرصاصات الشديدة - التي انهالت علينا - الموكب أن يُبدل مساره
    - "لقد كشفوا أمرنا!"
    قالها منير والغضب واضحٌ على وجهه، صرختُ بصوت عالٍ حتى يسمعني الجميع:
    - "فلنغير مسار السير"
    على الفور- وكما خُطط سابقا لحالة الطوارئ- بدأ سائق السيارة الأمامية يتخذ طرقًا فرعية، بعيدًا عن الخط الرئيسي فتبعناه، ما أن ابتعدنا عن الهجوم حتى لاحظتُ أن عليّ يجلس محرجًا، ووجهه محتقن، فهمتُ حاجته على الفور وهذا ما جعلني أرفع صوتي آمرًا:
    - "ليتوقف الجميع هنا"
    توقف الموكب، وسألت وأنا أهبط من سيارتي:
    - "هل الجميع بخير؟"
    كان الجو العام قلقًا متوترًا، لكن -ولله الحمد -لم يصب أحد بسوء.
    لاحظت عليّ وهو يتسلّل إلى الخلاء مسرعًا، فانتحيت بمنير ومصطفى جانبًا نتدبر أمر تغيير مسارنا، قال منير بصوت خافت:
    - " يبدو أنّ خطواتنا مكشوفة،هناك من يرسل المعلومات!"
    - "وما أدرانا؟ لعله حادث عرضيّ، الأفضل لنا أن نتابع مسارنا"
    - "اذا غيرنا اتجاهنا واستمرت الملاحقة؛ فان ذلك يعني أن أحدهم يُسرّب المعلومات عن مسارنا"
    اعترض مصطفى:
    - "سيتسبب ذلك بتأخير في الوقت، وأنت تعرف أهميته."
    أجاب منير بإصرار:
    - "لو هوجمنا مرة أخرى فسيتأكد لنا أنّ هناك من يُسرِّب أخبارنا من الجنود، ولو سارتْ الأمور على ما يرام؛ فسنعرف أنّ الهجوم علينا كان مجرد صدفة"
    تابع مصطفى اعتراضه:
    - "لا أوافق على هذا، يفترض أن نذهب إلى المعسكر البريطاني، وهناك سوف نحصل على معلومات مهمّة بخصوص الأسرى"
    - "المعلومات التي سنحصل عليها في الديوانية أكثر أهمية"
    استغربت ما سمعت:
    - "هذه معلومة جديدة! الديوانية؟"
    - "ثمّة معلومات عن آخر شخص تعامل مع الأسرى يُدعى عبد الجبّار"
    قلت بحزم:
    - " الكلمة الأخيرة لي فالمسؤولية تقع على عاتقي، سوف نغير المسار!"
    أشاح مصطفى بوجهه ومضى - دون أن يعقّب- نحو سيارته.
    عاد عليّ من الخلاء وابتسامة الرضا على وجهه، ابتسم فور أن رآني ابتسامة شكر نادرة؛ جعلتني أتنفس الصعداء.
    كم تغيرت أحوال عليّ إثر تلك الأحداث المريرة، وبين يوم وليلة تتغير أحوال وأحوال.. فما بالك بإنسان!
    بعد توبته عن كلّ ما بدر منه حاول إصلاح حياته؛ تزوج مرتين ولم يهنأ، وحاول أيضًا الخوض في مجال التجارة ولم يكسب، فخسر كل شيء وانهارت حياته!
    ***
    التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 11-12-2015, 14:23.
  • سعد فهيد العجمي
    أديب وكاتب
    • 02-12-2015
    • 54

    #2
    ساعدتنا المذكرة الأمريكية الموجودة بحوزتنا، على أن نجتاز الكثير من الحواجز الأمنية المقامة على الطرق ونحن نتّجه للديوانية، ما زال وجه مصطفى عابسًا لأننا خالفنا وجهة نظره وخالفنا الأوامر، له عذره في موقفه هذا فهو يبحث عن والده، لكننا- أيضًا- نحمل همّ الجميع؛ فالكل أهلنا وأبناؤنا!
    وأخيرًا دخلنا الديوانية، استوقفنا أحدهم فسأله منير بلهفة:
    - "أتعرف مكان عبد الجبّار؟"
    ألقى الرجل عليه نظرة مرتابة وقال:
    - "ربّما!"
    تركنا وانصرف؛ فاحتقن وجه منير غضبًا؛ ما جعل مصطفى يقول بتشفٍ:
    - "أرأيت؟! أخبرتك أننا نبحث عن إبرة في كومة قشّ!"
    تجاهله منير وابتعد نحو رجال الفريق الخاص به، تحدّث معهم قليلًا وعلى الفور انتشر الرجال.
    ولم يطل غيابهم حتى عادوا يرافقهم رجل نحيل، يرتدي سروالاً يشبه سراويل الجيش القديمة، ويضع على رأسه غطاءً يقيهِ حرّ الشمس ولهيبها!
    سأله منير:
    - "ألديك معلومات عن عبد الجبّار يا رجل؟"
    قال بهدوء:
    - "نعم بالتأكيد"
    - "ماذا تعرف عنه؟"
    - "أعرف أنّه يملك محلًا لبيع أطباق (الدشّ و الرسيفرات) إنّها تجارة رائجة، وخاصة هذه الأيام"
    سألته:
    - "وتعرف مكانه؟"
    نظر بطرف عينه إلى منير دون أن ينطق بحرف وعلت ملامحه ابتسامة ماكرة، قال منير بعصبيّة:
    - "فليكن، كم تريد؟"
    أجال عينيه فينا ببطء، ثم قال:
    - "رزمة دولارات ستكفي، أنتم استدعيتموني وأنتم بحاجتي، وإن كان طلبي لا يعجبكم.. فسأمضي!"
    تأملنا بعضنا للحظات، ثمّ أخرجتُ الدولارات من الجيب السري لحقيبة أربطها على بطني، لمعت عينا النحيل بوضوح ومنير يتأكد من أوراق النقد الخضراء، ثم يضعها في يديّ ذلك الجشع، أخذ يعدّها بسرعة بيد محترفة، ثم وضعها في جيبه وهو يجيل النظر فينا مجددًا، توقف نظره عند علي وتحرك للأمام نحوه؛ أجفل ذلك الأخير منه وتراجع للخلف، امتدت يدا الرجل إلى معصم عليّ؛ في نفس اللحظة ارتفعت أسلحة الفريق العراقي مُشهرة بوضع متحفّز.
    صحت فيه:
    - "ماذا تفعل؟"
    وضع يده على ساعة عليّ الثمينة، وقال:
    - "أريد هذه الساعة!"
    قال عليّ معترضًا:
    - "إلا هذه الساعة!"
    أخرج الرجل رزمة النقود من جيبه، وهتف:
    - "وإذن لا يوجد عبد الجبّار!"
    كان الموقف حرجًا حقًا؛ فعليّ يعتز بتلك الساعة جدًا، وأمام ترددنا نزعها من يده وأعطاها للنحيل، وقال بانكسار:
    - " من أجل شقيقي راشد!"
    لا أدري لماذا- في ذلك الموقف بالذات- خُيّل إليّ أنّ لدى عليّ شيئًا ما يخفيه عني!
    ***
    الدنيا أصعب مما نتمنى وأسهل مما نتوقع! طموحك يخبرك بما تتمنى، وسعيك يوصلك لما لا تتوقع!

    1985

    لا أذكر بالضبط ما كانت دوافعي لتعقّب كل ناجح!
    بعد عودتي من الديرة بقيت متابعًا للصحف؛ لمعرفة مصير ياسر وزمرته وتتبع أخباره، كانت تلك عادة مستحدثة استغرب لها أهلي كثيرًا؛ جاسم الذي كان يملأ الدنيا صخبًا أصبح يجلس هادئًا يضع ساقًا على ساقٍ، ويقرأ الصحيفة كالمثقفين!
    من أهمّ الأسباب التي دفعتني للنجاح كان تقليد ياسر، وشعور يشبه الحسد يتفاقم في صدري كلما سمعت اسمه؛ فما زلت أتحسس حرارة صفعته، ولايزال طعم إهاناته- منذ كنت في ضيافتهم- يلون طموحي بشيء من القهر والتصميم على التفوق عليه، خاصة بعد أن عرفتُ عن طريق صحيفته أنّه قد أفلت من العقاب بطريقة ما، بل وزادت ثروته وسطوته.. يبدو أنّ ذلك المحتال كانت له طرقه الخاصة لتسيير أموره!
    أصبحت رغبتي جارفة في أن أصبح صحفيًا مثله، وأتيح لي لحسن حظي ذلك في السنوات التالية بعد أن استُحدثت الثانوية عام 1971 في الجزيرة ، فالتحقت بها وعملت بجدّ لإنهاء دراستي وتحقيق حلمي في خوض غمار الصحافة.
    انتقلت بعدها للعمل في الديرة حيث عملت في صحيفة مشهورة كمحرر، وكنت شعلة من النشاط كعادتي، ثمّ في مرحلة لاحقة كانت تحقيقاتي المباشرة من ميدان المعارك العراقية مع إيران تدفع بي للارتقاء سريعًا إلى مراتب الشهرة.
    اتخذت لنفسي مظهرًا حرصت عليه؛ فقد اعتدت تدخين السيجار الفاخر، و كنت أضعه في زاوية فمي حين أتحدث مثلما يفعل صدّام حسين، ليس حبًا في السيجار ولا إعجابًا بصدّام حسين، بل ليمنحني قوة شخصية وتفوقًا على الآخرين، كما كنت أتخيّل!
    توسعت دائرة معارفي وكثرت صلاتي وارتباطاتي، وأصبحت في مصافِّ الرجال المحترمين، حتى أنّي حصلت على مسكن جيد، بعد أن أمّنت لي الصحيفة شقة جميلة في عمارة حديثة في شارع البحرين بالسالمية، كان الأمر استثنائيًا بحقّ!
    انتقلت لسكني الجديد المكون من غرفتي نوم، وغرفة مكتب وصالة وملحقاتها، كان قسم كبير من العمارة مخصصًا لسكنى خبراء ألمان، ومن يعمل معهم من جنسيات مختلفة، لم أكن أراهم إلا حين خروجهم للعمل أو عودتهم منه، وبجواري سكنت أسرة كويتية صغيرة بشكل مؤقت، كنت أرى أطفالها أحيانًا في أسفل العمارة، أوحين يلعبون كرة القدم في الشارع الجانبي، حيث لا تمرّ السيارات كثيرًا.
    حضرني موقف طريف الآن، إذ كانت تلك الجارة دائمة التذمّر والشكوى، وكنت أسمعها في غدوّي ورواحي تنادي أطفالها وتتأفّفُ من كل شيء، وتصرخ في وجه أولاد الجيران مشفقة على أولادها من أذاهم وهي تردد عبارتها الشهيرة (يا ليتنا كنا في الصين).
    وفي إحدى المرات كنت في مدخل العمارة، حين هبّت عاصفة قوية حملت ولدها رقيق البنية، ورفعته عن الأرض وكادت تودي به، فسارع فتيان بحمله وقد أغرقا في الضحك، وهما يقولان له باللهجة المحليّة:
    - " لا تخاف، كانت بتودّيك الصين!"
    (ولا أدري للآن سرّ إعجابها بالصين)
    ***

    تعليق

    • سعد فهيد العجمي
      أديب وكاتب
      • 02-12-2015
      • 54

      #3
      اعتدت أن أتردّد إلى مجلس ديوانية رئيس التحرير بين الفينة والأخرى؛ لأظل على تواصل مع أهل الصحافة والرأي، وبعض الشخصيات السياسية.
      كان مجلسًا متميزًا-لطالما حلمت بمثله- مكانًا واسع الأرجاء، تشغل جوانبه جلسات عربية من الطراز المغربي المريح، بديكوراته المحفورة بشكل أنيق وصنعة عالية الجودة، يجتمع أصحاب الفكر والسياسة وشتّى التوجهات فيه على اختلاف مشاربهم.. وتتشعب الحوارات ما بين قضايا سياسية وهموم اجتماعية، تعلو الأصوات أحيانًا وتخفت.. نتلاقى ونختلف، وسط أكواب الشاي بالزعفران والقهوة العربية المميّزة بلونها الذهبي، وكان النقاش اليومي الدائر بشأن القوانين المطروحة على مجلس الأمة، يتخلّله حوار لا يتوقف حول الحرب العراقية الإيرانية.
      كنت مهتمًا جدًا بهذه اللقاءات خاصة بعد خيبة الأمل التي أصابتني، والسقوط المريع في انتخابات مجلس الأمّة الماضية، حين رشّحت نفسي عن الدائرة الثامنة ولم أنَل إلا عشرة أصوات، وعلى إثرها انسحبت زوجي الأميركية من حياتي، فتوارت مع طفلي الوحيد، وعلمت أنها غادرت إلى بلادها .. وطبعًا ليس باليد حيلة!
      كان ذلك بعد هزيمتي في الانتخابات بعدّة بأيام، حين رجعت من عملي كالعادة و دخلت شقتي، فوجئت بالصمت المطبق عليها على غير العادة، إذ كانت ويندي تدير المسجّل معظم وقتها، و تستمتع بسماع السيمفونيات العالمية بصوت هادئ يتردد في جنبات الصالة، بينما هي تقوم بأعمال المنزل أو تطالع مجلتها المفضلة، أيضًا لم أسمع صوت الصغير طارق، توجهت من فوري إلى غرفة النوم، فصعقني مشهد خزانة الملابس الخاصة بهما فارغة ومفتوحة، وطبعًا أول ما يخطر بالبال هو السرقة أو الاعتداء، وأنّ شرًا ما قد أحاط بهما، تحولت إلى المطبخ لأتفقدهما، فوجدت ورقة بخط يدها مسندة إلى مزهرية الورد التي تنتصف طاولة الطعام.. تقول فيها بالإنجليزية: أنّها رجعت بلادها مع ولدها، وأنّي إنسان فاشل، وعليَّ ألا أنتظرها.. حقًا كانت صدمة!
      لا أدري لم علينا أن نتقبّل أفعالهم مهما كانت قاسية، ونبرّر بأنّ عاداتهم هكذا..؟!
      ***
      ذات مرة دخل علينا ياسر- بحكم صداقته لرئيس تحرير صحيفتنا- مجلسنا في الديوانية، كان كما هو بغروره المعهود وأناقته المفرطة، نظر إلي كأنّما فوجئ بوجودي و قال هازئًا:
      - "بو عَشرة هنا؟ "
      ضجّت بعض أصوات الحاضرين بالضحك...
      كان يقصد معايرتي بالأصوات العشرة تلك، وما زادني غيظًا بالفعل هو ضلوع ياسر نفسه في التسبب بهزيمتي، وكأنّ نجاحي ضربة موجعة له.. لم أجِبه بحرف بل أضمرتها في نفسي، لعلّ الأيام القادمة تعينني على ردّ الصفعة إليه!
      أفقت من شرودي على صوته النشاز يلفظ اسمي.. فقد تابع ياسر المؤذي -بعد انتهائه من شرب الشاي -انتقامه مني؛ إذ طلب من صديقه -رئيس تحرير صحيفتنا -تغطية المهرجان المسرحي الذي يرعاه بنفسه تشجيعًا للمواهب الجديدة، وإمعانًا في إهانتي أوحى إليه أنّه من الأفضل أن أباشر التحقيق بنفسي.. طلبني بالاسم!
      تسارع نبضي وأنفاسي، وتسمّرت حدقتا عيني، حين أطلَّ الطنطل بوجهه القبيح وظلّه الطويل هازئًا، وبيده عصا طويلة يسخر مني ومن هبلي.. تقول أمّي:
      )إذا شاهدك الطنطل يضربك بساريته، وأحيانا يخرج فجأة كشبح أمامك! )
      وها هو شبحه يلوح أمامي في شخص ياسر، ولايزال الذعر منه يلاحقني في كل مكان!
      أصبحت محطّ أنظار الجميع، بل شعرت بسهام نظراتهم تكاد تخترقني، بينما ابتسامات ماكرة تتوزع بينهم مجاملة لياسر الرجل الثري، صاحب اليد والقلم والصوت، ولست أمامه سوى مبتدئ، كان الغيظ يأكل من أعصابي، فأبتلعه مجاهدًا ألا يظهر في تصرفاتي أو ملامحي؛ فيسبب لي شماتة الحاقدين وما أكثرهم وأولهم ياسر.
      انسحبت إلى الحديقة لأداري خيبتي؛ بدعوى أنّي أريد أن أتنسّم هواءً نظيفًا، فجلست على مقعد مثبت في أحد أركانها، وما كدت أفعل حتى شعرت بأحدهم يقترب ويجلس إلى جواري، بدا لي للوهلة الأولى مميزًا بلباسه (الصديري) الذي تتدلى منه ساعة الجيب بسلسلة موصولة به، و يمنحه هيبة و وقارًا، وبسواك في يده لا يفارقها كأنّه سمة شخصية لا يستغني عنها، عرّفني على نفسه باسم ناصر الفايز، ثمّ بادرني الحديث بلا مقدمات:
      - " لاحظت انزعاجك، لا تأبه لأسلوبه المستفزّ، يعجبني الشباب الطموح والجريء في مواجهة الأحداث والتطورات، أجل عليك أن تحاول وتحاول، ولا تهتمّ لمقولة بعض الحاقدين.."
      لاحظت في حديثه نفورًا من ياسر لم أستغربه، فشتّان ما بين الاثنين!
      بدا أنّه يحاول مواساتي في هزيمتي؛ حين وعدني أنّه سيأخذني إلى مركزه الدعوي في مزرعته بالوفرة لمتابعة نشاطه الخيري، ولأطلع على التطور الجديد الذي أحدثه مؤخرًا لدعم المجاهدين الأفغان، فأكدت له أنّي سأغطي نشاطاته لصالح صحيفتنا.
      ****
      في اليوم التالي وجدت على مكتبي طلبًا بكتابة الافتتاحية الصباحية من رئيس التحرير نفسه، عجبًا لهؤلاء البشر! بالأمس يسخرني لإرضاء غرور ياسر بتحقيق فني يمكن لأيّ صحفي عادي أن ينجزه، و اليوم يطلب مني كتابة الافتتاحية!
      كأنّه أولع شرارة عادت تؤجج غضبي من أحداث الأمس في ديوانيته! وعلى غير عادتي مع قهوتي الصباحية دخنت بشراهة، وأحرقت في دقائق من السجائر ما أدخنه عادة في ساعات، كأنّي أبحث بين سحب دخانها عن كلمات تطفئ لظى قلبي، وبدأ قلمي يجترّ غيظي من موقفه المشين لأردّ له الصفعة بطريقتي الخاصة.
      وجدت نفسي أتجاوز كل الخطوط الحمراء لنهج الصحيفة ومالكها -رغم يقيني أنّها ستخلق عاصفة من الاحتجاجات -وبدأت أهاجم الجهاد الأفغاني بشراسة، وللحقّ أقول تعمدت هذا لإحراجه، وكثّفت اتهامي للإعلام العربي الذي زيّن الجهاد الأفغاني وصورهم كالملائكة، وهو العالم بحقيقة أنّ أغلبهم تجار مخدرات وشذوذ جنسي وهواة دم وقتل.
      وكان ما توقعت! فقد ثارت عاصفة الغضب ووصل غبارها إلينا، فاحتشدت مظاهرات اتحاد الطلبة-الذي يسيطر عليه حزب الإخوان المسلمين- أمام مبنى الصحيفة مطالبين بمحاسبتها، وقرروا مقاطعتها، فكان أن قامت الحكومة بعد أيام بإغلاق الصحيفة لمدة أسبوع، وازداد غضب رئيس التحرير علي فهدّدني بالفصل.
      في اليوم التالي للأحداث فُتح باب مكتبي بهدوء، ليدخل منه العم ناصر الذي تعرفت إليه بالأمس، وكان برفقته شاب في مقتبل العمر، بادرني العم ناصر بابتسامة:
      - "هل تسمح لنا بالدخول؟"
      فوجئت بزيارته ونهضت مرحبًا، وبحركة لاشعورية وجدتني أضحك وأجيبه:
      - "أنت دخلت بالفعل!"
      زال عجبي بعد أن جلس، وبلا مقدمات بدأ يتكلم بحماس للدفاع عن الشباب المتحمس، كان يضرب برؤوس أصابعه بين كلمة وأخرى على زجاج المكتب بحركة لا إرادية، الحقّ يقال أنّه كان عاقل الحديث قويّ الحجة، وهو يصحح لي معلوماتي المغلوطة-كما قال- فكنت أستمع إليه وأنا أهزّ رأسي موافقًا، وحين لمح تفهمي عادت البشاشة لوجهه، ثمّ أكمل مشيرًا إلى الشاب الواقف يرقبنا بابتسامة صامتة:
      - "عبد القادر سعودي من أصل يمني، خرج والده من اليمن هربًا من قضية ثأر، وسكن الجبال في ظروف حياتية قاسية انعكست على شخصيته، قبل أن يعمل بتهريب الذهب بين التجار والموردين في البحرين، ليصبح بعدها أحد أكبر تجار الذهب ويستوطن في السعودية.."
      - "إذن ما الذي أوصلك إلينا.."
      قلتها مداعبًا، فتابع العم ناصر حديثه نيابة عنه:
      - " طوّر والده علاقاته التجارية مع بعض الكويتيين، وأوفد عبد القادر لمتابعتها ، لكنّه رغب بالبقاء و الاستقرار هنا و سعى لطلب العلم معنا، وهو الآن بمثابة مساعد لي في إدارة المركز الدعوي."
      بابتسامة هادئة اقترب عبدالقادر من علم الكويت المعلق خلفي، وقلب الصورة لتعتدل الألوان، كان ذلك خطأً جسيمًا لم نفطن له:
      - "فَطنٌ كعادتك يا عبد القادر لا تفوتك لمحة.. وبكل هدوء.."
      وقف العم ناصر يودعني بمودّة عكست إيجابية الحوار، وهو يصرّ على أن أستجيب لدعوته لعشاءٍ في منزله، قائلاً :
      - "نحن البدو لا نقبل أن تُرفض دعوتنا للعشاء مطلقًا!"
      أمّنت على كلامه موافقًا:
      - " ولي الشرف. "
      ***
      لبّيت دعوة العم ناصر، وزرته في بيته الكائن في منطقة ( أبو حليفة) منطقة جميلة وهادئة إلى أبعد الحدود، رغم كثرة القطط والكلاب الضالّة السارحة في شوارعها، وقد تميّزت بيوتها بالطابع العمراني القديم، ورغم الإصلاحات والتحديثات في مظهرها الخارجي إلا أنّ معظمهم احتفظ أمام بيته بـ(الدكّة) تلك المساحة المرتفعة عن مستوى الأرض بمقدار نصف متر، حيث يجتمع الجيران يوميًا بعد العصر؛ التماسًا لنسمات لطيفة في الظلّ معظم أيام الصيف الحارّة.
      في ذات الوقت يسرح أولاد الفريج يلعبون الألعاب الشعبية؛ المقصي والعنبر، بينما تجتمع النسوة والأمهات في حوش المنزل لتبادل الحديث وقضاء بعض المشاغل.
      كانت الشمس تميل للغروب حين وصلت حسب وصفه للعنوان؛ إذ نبهني - كعلامة مميزة أوصلتني إليه بسهولة- أنّ منزله مقابل لمدرسة قديمة، يستخدمها موقفًا لسيارته، هبطت من سيارتي ليصادفني كلب كبير من تلك الكلاب الضالة في الفريج، وقف أمامي دون خوف، ولم يخِفني أيضًا؛ لقد علمتني مستورة ألا أخاف الكلاب، حتى لو كانت مسعورة!
      تراكض الأطفال الصغار حول سيارتي بصخبهم وضحكاتهم، في حين اجتمع آباؤهم في موعدهم اليومي على الدكّة أمام بيت أحدهم-رغم الرطوبة الشديدة- هربًا من هواء المكيفات الجاف في الداخل، وقد رصّت أمامهم أكواب الشاي والقهوة العربية، نهض العم ناصر من بين صحبه مرحبًا حين رآني وتقدمني إلى منزله، وهو يبرّر أنّه جلس اليوم فقط في انتظاري، فلا وقت عنده لتمضيته مع الرجال في أوقات العصاري.
      كان بيته مؤلفًا من طابقين، يبدأ بديوانية مستقلة فرشت - كما البيت كله والسلم - بسجاد من اللون الفاقع، وحوله حوش كبير، تصبّ فيه مكيفات الشبّاك القديمة- ذات الأصوات الهادرة - ماءها الغزير بفعل الرطوبة العالية!
      عندما تتأمل المنزل تجده -كغيره من البيوت حوله-خليطًا من البناء، كأنّه مزيج من زمنين القديم في الستينيات، والحديث في الثمانينات، تزينه الأبواب والشبابيك الخشبية القديمة، التي تفوح بعبق الماضي وتشي بفخامة الصنعة وإتقانها.
      احتفى بي الرجل الكريم على طريقته الخاصة، بدا لي مختلفًا عن ذلك الإنسان الجادّ الذي يجالسنا في الديوانية، حدثني عن نفسه وعن ولعه الشديد بطهي أطباق اللحم، وثمار البحر بكل أشكالها بيده، وكيف كان أيضًا يختار توابلها بعناية فائقة، اتفقت معه على حبّ الطعام، إذ كانت عندي مَلَكة تذوق أطايب المآكل.
      كان عشاؤنا مكونًا من (القوزي) الذي أشرف بنفسه على تحضيره، شعرت بالزهو حقًا وأنا أرى نفسي في مقام التكريم، وقد أخذ يصف لي -أثناء تناولنا العشاء -بفخر طبقه المفضل الذي يتقن صنعه:
      - "لن تتذوق في حياتك ألذّ وأشهى من طبق المربين الذي أصنعه من الأرز ، والروبيان الطازج، البعض يطبخه بالروبيان المجفّف، لكن أنا لا آكله إلا طازجًا، سأدعوك لتذوقه يومًا".
      حضر عبد القادر العشاء معنا، وبعده جلسنا نشرب الشاي، لاحظت الذكاء الذي يتمتع به من خلال حديثه المتواصل؛ فكان يبدو متشعب الأفكار لوفرة معلوماته، كان العم ناصر مستلقيًا نصف استلقاء على جنبه، أخرج من جيبه قطعة من السّواك وضعها في فمه وراح يمضغها ببطء، وهو يقول:
      - "عبد القادر شاب طموح، ونشيط يهتمّ جدًا بعمله، وسيعجبك أداؤه إن كنت ترغب بمتابعة أخبار المركز الإعلامية، والاستفادة من خبراته."
      (أظن أنّ مقصد الرجل كان أن أبقى وكتاباتي تحت نظره، ولا أشطط بعيدًا!)
      ***
      التعديل الأخير تم بواسطة سعد فهيد العجمي; الساعة 11-12-2015, 14:27.

      تعليق

      • سعد فهيد العجمي
        أديب وكاتب
        • 02-12-2015
        • 54

        #4
        إنصافًا لعبد القادر أعترف أنّه ساعدني بذكائه وسرعة بديهته في أمور كثيرة، خاصة بعد ردّة الفعل العنيفة التي أدّت إلى عرقلة أعمال صحيفتنا، فاقترح علي سرعة الاعتذار وسحب مقالتي، بل وأن تقوم الصحيفة بالتبرع لبناء مشفى هدية للشعب الأفغاني، ودعمًا وتأييدًا له، أيضًا انتبهت لفطنته لما حاولت الصحيفة - فيما بعد- رفع سعرها لتعويض الانخفاض في المبيعات رغم الحرص على التوزيع، وانتشار باعة الصحف على إشارات المرور في معظم الشوارع تلك الفترة بالذات، و كان له رأي مميز:
        - "رفع سعر الصحيفة ليست سياسة حكيمة، أعتقد أنّه من أجل تكوين قاعدة جماهيرية يجب تثبيت السعر إن لم نقل تخفيضه."
        تأملته ورأسي تميل إلى جنب، وقد أمسكت بالسيجار بين إصبعين بزاوية فمي، كعادتي:
        - "وبماذا يفيدنا تثبيت السعر هذا أمام موجة الغلاء مع ما ترى من تطوير وتكلفة؟"
        - "سيكون جاذبًا قويًا للمعلنين، وبالتالي فالإعلانات سترفع مبيعات الصحيفة، وتشكل موردًا جيدًا لها يغطي تكاليفها وتزيد من مبيعاتها."
        - "يبدو أنّ لك وجهة نظر سديدة، ماذا تقترح؟"
        - " يجب المحافظة على السعر المقبول، هذا إن لم يُخفض بعروض مغرية للقراء."
        طرحت الفكرة على مجلس إدارة الصحيفة بنفسي، وحققنا بتطبيقها نجاحًا جيدًا ونلت مكافأتي، لذا رغبت بشدّة في وجود عبد القادر معي، رغم أنّ طموحه أخافني نوعًا ما- لكني فيما بعد رسمتُ له المناطق التي يُسمح له بالتدخل فيها؛ مهمّات صغيرة لا تتطلب ذكاء ولا خبرة.. فقط لا أكثر!
        ***
        أصبح عبد القادر شبه مرافق لي في معظم تحقيقاتي الصحفية، فاصطحبته معي إلى النادي الثقافي، حيث تولّت صحيفتنا مهمّة رعاية الموهوبين في كتابة المسرحيات- بناء على رغبة ياسر- أثناء العطلة الصيفية، وهناك التقيت لأول مرة (أميرة عبد الرحمن النافع)
        اسم أثار فضولي في قائمة المشاركين في العرض، ورغبت أن أتأكد من صدق حدسي؛ فتوجهت إلى مكتبة النادي حيث يتجمع الشباب المشارك، كانت تجلس هناك بهدوء تطالع كتابًا، أحدثتُ جلبة لحظة دخولي إلى المكتبة؛ فرفعت إلي وجهًا دقيق الملامح، وألقت نظرة خاطفة نحوي ثمّ عادت إلى صفحات كتابها، للحظة برقت تلك العينان في ذهني، خيّل إلي أني أعرفهما جيدًا، فاقتربت منها و بادرتها:
        - "هل لي أن أتشرف بمعرفة اسم الآنسة؟"
        نظرت إلى باستغراب، رافعة حواجبها الدقيقة في دهشة، قلت لها مطمئنًا:
        - "عذرًا لم أعرفك بنفسي، أنا الصحفي المسؤول عن مسابقة الطلائع هنا"
        أغلقت كتابها، فيما انفرجت أساريرها بعفوية، وهي تقول:
        - "آه نعم، أنا أميرة عبد الرحمن "
        قطّبت جبيني وأنا أنطق الاسم كاملًا:
        - "غير معقول! أنتِ ابنة عبد الرحمن النافع؟"
        بدت ملامحها أكثر انسيابية وراحة، وهي تومي برأسها موافقة؛ تنفست الصّعداء قائلاً:
        - " رحمه الله كان صديقًا، علمت بخبر استشهاده في حرب 73 "
        أطرقت في حرج، وربما كانت تحاول التغلب على تأثرها، فتابعتُ تأكيدًا لمعرفتي به:
        - " أذكر يومها أنّي كنت على مائدة طعام أحدهم، و كادت الغصّة أن تودي بي.."
        - "هل تعرفه معرفة جيدة؟"
        - "أجل، أعرفه من سنوات طويلة، فشقيقه ياسر زوج خالتي!"
        - " عمّي ياسر؟!"
        قالتها بتلقائية مدهشة.
        - "أجل قبل أن تختلف مشاربنا.. ونفترق.."
        - "يبدو أن عمّي يكوِّن عداوات أينما حلّ!"
        وافقت قولها:
        - "إنه موهوب في ذلك.. أعترف له بها!"
        أطلقتْ ضحكة صافية.. خمّنت بعدها أننا سنغدو صديقين؛ خاصة حين علمت أنّها تكتب بعض التحقيقات لمجلة زميلة.
        ومنعًا للتشويش على الآخرين خرجنا من المكتبة إلى مقهى النادي لنواصل حديثنا، حيث كان عبد القادر في انتظاري، كان الجو حولنا مكتومًا -رغم المكيّفات – بسبب حرارة الجو الشديدة والازدحام في المكان ، وسحب دخان السجائر، وقد امتلأت الطاولات بروّاد المقهى المشغولين بنقاشات وأحاديث مختلفة.
        عرّفتها بعبد القادر وجلسنا نشرب قهوتنا، كانت تبدو فتاة رقيقة، سنوات عمرها لم تتجاوز عقدها الثاني، شعرت أنها اطمأنت لصحبتي بحكم معرفتي بوالدها، فبدأت تتحدث و هي تعبث لا شعوريًا بقفل محفظتها في حركة عكست مقدار توترها، أنصتنا باهتمام وهي تروي قصتها، حدثتني عن سوء معاملة أهل أبيها، وتجاهل عمّها ياسر لهم، وكيف أنّها اعتزلت وأمّها الحياة الاجتماعية بسبب عدم اعترافهم بها، واسيتها بقولي:
        - "لستُ بحاجة طبعًا لمن يعرفني أخلاق ياسر، وطباع خالتي العزيزة! "
        كان يبدو من ملامحها أنّها تأمل بعض العون مني؛ فختمت حديثها بقولها :
        - "لولا وجود نصف العقد معي لنسيت أنّي أنتمي إليهم! "
        نظرت إليها مستفهمًا؛ فروت لي قصة هذا العقد الأثري:
        (عقد ذو قيمة فنية وتاريخية -فضلاً عن قيمته المادية الثمينة-يختصّ بعائلة أبيها، وذات يوم قررت الأم الكبيرة أن تقسم العقد بين ولديها ياسر وعبد الرحمن، وأوصتهما بالحفاظ عليه؛ لعله يبقى رابط مودة يجبرها كلما انقطعت أواصرها بينهما، نال ياسر نصف العقد وكذلك عبد الرحمن، وبعد استشهاده ظلّ نصف العقد مع ابنته أميرة.)
        أعجبتني القصة، و أيضًا أنصت عبد القادر باهتمام شديد بحكم تلازم المصالح، بينما تناوبت شياطين عقلي على ما سمعت؛ نصف عقد ثمين يملكه ياسر ولا يمكنه التصرف فيه، ومفتاح الحل مع أميرة!
        (لا أدري لمَ .. وللحظات خطرت في ذهني مستورة ، تلك المشعوذة التي كادت تدمّر مستقبلي يومًا!)
        إن هي إلا أيام ... حتى أمسكنا بطرف الخيط!
        ***

        تعليق

        • سعد فهيد العجمي
          أديب وكاتب
          • 02-12-2015
          • 54

          #5
          عدت إلى شقتي التي أرتاح في أرجائها، كانت ويندي هي من اختارت أثاثها الأنيق المريح، ورتبته حسب ذوقها، كما أصرّت على اللون الأزرق الذي تفضله، وعاشت فيها معي منذ زواجنا الذي تمّ قبل عامين -إثر تعارف سريع- أثناء تغطيتنا لحادثة تفجير السفارة الأمريكية، وإلى وقت قريب كنّا أسرة صغيرة جميلة، لكنها قرّرت من نفسها الرحيل.
          أمضيت بعد سفرها معظم أيامي وحيدًا، لا صحبة لي إلا صحيفتي والمسجّل الذي لم يكن يتوقف إلا عند النوم كي لا أستسلم للتفكير، ولأتجنّب صخب هذا الضيف المقيم في الحجرة المجاورة، لا يهدأ إلا عندما يهدّه النعاس، منذ أن جاءني كسير النفس ولم يجد له ملاذًا سوى بيتي.
          فتحت باب غرفته بهدوء -كعادتي -كلما سكت صخبه، لأطمئن أنّه مازال على قيد الحياة، فوجدته مكوّمًا على سريره وقد ضم ركبتيه في وضع الجنين كمن يلتمس حنان أمّ لم يرَها، توقفت لبرهة.. كان منظره أدعى أن ترثي لحاله ومع ذلك لم يؤثّر بي، ربما لأنه فقد احترام الجميع من زمن بعيد، وغدا منبوذًا بسبب سوء سلوكه، ثمّ خسارته كل أمواله في الأسهم في أزمة سوق المناخ الاقتصادية.
          أغلقت الباب وسرت إلى غرفتي، وشغّلت المسجّل فور دخولي لتملأ سمعي إحدى المعزوفات الموسيقية العالمية، التي ألِفتُها منذ أن كان ياسر يسمعها يوميًا، ثم أحببتها أكثر في المساءات التي كانت ويندي تساهرني على أنغامها.
          احتلّ خالي حسن غرفة النوم الأخرى، بينما جعلتُ الصالة للجلوس بمقاعدها العريضة المريحة، وجهاز تلفاز من الحجم الكبير، وأبقيتُ غرفة المكتب لخصوصيتي لا أسمح له بالاقتراب منها؛ فكنت أنفرد فيها بنفسي لمتابعة عملي والمطالعة، بعيدًا عن ضجته التي لم تعد تفارق حياتي .
          ذات يوم عدت إلى المنزل باكرًا على غير عادتي؛ فوجئت بالفوضى تعمّ المنزل وكان بعض الأثاث مقلوبًا كأنّ البيت قد تعرض لهجوم ما، بحثت عن الخادمة الآسيوية فلم أجدها ولم أجد حقيبة ملابسها؛ فخمّنت ما حصل، دخلت غرفته لأستفسر منه فوجدته في غير وعيه، وأدركت أنه قد عاد إلى سابق عهده وتحرّش بها، ثارت ثائرتي وصرخت في وجهه حين راح يبرّر لنفسه مختلقًا الأكاذيب، ودار بيننا نقاش عنيف:
          - "أين الخادمة؟ ماذا فعلتَ؟"
          - "لم أرَ أحدا.. هذه مجرد لصّة، ربما سرقت شيئًا وهربت.."
          كانت ثورتي عارمة:
          - " لا أصدقك! لقد عدتَ إلى عادتك القديمة، أراهن أنّها هجرت البيت بسببك.. "
          - "أتتهمني بخادمة؟! أنت تريد أن تخرجني من بيتك، قلها ولا تماري.."
          - "لستَ سوى مدمن على المسكرات وملاحقته النساء.. وليست هذه المرة الأولى .."
          - "أنا أنظر لهذه القبيحة ؟ ألم ترَ أسنانها النافرة من بين شفتيها.."
          - " ما عدت أحتمل وجودك هنا، زدتني همّا فوق همّي، أنت إنسان يعاني المرض ليس في صحته، بل في عقله وسلوكه!"
          - "من منّا مريض في عقله؟ أنا.. أمَّن يمضي وقته في تلميع صدّام ونظامه؟
          - "وما دخلك أنت بعملي؟!"
          - "ستذكر كلمتي يومًا: الوحش عندما ينهشه الجوع يهاجم أقرب الناس إليه.. وربما يأكل أولاده!"
          أغلقت الباب بعنف عكس ثورتي العارمة، لولا حاله البائس لرميت به خارج شقتي، لكنّ بقية من رحمة.. وربما مودّة قربى .. أسكتتني.
          حلّ المساء وأنا في غرفتي لم أخرج منها، زاد إزعاج خالي من وجعي، ربّما كانت كل تصرفاتي ردّة فعل لروايات الرعب التي كانت أمّي تختلقها؛ لتخيفني وتردعني عن مغامراتي المجنونة.. كنا صغارًا وكانت تجمعنا حولها في ليالي الشتاء، تحكي لنا من الحكايا ما تشيب له الرؤوس، و رغم شقاوتي كنت أخاف من الطنطل... ذلك المخلوق الغريب أسود الجسم، كثّ الشعر، وعندما يمشي يُسمع وقع أقدامه خاصة في الليل، ولطالما كنت أرتجف رعبًا كلما سمعت وقع أقدامٍ في الليل!
          تسارع نبضي وأنفاسي، وتسمّرت حدقتا عيني والطنطل يسخر مني، و يهزّ عصاه في وجهي (ها قد جاءك ما يقلق منامك وسيشوه وجوده معك سمعتك.. وقد بقيت وحيدًا لا زوجة لك ولا ولد) بدا كمن سيضربني.. لكنه لم يفعل!
          سامحكِ الله يا أمّي!
          آلمني حالي؛ إلى متى أتصنّع السعادة وأداوي جراحي بالصبر!؟ أثارت الألحان الحزينة في قلبي بعض الشجن، ضاق صدري وخنقتني عبراتي، ورغمًا عني.. سالت دموعي على استحياء!
          ***
          وضعت كوب الشاي على المكتب وأطفأت لفافتي، ونهضت لاستقبال أميرة حين لاحظت ترددها في الدخول، كانت وجنتاها كتفاحتين حمراوين، لا أدري بفعل حرارة الجو أم الخجل، لكنها كانت تبدو كطفلة كبيرة وهي تلقي التحية بصوت لاهث، جلست واضعة محفظة رمادية اللون في حجرها، كانت تمسك بها بعناية، طلبت لها كوب عصير بارد يهدّئ من روعها، ريثما يصل الضيفان الموعودان، وبعد أن ارتاحت نبرات صوتها سألتني عنهما.. نظرت إلى ساعتي لأجد عقربيها وقد تطابقا حين لمحتهما قادمين، يا لها من دقّة مدهشة!
          نهضت لاستقبالهما وتقديمهما لأميرة :
          - "ها هما ضيفانا، هذا السيد موذي والسيدة سيتا، من الهند"
          صافحتهما الفتاة بأدب، وتابعت التعريف بهما:
          - "إنهما خبيران لهما مكانتهما، ومختصّان في المجوهرات الأثرية "
          قالت سيتا بلغة عربية فصحى:
          - "أشكر لك مجاملتك يا سيد جاسم"
          أدهشتها إجادة سيتا للغة العربية، بينما انحنى السيد موذي مبتسمًا، ليوحي لها أنّه فهم ترحيبها. دعوتهما للجلوس فجلسا متجاورين، واعتذرت سيتا أنّ وقتهما ضيق وتريد أن ترى ما لدينا.
          فتحت أميرة حقيبة يدها، وسحبت منها بتؤدة علبة مغلفة بقماش مخملي قديم، حولّه الزمن إلى درجات متفاوتة، فتحتها لتخرج منها نصف العقد الثمين.. أعجبني حرصها وأنا أتابعها ببصري..
          أخرج السيد موذي نظارته المكبرة من جيبه ووضعها على عينيه بعناية، فيما أحنت سيتا رأسها بمكبّرة في يدها، وراح الاثنان يحدّقان في نصف العقد بإمعان، وبدا على وجهيهما اهتمام حقيقي، في حين أدرت (الكاميرا الفيديو )الثقيلة ذات الشريط (بيتامكس)
          - "يبدو أنّه عقد ثمين بالفعل ذو قيمة عالية!"
          مسحتْ سيتا وجه أميرة بنظرة ثاقبة:
          - "هل تعرفين من يملك النصف الآخر؟"
          بدت أميرة حائرة، تأملتْ العقد في سكون، ثم رفعت رأسها محدّقة في عيني كالمستغيث؛ تداركتُ الأمر فورًا وأجبت بابتسامة:
          - "أشكركما وأرجو أنّ لنا لقاء آخر، فإنّ أميرة تعدّ بعض التقارير لمجلة اجتماعية هامّة هنا، و نطمع بحوارٍ مثمرٍ معكما قبل ذهابكما للبحرين"
          انفرجت أسارير الفتاة، ونظرت إلي بدهشة كأنها تجاوبت مع أفكاري، بدونا كطائرين قدما من هجرةٍ واحدة، بينما أبدت سيتا موافقتها بهزّة من رأسها، وابتسامة واسعة ترسم على شفتيها وهي تمعن النظر في العقد مرة أخرى.
          غادر الضيفان، وجلست أشرح لأميرة غايتي، أو بالأحرى لنتفق على صيد ثمين مشترك.. وحين انتهيت نظرت إلي أميرة بانبهار:
          - " لم تخطر ببالي أبدًا فكرة مجنونة كهذه، ولكني بالتأكيد سأنفّذها!"
          ها قد عدنا إلى أيام المرح!
          (ياسر.. أيها الانتهازي المتسلّق! حانت ساعة القصاص سانحة بلا سابق موعد، أتراها الصدفة أم تدبير ربّ العباد؟ لألقنك درسًا في التفوق يقتل غرورك الأحمق!)
          ***

          تعليق

          • سعد فهيد العجمي
            أديب وكاتب
            • 02-12-2015
            • 54

            #6
            رجعت أميرة ذلك اليوم تتواثب خطواتها عن الأرض تكاد تطير فرحًا، كانت تقطن منزلًا قديمًا مع والدتها وجدّتها لأمّها في منطقة حولّي، وسط جوارٍ من الغالبية الفلسطينية، منهم أبو أثير مرافق عمّها ياسر، وكانت تراه دائمًا وهو يتبختر أمامها، ويتجول بسيارة عمّها غير عابئٍ بإحساسها!
            تنتمي أميرة في الأصل لواحدة من كبريات العائلات الكويتية، المقيمة في فيلّا فخمة في ضاحية عبد الله السالم الأنيقة ببيوتها وطرقاتها، وكان من المفروض أن تنشأ أميرة هناك وسطهم ، لكن قصة الحبّ التي نسجت خيوطها بين والديها عبد الرحمن وسليمة، لم تُكلّل بالرضا من عائلة أبيها المرموقة لانتماء أمّها للمذهب الشيعي، فضربا بهذا المعارضة عرض الحائط وتزوجا، فكان أن نبذتهما العائلة، وابتعدا ليواجها رياح الأيام بمفردهما، و وجدها ياسر فرصة سانحة أيضًا ليستولي على الإرث بمفرده.
            كان الفاصل بين بيت أميرة ذي الطراز العربي، و بيت جارتها عالية جدار منخفض، وغالبًا ما كانت تصعد السلم لتسأل من فوقه عن صديقها المعاق ذهنيًا فهد، الفتى الذي جعلها حبّها لبراءته وعفويته أن تضعه في أولى اهتماماتها، بجوار مسرحها الذي تهوى.
            فتحت الباب واجتازت صحن الدار الصغير وهي تنادي أمّها بفرح، وحين لم تجدها توجّهت -كعادتها - كلما ألمَّ بها فرح أو حزن إلى حجرتها تتأمل بعين الرضا صورة لوالدها على الجدار المقابل لسريرها، بلونها المصفرّ المميز لصور تلك الفترة، وهو يطلّ عليها بابتسامته الدافئة، وقفت أمامها تحكي فرحتها بعينيها، وشعور بالزهو يملأ كيانها، ألقت نظرة بعدها على صورة أخرى بجوارها لعملاق المسرح الكويتي صقر الرشود، الذي كانت تعجب به وتتمنى السير على خطاه ، ثمّ خرجت تبحث عن أمّها.
            تناهى إلى مسامعها صخبٌ قادم من خلف الجدار، فخرجت إلى بيت الجارة لعلها تجد أمّها عندهم.
            بادرتها عالية فور وصولها:
            - "أميرة.. أخيرًا!"
            - "ما الخطب يا خالة؟"
            أفسحت لها عالية الطريق لتدخل بتلقائية اعتادتها:
            - "إنه لا ينفكّ يسأل عنكِ منذ الصباح! "
            قالت ضاحكة:
            - " تعال يا فهد، لقد وصلتُ البيت منذ قليل "
            ثمّ تابعت:
            - "ظننت أنّي سأجد أمّي عندك.."
            - "لمحتها وهي خارجة مسرعة منذ حوالي الساعة، ولم تقف لتكلمني كالعادة.."
            - "أمر غريب، فهي لم تخبرني أنّها ستخرج لأيّ مكان.."
            أقبل فهد وما أن رأى أميرة حتى راح يقفز فرحًا، مدّ يده مصافحًا ولم يعدها في أنفه كما اجتهدت في تدريبه، ثمّ رسم لها في الهواء شكل مربع يتبعه الانحناء ركوعًا إشارة إلى رغبته بمسرحها الخيالي، قالت أمه متأثرة بسعادته:
            - "لا أدري كيف يتجاوب معكِ هكذا "
            - " يريد أن نلهو بمسرحية اليوم كما اعتدنا"
            كانت عالية -كالعادة - قد جهزت لهم الجلسة وهي تنتظر قدوم أميرة، فهناك برنامج يوميّ هنا عندما تبدأ برامج التلفاز ويباشر بعرض الرسوم المتحركة، فيتجمع الأطفال عند فهد، كان يفتخر أمامهم بأن أميرة علمته كيف يدير(إيريال) التلفاز ذي الساعة الذي يجذب القنوات الفضائية، وكيف يفتح الجهاز ليشاهد رسومه المتحركة المفضلة.
            ولشدّة فرحة فهد بهم لم تملك عالية أن تعترض رغم انزعاجها من صراخ الأطفال، فكان الحل أن تجالسهم أميرة ذات الروح الطفولية والتي تعشق الرسوم المتحركة، فتتابعها وتضحك معهم من أعماقها، بينما تنسحب عالية إلى منزل أميرة، لترافق أمّها في متابعة المسلسل اليومي الذي يعرض على القناة الوحيدة.
            فهد فتى في سنّ الثانية عشر، يملك عقل طفلٍ في جثة ضخمة بالنسبة لأترابه ، كان يتجاوب مع حنان أميرة ويشعر بدفء محبتها، فقد اعتاد على رعايتها له منذ بداية وعيه، حين كانت أمّه تعمل مع فرقة (الطقاقة) أم سارة لإحياء الأفراح وتضطر لتركه عند أميرة، فكبر وهو لا يضحك إلا لها وقد تعلم منها كل شيء، حتى طريقة أكله وشرابه، وليست مبالغة أنّ أميرة تذوقت معه إحساس الأمومة رغم صغر سنّها، ولتسكت غضبه أمسكت بيديه كما تفعل كل يوم وراحت تقفز معه وتدور وهي تغنّي، فيدور فهد معها ويضحك من أعماقه فتضحك هي بسعادة.
            تأملت عالية المشهد بشيء من الأسى:
            - "لقد عوضه اهتمامكِ يا أميرة بعض الشيء عن محبّة أبٍ هجره بعد مولده بفترة، عندما لاحظ عدم استجابته للأصوات والحركة، لقد خشي أن تكون ذريّته كلها مثله!"
            توقف فهد وبدأ يصيح ويردّد أمام أميرة بإلحاح:
            - "كراش! كراش!"
            - "ليس الآن يا فهد!"
            كرّر في عناد:
            - "كراش! كراش!"
            اطمأنت عالية أنّ فهد سينسجم بلعبته المفضلة مع أميرة، فدخلت المطبخ لتعدّ لهم الشاي، دخلت أميرة غرفته وفتحت خزانته الصغيرة، أخرجتْ منها مجموعة من الدمى وأعطته دميته "كراش!" فتناولها بيديه الاثنتين فرحًا.. لابد أنكم عرفتم ذلك المشروب الغازيّ، لقد ألبست أميرة الزجاجة الفارغة ثوبًا من ورقٍ ملون؛ وصنعت له دميته المفضّلة.
            رغم إعاقته الذهنية كان فهد يتمتع بميزة فريدة، مثل كثير من أمثاله فتراهم يبدعون في مجالات محددة، وببراعة مذهلة نجح في التعبير بالرسم عن خفايا نفسه وتطلعاته التي يعجز عن إيضاحها، علمته أميرة ذلك من صغره، فصار يرسم فرحه وحزنه.. حبّه ونفوره، لكنّه ما كان يعرف الكراهية أبدًا.
            تقمصت أميرة وفهد نفس الأدوار التي كانا يؤديانها كل يوم، كانت تمثّل وتتكلم وفهد يمثّل ويتجاوب ويحرك الدمى، وكأنّه درس أتقنَ تفاصيله بحذافيرها، فجأة .. ارتفع صوت بائع المثلجات من خلف النافذة، فسارع فهد بقطع المسرحية والخروج إليه وهو يكاد يطير فرحًا، توقفت باسمة من تصرفه .. لا يمكن لفهد أن يتمالك نفسه حين يحضر بائع المثلجات..
            عادت عالية حاملة آنية الشاي، كانت كعادتها تكمل حديثها وهي تسير، وكأنك متابع معها الكلام منذ بدايته، وضعت الصينية بما حملت على طاولة صغيرة، وجرّت كرسيًا صغيرًا إلى جوار أميرة:
            - " ماهي أخبارك مع عمّك؟"
            فاجأ السؤال -الذي لم يكن في محله- أميرة:
            - "عمّي ياسر؟"
            أومأت عالية برأسها وهى ترتشف الشاي من كوبها، فسألتها:
            - "أمر غريب! وما الذي ذكرك بعمّي الآن؟!"
            ارتبكت قليلاً ثم قالت:
            - لاحظت أنّكِ منذ فترة لم تذكريه، على غير عادتك...
            أثارت ملاحظة عالية شجونها، وكأنّها نَكَأَت جرحًا قديمًا:
            - "التواصل بيننا مفقود منذ فترة طويلة.. لا أدري كيف يفكر عمّي! إنه يظن أني أسعى إليه من أجل المال، بينما كل ما أريده هو القليل من الدفء العائلي وليس أكثر!"
            قطعت عودة فهد الحديث، كان يبدو مسرورًا بما نال من أكل المثلجات، فنهضت أميرة قائلة:
            - "والآن، يا فهد سنقوم بتبادل الأدوار في مسرحيتنا".
            كانت نفس المسرحية التي قدمتها للمسابقة في ذلك اليوم، والتي تتحدث عن فتاة ظُلمتْ من عائلتها، ومن أجل أن تعيد العلاقات معهم من جديد تقوم بالتنازل عن حقّها من إرث والدها، لشراء اسم العائلة.
            لقد أرادت أن تبلغ العم رسالة واضحة، أنّها لا تكترث بالمال البتّة، وأنّ جُلّ ما يهمها هو ألا تشعر أنّها بلا جذور!
            لكنّ شيئًا ما حدث ذلك اليوم، قلب الأمور رأسًا على عقب.

            تعليق

            • سعد فهيد العجمي
              أديب وكاتب
              • 02-12-2015
              • 54

              #7
              حين عندما عادت أميرة للمنزل كانت أمّها تتحدث وتبكي وتشتم بشكل هستيري، لم ترها هكذا من قبل!
              ما أن لمحتها قادمة حتى وضعت سماعة الهاتف بعصبية وهى تكفكف دموعها.
              "أمّي ما الأمر؟! وأين ذهبتِ ولم تخبريني ؟كنت أبحث عنكِ!"
              تجاهلتْ أمّها السؤال، وردّت بسؤال آخر:
              - "هل قدّمتِ المسرحية للنادي؟"
              قالت أميرة وهي تخرج منديلها وتمسح به دموع أمّها وهي تغالب البكاء:
              - "أجل فعلت، والآن أخبريني من الذي كنت تحدثينه؟"
              لاحت علامات القهر على وجهها:
              - "إدريس"
              - "ابن خالتك؟"
              - "إنّه هو ذلك النذل!"
              - "ماذا فعل؟ لم أسمعكِ من قبل تذكرينه بسوء!"
              - "لقد خدعني!"
              - "كيف؟"
              - "كنت أستدين منه"
              بدت كمن لُطمت على وجهها:
              - "أمّاه!"
              لوّحت أمّها بيديها بعصبية:
              - "المعيشة غالية، ومعاش والدك الراحل لا يكفي متطلبات البيت و مصاريفك الباهظة، وإدريس مقتدر ولم يمانع إقراضي لحين ميسرة."
              - "وما مشكلته اليوم؟!"
              "كتب علي إيصالات أمانة بكل مبلغ آخذه منه واليوم يطالبني بها"
              أُسقط في يد أميرة فانهارت على الكرسي:
              - "آه يا أمّي! كل ذلك البذخ كان ديونًا!"
              واصلت سليمة بكاءها:
              - "لقد أبلغني منذ قليل بأني إن لم أسدّد ما علي؛ فسوف يقدم الإيصالات للشرطة!"
              - "ما هذا القول! هل أصابه الجنون؟"
              - "إنه نذل، أنا قريبته لذا يفترض أن يصبر قليلًا حتى أسدّد له ماله!"
              سألتها بنبرة عاتبة:
              - "وماذا سنفعل الآن؟"
              - "لا أعرف يا ابنتي الحالة صعبة، يجب أن أفعل شيئًا ما!"
              أطرقت في وجوم.. أكثر من جمال العينين كان العامل المشترك بينهما؛ إذ كانتا تشتركان بالإسراف و حبّ التبذير!
              فجأة لمعت في ذهنها بوارق أمل، فمسحت على رأس أمّها مواسية، ثمّ دخلت غرفتها!
              ***
              كانت شمس اليوم صارخة حين صحت أميرة، نهضت بتكاسل والغصة تكاد تطبق على أنفاسها بسبب قصة إدريس وتهديده، غسلت وجهها وجفنيها المنتفخين بسبب بكائها أمس، ثم دخلت المطبخ لتعدّ لنفسها بعض القهوة لعلها تغالب آلامها، لم تكن أمّها كعادتها في المطبخ، فلم تجد في نفسها شهية لتناول إفطارها، اقتربت من غرفة أمّها لتتأكد أنها مازالت نائمة، وبدون تردّد ارتدت ملابسها على عجل وقد طرأت على ذهنها فكرة؛ فخرجت إلى الشارع تنتظر سيارة أجرة .
              لم تكن تملك وسيلة أخرى تلتمس فيها أية خطوة للسعادة، فلعلها تجد هناك خبرًا صغيرًا يزيح القليل من الكآبة التي عششتْ في روحها، في وقت بدا وكأنّ الأشخاص والظروف تتكاتف لتسدل المزيد من الظلمة حولها!
              حين توقفت السيارة أمام النادي رأت قوات الشرطة الكويتية تطوّق المكان؛ خفق قلبها قلقًا وهى تُسرع الخطى للداخل:
              " ماذا حدث؟"
              سألت أحدهم فردّ عليها بتوتر:
              "لقد قامت الحكومة بإغلاق النادي!"
              "ولكن لماذا؟"
              "لأنّ النادي لم يُعيِّن مجلسًا جديدًا منذ حلّ المجلس السابق"
              "كان ذلك منذ عام، أليس كذلك؟"
              أومأ الرجل برأسه ثم واصل طريقه.. لكن الحقيقة خلاف ذلك، فقد كانت تلك سلسلة إجراءات اتخذتها الحكومة بعد سلسلة التفجيرات التي هزّت الكويت في تلك الفترة العصيبة، حتى وصلت لمحاولة اغتيال الأمير الذي نجا بمعجزة إلهية من الموت آنذاك.
              وقبل أن تقفل عائدة وجدتْ كومة كبيرة من الأوراق ترقد في ساحة النادي، وبذعرٍ سألت رجلاً يقف بجوارها:
              "ما هذه الأوراق؟"
              "إنّها كل ما يتعلق بالنادي.. ابتعدي قليلًا".
              توقف عقلها للحظات قبل أن يخرج الرجل من جيبه عود ثقاب.. هنا فُكّ عقال إدراكها لتنتبه أن مسرحيتها الأولى التي سهرت عليها الليالي الطويلة قد تكون من محتويات تلك الكومة، جنّ جنونها حين رأت عود الثقاب يشعل نارًا، انتشرت بتسارع لتأكل جهدهم، وتلتهم آخر آمالها ، لحظات قليلة وتحولت الكومة لرماد، أرادت أن تبكي فلم تستطع، تجمدت الدموع في مآقيها، فتحركت بآليّة مغادرة المكان في ثوان.. قبل أن تصل إلى الشارع صرخت أعماقها بمنتهى الألم:
              (كثرت الخطوب، ساعدني يا إلهي! )
              ***

              تعليق

              • سعد فهيد العجمي
                أديب وكاتب
                • 02-12-2015
                • 54

                #8
                بلا تفكير وجدت نفسها تقف أمام فيلا عمّها ياسر في ضاحية عبد الله السالم، تلك المنطقة الراقية ببيوتها الجميلة وحدائقها مشذّبة الأسوار، وشجيرات الورد والنوافير التي تتوزع فيها، تردّدت كثيرًا ما بين الإقدام أو العودة، وهي تحدّق في البوابة التي فتحت فجأة قبل أن تطرقها؛ ليبرز منها وجه تعرفه جيدًا...
                شهقت بذهول:
                - "أمّي!"
                كانت سليمة خارجة وهي تبكي بحرقة بالغة، وخلفها ظهر رجل ضخم مفتول العضلات، رماها بنظرة نارية، تساءلت الاثنتان في آنٍ واحد:
                - "ما الذى جاء بكِ إلى هنا ؟"
                تابعت أميرة بدهشة كبيرة:
                - "لكن .. أمّي ظننتُ أني تركتكِ نائمة .."
                قالت أمّها بعصبية:
                - "أيّ نوم وهو يهدّدني، دعينا نترك هذا المكان القبيح أولًا!"
                ابتسم الضخم بفظاظة وهو يغلق الباب خلفهما بقوّة.
                - "لا تخبريني أنكِ أتيتِ من أجل الاستدانة من عمّي؟"
                انفجرت أمّها في الضحك بهستيريا:
                - "لا، عمّك المحترم يخبرني بالحقيقة عارية من غير رتوش"
                - "أية حقيقة؟"
                - " أنّه من اتفق مع إدريس من أجل إغراقي في الديون!"
                ندّت عنها صرخة مكتومة:
                - "مستحيل!"
                - "هذا ما حدث يا ابنتي إلى هذه الدرجة أصبح العالم قبيحًا!"
                لم تعد أميرة تحتمل الإهانات؛ عادت إلى منزل عمّها مسرعة، وشرعتْ في الدقّ على الباب بقبضتي يديها وبكل قواها، فُتح الباب وبرز منه وجه الضخم الغاضب فدفعته بعصبية، جُنّ جنون الرجل، وبدا من حركة يديه أنّه سيتهور؛ لولا أن صوت ياسر الصارم ارتفع من بعيد:
                - "صادق!"
                تجمّد صادق في مكانه، بينما اندفعت أميرة بغضب، وفي لحظات توسطت الصالة وهي تصرخ؛ والكلام يتدفق من بين شفتيها كالحمم:
                - "لا أعرف ما سرّ ذلك الكره الذى تحمله لنا أنا وأمّي! ماذا جنينا لتفعل هذا بنا؟"
                ارتعش جفناه بعصبية خلف النظارة السوداء، لكنّه قال بذات البرود:
                - "ماذا تريدين؟"
                - "حقّي.. وحق أمّي الذى أكلته ظلمًا وعدوانًا"
                - "ما لكما عندي من حقّ، بل أنتما مدينتان لي في الواقع!"
                طاش صوابها وهي تدير عينيها في المكان، أثاث فخم وسجاد فاخر، وابنته الصغيرة تجلس إلى لعبة (الأتاري) الحديثة؛ تلهو دون اكتراث بما يجري- كم كانت تحلم بمثل هذه اللعبة - بينما نظرت ابنته الكبرى دلال إليها نظرة باردة، دون أن تنطق، صمتت أميرة فجأة؛ وقد شعرت أنّ المكان ليس مكانها، وأنهم ليسوا أهلها، هم لديهم كل شيء وهي لا تملك شيئًا، والبون شاسع بين هذا البذخ وحياتها المتقشفة؛ بينما حقها ضائع عندهم، أرادت فقط الهروب من وجه عمّها السمج، مسحت دموعها بإباء والتفتت خارجة.
                - "صادق! أرها طريق الخروج"
                صاح عمّها، وكأنّما صفق الباب خلفها فعلًا!
                أدركت أميرة أنّها في معركة إثبات وجود وعليها الاستمرار، ومن ثمّ فقد عادت مع أمّها إلى البيت، دون أن تنطق بكلمة، فلو تكلّمت إحداهما؛ لحمّلَت الأخرى وزرَ ما يحدث!
                ***
                في اليوم التالي قررت أن تطرق آخر الأبواب، فخرجت دون أن تخبر أمها عن نيتها ولا وجهتها، نادتها أم فهد الواقفة قرب باب بيتها، لكن لشرودها وعجلتها لم تفطن لها، كانت حرارة الجو تستنزف ماء جسمها من مسامه، ولم تقنعها اللفحات الحارة من الهواء الساخن بالعودة.
                توجست شرًّا، وزادت الكآبة على صفحة وجهها النضر؛ عندما وجدت مدير المجلة الاجتماعية يقابلها محرجًا، ثمّ يبادرها:
                - "لا أعرف كيف أبلّغكِ الأمر يا ابنتي!"
                قالت بسرعة وبدون تفكير:
                - " هل هناك مشكلة ما؟ هل استغنت المجلة أيضًا عن خدماتي؟"
                - "في الواقع ليس السبب مستوى تقاريرك، فالكل يشهد بأنها جيّدة جدًا، لكنّ المجلة وقعتْ في حرجٍ كبير"
                تبسمت بمرارة:
                - "هذا لأن الملمّات- كما يبدو- لا تأتي فرادى!"
                قفزت إلى ذهنها فكرة ما، راحت مفرداتها تتراكب في ذهنها بسرعة؛ فقالت على الفور بعدوانية متحفزّة:
                - "هل للأمر علاقة بعمّي ياسر؟"
                أومأ برأسه بالإيجاب:
                - "لقد أتاني يشكو منكِ، و كما تعلمين هو أحد المتبرعين الكرام للمجلة، ويصعب رفض طلب له"
                - "آه.. حسنًا، لقد فهمت"
                استدرك بسرعة:
                - "لكنّ المسؤولين عن المجلة قالوا بأنّه لا مانع من استقبال تقاريرك، ونشرها تحت اسم مستعار."
                أحنت رأسها في صمت، وخرجت تحمل خيبتها ووجعها، وإحساسًا بالقهر يغلي في أعماقها.
                ***

                تعليق

                • سعد فهيد العجمي
                  أديب وكاتب
                  • 02-12-2015
                  • 54

                  #9
                  التقيت أميرة بعد تلك النوائب كانت محبطة للغاية، وعندما أخبرتني بما حصل من عمّها قفزت إلى ذهني مباشرة بقعة الزيت.. تلك البقعة التي تسرّبت من ناقلة النفط الكويتية حين قصفتها إيران وتسرّب النفط لمياه البحر، وراحت البقعة الصغيرة الملوثة تكبر وتتمدّد .. وتتمدّد ناشرة الرعب والكلّ يحذر منها...
                  وهكذا استسلمت سليمة لقدرها، حين علمت أنّ ياسر قد أوعز إلى ابن خالتها للتقدم بشكوى بما يملك من إيصالات ضدّها، لعلّها تسجن وتكون له الحجّة للمطالبة بالحجز على ما تملك؛ فيحصل بالتالي على نصف العقد، لكنّ الرياح لم تجرِ كما تهوى سفينته! فألزمتْ الشرطة إدريس بأن يمنح ابنة خالته مهلة شهرين؛ حتى تسدّد ما عليها من ديون..
                  (من أيِّ صخر قُدَّ قلب ياسر؟! كيف نتردّد في التعبير عن مشاعر المحبّة والعطاء، ولا نتردد في إطلاق مشاعر الحقد والكراهية؟!)
                  قد يبرّر ذلك شعوري تجاهه.. فالحبّ طاقة تبني المرء، والحقد طاقة تدمّره!
                  لم تهدأ أميرة بعدما توالت عليها الضغوط، وزاد همّها حين أدركت أنّ أمّها لا تملك بالفعل حسن التدبير، فبدأت تعمل في صمت بعد أن تجاوزت مرحلة الإحباط التي عصفت بها، وأخبرتني أنّها أعادت صياغة المسرحية بطريقة جديدة، بعد أن أجرت تعديلات جذرية على فكرتها، ووضعت لها النهاية التي تناسب التطورات الجديدة!
                  أيضًا أنجزت تقريرها المميّز عن الفريق الهندي: السيد موذي والسيدة سيتا، وحين نشر باسم مستعار سرت أخباره كالنار في الهشيم في المجتمع الراقي، الذي يهتمّ بالمجوهرات، ويتابع أخبار أصحاب الخبرات في هذا المجال.
                  ***
                  شغلني عن متابعة أخبار أميرة مرض خالي الذي داهمته نوبات الكلى؛ ما ألزمني إدخاله المشفى، كنت أعتبر نفسي وليّ أمره الوحيد بعد أن تخلّى عنه الجميع، فلا أذكر أنّي رأيت أحدًا يزوره، سوى زيارة خاطفة وسريعة من أمّي لا أكثر، بينما اكتفت خالتي بالسؤال عنه من بعيد! في المشفى كشفت التحاليل عن تليّف كبده أيضًا، وقال الأطباء أنّ حالته حرجة؛ كانت تلك نتيجة طبيعية لسكّير مثله؛ حجزت له سريرًا في المشفى وبقيت معه طوال اليوم.
                  غدوت في حيرة من أمري؛ فرغم أنّي لا أملك الوقت ولا القدرة على رعايته والاهتمام به إلا أنّي كنت أرثي لحاله، هو يشبهني.. وحيد رغم وجود الأهل، وبجواره كان يتراءى لي كيفما تحركت ظلّ الطنطل.. وعصاه الطويلة!
                  صحا من إغفاءته، وفتح عينيه حين أنذرني موظف المشفى بانتهاء موعد الزيارة، همست له أنّي مضطرّ للذهاب، وسأعود إليه في الصباح، ولكن حين تحركت خارجًا وسحبت الستارة لإغلاقها دونه؛ سمعت نشيجًا.. فتحت الستارة لأرى دمعة كبيرة تنحدر على وجنته:
                  - "ما الذي يبكيك؟"
                  أشار إلى صدره، وعاصفة من الألم تجتاح وجهه المتعب الذي جعّده المرض، وزاده اسمرارًا.. لا أدري لم هزّتني عبراته!
                  اتّسعت حدقتا عيني، وتسارع نبضي؛ حين تناهت لذهني أنغام مقطوعة عربات النار، تداخلت الأنغام في مسامي.. اقتربت منه وأغلقت الستارة ورائي... انسياب اللحن متزامنًا مع ألمه هزّ وجداني؛ فحاولت مواساته:
                  - "سيخفف عنك الدواء ألمك عندما يسري مفعوله"
                  - "أنت لا تفهم.. الوجع هنا في قلبي .. في روحي! "
                  تصاعدت الشكوى مع تصاعد اللحن.. حكت الموسيقا وجعه، فتوترت أعصابي.. اقتربت منه، ولأول مرة في حياتي مسحت دمعة إنسان بيدي:
                  - "ليتني أصدّق يا خال! أحقًا حركت الآلام مشاعرك؟"
                  انسابت دموعه مع الأنغام بإيقاع وتصميم كشكواهُ الحزينة:
                  - "آه يا جاسم لو تدري بوجعي وكم يقتلني الندم، لا تمضي عمرك وحيدًا مثلي، أخشى عليك أن تكرّر حياتي.."
                  تابعت النظر إليه مذهولاً، من يصدّق ما سمعت؟ كانت عيناه ترقبني بلا وميض وكأنّ نور الحياة قد انطفأ فيها:
                  - "هل تخشى علي حقًا؟ أم أنّك لا تريد أن ترى حياتك تتكرر ثانية؟"
                  لاحت منه نظرة عتب خجولة:
                  - "لقد اعتنيت بي يا جاسم، ولو أنّك اعتنيت بكلب لظلّ وفيًا لك أفلا أفعل؟"
                  -" لكني لست مثلك، أنت أمضيت عمرك لا تبالي بنفسك، أنت ظلمتها.. و.."
                  توقفت الأنغام فجأة حين انفجر لسانه بشتائم وألفاظ بذيئة، اضطرتني أن أنسحب وأغلق الستارة خلفي.. شعرت أني قسوت عليه، لكن غيظي من أسلوبه في تدمير نفسه كان أكبر من حزني عليه.. وحين صمت عادت المعزوفة تنساب بهدوء على وقع آلامه.. وحزني!
                  ***

                  تعليق

                  • سعد فهيد العجمي
                    أديب وكاتب
                    • 02-12-2015
                    • 54

                    #10
                    ذات ظهيرة دخل ياسر إلى منزله مسرعًا، وهو ينادي زوجه:
                    "مريم.. تعالي انظري ماذا لدينا هنا!"
                    كانت بيده نسخة من المجلة؛ التي نشرت التقرير عن الفريق الهندي المختص بتقييم وشراء المجوهرات، والأحجار الكريمة النادرة، حضرت مريم مسرعة تلهث في دهشة؛ ممّا أصاب زوجها؛ الذي لم يعتد أن يشاورها في أمر، قرأت ما أشار إليه، وبدهشة كبيرة راحت تحدّق في عينيه، وكأنّما أطماعهما قد تلاقت بلا تفسير؛ هتفت فرحة:
                    - "العقد.. عقد والدتك.."
                    - "بل نصف العقد إن صدقنا.. و ماذا لو أني أملك العقد كله؟.."
                    - "فلتفعل .. سنساوم أميرة وأمها عليه.."
                    كانت فرصتهما لعرض العقد الثمين، والفوز بثمنه والتنعم به؛ حثّته بإلحاح على الاتصال بالفريق الهندي والتفاهم معه، وعلى الفور اتصل ياسر بسيتا، التي بدا في نبراتها الاهتمام، حين علمت أنّه نفس العقد الذى عرضته أميرة عليهما، فسارعت بتحديد الموعد؛ ليملي عليها عنوانه بدقة...
                    وما أسرع حضورهما!
                    أقفلت سيتا الصندوق الصغير، فيما تعلقت بها أعين ياسر ومريم بلهفة واضحة، وضعته على الطاولة موجهة الخطاب له قائلة:
                    "هل تعلم يا سيد ياسر أنّ قيمة العقد كاملة تبلغ آلاف الدينارات!"
                    نظرت إلى موذي الجالس بجوارها، هزّ موذي رأسه مؤكدًا وهو ينظر في وجه ياسر، الذي بدا أنّه سيفقد وزوجه صوابهما من الفرحة، فقال ولعابه يسيل طمعًا:
                    - "سأسعى جاهدًا للحصول على نصفه الآخر، قريبًا سأقدم لكما العقد كاملاً!"
                    أكمل الضيفان شرب العصير البارد، ثم نهضا بسرعة مغادران، وراحت الأفكار تتناوش ياسر ومريم، ما جعل الأحداث تتسارع في الساعات التالية!
                    رنّ جرس الهاتف في بيت أميرة بإلحاح عجيب:
                    - "هل يمكن أن أتحدث مع السيدة سليمة"
                    قالت أم أميرة لمحدثها في الهاتف:
                    - "أنا هي.. من معي؟"
                    - "أنا مساعد السيد ياسر، وقد أبلغني برغبته في إسقاط الديون عنكِ!"
                    صمتت سليمة مصدومة، أرادت التأكد مما سمعته:
                    - "ماذا قلت؟"
                    - "طبعًا هذا مقابل أمر ما"
                    عادت سليمة لأرض الواقع.. ما دام هناك "مقابل" فكلّ شيء ممكن.
                    - "وما هو المقابل الذى يريده ياسر؟"
                    - "أن توافقي على بيعه نصف العقد الأثري الذى بحوزتك"
                    - "هل تمزح؟"
                    - "بل أنا جادٌ تمامًا.. أقصد أن السيد ياسر جادٌ فيما يقول"
                    - "العقد ملك ابنتي، وهو آخر ما تبقى لها من أبيها الراحل، ولن يمكنني أن..."
                    قاطعها الصوت بلهجة جافة، لم تخلُ من تهذيب:
                    - "ثلاثة ألاف دينار، مقابل نصف العقد!"
                    كم هو بغيض ياسر هذا! لكن الحقيقة أنّ هذا المبلغ كافٍ لإسقاط كامل الدين، ويمنحها وقتًا لا تفكر فيه بهموم الغد القادم ومتطلباته، لكنها تعلم أنّ أميرة يستحيل أن توافق بسهولة، كان الموقف برمّته صعبًا عليها بل و تنو ء بحمله الرجال.
                    ***
                    أصاب أميرة الأرق ولم يغمض لها جفن تلك الليلة، فجلست تسلّي نفسها بمطالعة مجلتها المفضلة على ضوء إنارة خافتة مثبتة قرب سريرها، عندما سمعت تلك الحركة في فناء البيت .. تحركت من فراشها واتّجهت لأسفل، متتبعة الحركة القادمة من جهة بيت الحمّام القديم.
                    انسلّت داخل المطبخ، وأمسكت بسكين ضخمة توطئة لأن تدافع عن نفسها، وهي ترتجف رعبًا ماذا تفعل لو كان لصًا؟ تراءى لها من زاوية البناء القديم شبح إنسان يجثو على الأرض، فتقدمت بحذر وكتمت أنفاسها والخوف يتملكها، لكنّها توقفت فجأة حين لمحت طرف ثوبها:
                    - "أمّي.. ماذا تفعلين هنا؟"
                    - "أنقذ رقبتي من السجن!"
                    قالتها بتصميم وصوت قوي، فيما تسمّرت أميرة أمامها، تابعت:
                    - " أنا أفضل من نصف عقد مدفون تحت الأرض"
                    وهمّت بأن تمدّ يديها إلى بلاطة مميزة بعلامة بجوار حوض الماء ببيت الحمّام القديم.
                    سألت أميرة بنبرة ممزوجة بالحيرة:
                    - "وكيف علمتِ بالمكان الذى أخبيء فيه العقد؟"
                    قالت أمّها متلعثمة:
                    - "لقد قرأته في مفكرتكِ.. أعلم أنّك تدوّنين كل شيء."
                    ثمّ تابعت في وهن:
                    - "اعذريني يا ابنتي، لم أقصد التطّفل عليك.."
                    انحنت أميرة تلامس كتفي أمّها بحنان، ومشاعر شتّى تختلج في أعماقها لا تدري أيّها هو الصواب، أمسكت أمّها يدها بقبضتها وقالت وهي تغالب دموعها:
                    - "أنا لا أخاف السجن يا ابنتي، خوفي الكبير أن أرحل وأتركك مثقلة بديون ترهقك، لن يرحمك أحد.. أتسمعين؟ لن يرحمكِ أحد وأولهم عمّكِ"
                    تسارعت أنفاس أميرة بينما كانت عيناها تتّسعان أكثر .. فأكثر!
                    - أو تظنين حقًا أنّ والدكِ الميّت سيشعر بكِ أكثر من أمّك الموجودة على قيد الحياة!"
                    احمرّ وجه أميرة، وقالت بصوت مختنق النبرات:
                    - "أمّي، أنا لا أقصد..."
                    - أنتِ مجرد فتاة رقيقة حالمة، سمعتك مرارًا وتكرارًا تناجين صورة أبيكِ في عتمة الليل!"
                    أُسقط في يدها؛ كلّ الأبواب قد أوصدت في وجهها، و ها هي أمها تعود لتجثو على الأرض بإصرار وتمدّ يديها تنبش الأرض بحثًا عن العقد:
                    - "لن أترك لكِ تصريف الأمور وأنا على قيد الحياة!"
                    وصلت يداها للصندوق الصغير الذى يحتوي على العقد، فسحبته وفتحته بلهفة:

                    كان الصندوق .. خاليًا!
                    ***

                    تعليق

                    • سعد فهيد العجمي
                      أديب وكاتب
                      • 02-12-2015
                      • 54

                      #11
                      خلف مكتبه الفخم في منزله جلس ياسر وأمامه الفريق الهندي؛ السيدة سيتا والسيد موذي يرتشفان قهوتهما، نظرت سيتا لياسر قائلة:
                      - "والآن هل العقد جاهز يا سيد ياسر؟"
                      ابتسم بفخر:
                      - "بكلّ تأكيد"
                      فتح الصندوق اللامع أمامه بحركة (دراماتيكية) ليظهر العقد كاملًا!
                      "أنت مدهش يا سيد ياسر!"
                      قال باعتزاز:
                      - "أشكرك!"
                      رمقته بنظرة خاصة، ثم قالت:
                      - "عظيم! ستكون قيمة العقد كبيرة جدًا!"
                      ضغط ياسر أصابعه بعصبية ظاهرة ليوقف انفعاله:
                      - "هذا ما أعوّل عليه"
                      رغم ثروته الكبيرة المتنامية كان يزداد عطشًا إلى المال!
                      انهمك موذي بفحص العقد بدقّة، بينما عينا ياسر ترقبانه في صمت.
                      - "هذا العقد مزيّف!"
                      لهول الصدمة لم يفطن ياسر أنّ موذي نطقها ولأوّل مرة بعربية فصيحة!
                      وثب ياسر صارخًا:
                      - "ماذا.. ماذا تقول؟"
                      كرر موذي:
                      - "هذا العقد مزيّف!"
                      سألته سيتا بتوتر:
                      - "مستحيل.. هل أنت واثق؟ ربما التبس عليك الأمر؟"
                      بنظرة مستغربة- كأنّما يقول لستُ طفلًا أو مبتدئًا- أشار للعقد وقال:
                      - "تأكّدي بنفسك"
                      اقتربت من العقد الموضوع داخل صندوق خاص وراحت تفحصه بأدواتها، ثم رفعت عينيها إلى ياسر وهتفت:
                      - "ما هذا المزاح السخيف يا سيّد ياسر؟"
                      - "أيّ مزاح يا سيدة سيتا؟ هل تريدين تصديق أنّ العقد مزيّف؟"
                      - "نعم وبدون أدنى شكّ"
                      دخلت مريم في نفس اللحظة آتية على صوت الصراخ:
                      - "ما الذي يحدث يا ياسر؟"
                      احتقن وجهه بغضب وحنق بينما سيتا تلقي بالعقد على سطح المكتب:
                      - "يمكنك الذهاب به إلى أيّ خبير وسيخبرك بأنّه تقليد متقن للعقد، تقليد خدعك أنت شخصيًا لكنّه لا يخدعنا نحن!"
                      لملمت أدواتها، بينما ياسر يقول متوسلاً:
                      - "انتظري يا سيدة سيتا.. لابد أنّ هناك خطأ ما"
                      أجابته - قبل أن تغادر المكان مع موذي- الذى عاد لصمته الهادئ:
                      - "ربّما، لكننا لسنا متفرغين لتصحيح هذا الخطأ، سنسافر للبحرين قريبًا ونعود بعدها للكويت، ثم نحزم حقائبنا إلى الهند"
                      - لكن مهلاً.. سأهتم بالأمر، هناك خطأ بالتأكيد..
                      كرّرت مريم سؤالها بعصبية هادرة:
                      - "ما الأمر يا ياسر؟"
                      صرخ في وجهها:
                      - "ثمّة مَن خدعنا جميعًا!"
                      - "خدعنا! مَن تقصد؟"
                      ضغط كفيه بغيظ وهو يردّد:
                      - "مَن؟! وهل هناك غيرها؟"
                      ***
                      كانت أميرة تقف أمام نافذة غرفتها غارقة في التفكير حين وقفت سيّارة عمّها بالقرب من منزلها، للوهلة الأولى ظنّت أن مساعده أبا أثير يتسكّع في الجوار كما اعتاد أن يفعل، لكن ولدهشتها رأت عمّها يهبط من السيارة بعد أن ركنها قرب بيت عالية ويغلق الباب بعصبية ظاهرة، تحركت مبتعدة عن النافذة حين خالته يقصد بيتها، لكنه في الواقع لم يفعل.
                      أدهشها أنّه توقف أمام منزل عالية، فعادت تراقبه وهو يطرق الباب بجنون، في حين ظهرت زوجه مريم خلفه ترمق المارة شذرًا، تابعت أميرة المشهد من مكانها فيما ارتسم على وجهها ظلّ ابتسامة!
                      فتحت عالية الباب فأمسك بتلابيبها دونما حياء وهو يصرخ:
                      - "أيّتها اللصّة.. لقد خدعتينا!"
                      قالت بذعر:
                      - "سيّد ياسر.. ماذا تفعل؟"
                      صرخت مريم في وجهها دون أن تكترث بتجمع المارة:
                      - "أين العقد الحقيقي أيتها الماكرة؟"
                      حاولت عالية التملص من بين يديه:
                      - "دع يدي، إنك تؤلمني!"
                      - " أعيدي لي مالي أو أحضري العقد حالاً"
                      نصحته مريم:
                      - "ياسر.. لا تفقد أعصابك فلنتحدث بالداخل أفضل"
                      دفع ياسر عالية أمامه لداخل منزلها، ما أتاح لأميرة وأمّها أن تتابعا هذا الحوار العجيب من خلال الجدار الرقيق بينهما...
                      صرخ مجدّدًا:
                      - "أين العقد أيّتها الشقية؟ نصف العقد الذى أحضرتِ لي كان مزيفًا، وكذلك اختفى النصف الآخر الذى أملكه، فما معنى هذا؟"
                      سحبت ذراعها من قبضته محتجة:
                      - "لا شأن لي بما تقول، كلفتني بمهمّة مقابل مبلغ معين من المال ونفذتها، فلا تحمّلني نتيجة أخطائك!"
                      صفعها بقوة وهنا ظهر فهد فانقضّ كالمجنون على ياسر، وعضّه بقوّة في يده وسط ذهول الجميع ثم قبض على رقبته يضغط عليها بكل قوّته، تدخل بعض الجيران ممن جذبتهم الضجة وصراخ ياسر، وخلصوه من فهد بعد أن شاهدوا ما يحدث.. أمسكت مريم بزوجها وراحت تدفعه للخارج، بينما يده تنزف دمًا وهو يصرخ بحنق:
                      - "سأنتقم منكم.. سأبلغ الشرطة!"
                      صرخت عالية في وجهه:
                      - "فلتفعل أيها الكاذب؛ و لنرى من سيدفع الثمن فينا أكثر!"
                      غادر ياسر... فضمّت عالية فهد الذي كان ينظر إليها فخورًا بما أنجز، وقبلت رأسه بحنان:
                      - " دافعت عن أمّك كالرجال يا فهد!"
                      انصرف الجيران في نفس اللحظة التي دخلت فيها سليمة وأميرة، وهتفت الأولى بغيظ:
                      - "لكنكِ لا تستحقين أيتها الخائنة!"
                      وانقضت عليها:
                      - "أنتِ إذن من سرقتِ العقد يا عالية! أيتها الجارة الشريفة!"
                      تدخلت أميرة، وقالت:
                      - "أمّاه! رويدك.. لا تفعلي!"
                      - "دعيني أؤدب هذه الخائنة!"
                      هتفت أميرة بقوة:
                      - " دعيها أرجوكِ إنها ليست بخائنة يا أمّي!"
                      رمقتها أمّها بدهشة، ثم حوّلت بصرها إلى عالية التي جلست بهدوء وهي ترمقها بنظرات عتاب حانقة...
                      تساءلت بدهشة:
                      - "أهناك أمور لا أعلمها؟"
                      ربّتت أميرة على ذراع أمّها وجذبتها بلطف وهي تخرج معها عائدة إلى البيت.
                      ***

                      تعليق

                      • سعد فهيد العجمي
                        أديب وكاتب
                        • 02-12-2015
                        • 54

                        #12
                        في حفل تقديم الجوائز للفائزين وقف مقدِّم الحفل يتكلم بحفاوة بالغة .
                        كان ذلك في صالة مسرح المسعود في كيفان، حيث جلس ياسر وزوجه مريم في الصف الأول، وسط البعض من أمثالهم أدعياء الثقافة والمجتمع المخملي؛ الذين لا يأبهون لشيءٍ قدر حرصهم على مظهرهم الاجتماعي، كان بقية الحضور من الطلبة وبعض المثقفين ومراسلي الصحف المحلية، بينما كانت الأغلبية الساحقة من أهالي الطلاب ومعارفهم.
                        كان ياسر من كبار الممولين لتلك الجائزة طلبًا للوجاهة والمكانة الاجتماعية، وعلى الرغم من صدمته وزوجه بموضوع العقد الغامض والذي لم يكتشفا سرّه بعد، فقد حضرا الاحتفال ورسما على شفتيهما ابتسامة لزجة مزيفة.
                        خلف ياسر جلس أبو أثير مساعده الذي لا يفارقه أبدًا، بوجهه الأبيض وشعره الأحمر الذي يزيّن نصف رأسه، بينما ابتدأ الصلع في نصفه الآخر، كان لا يهدأ وهو يتلفت هنا وهناك، ويتحرك ملبيًا طلبات ياسر ومريم وابنتهما الصغيرة، مثيرًا جلبة كيفما تحرك رغم مظاهر كبر السنّ التي بدت عليه؛ وكأنّ الجري خلف ياسر كان يستنفذ هيبته و سنوات عمره!
                        بدت الدهشة على وجوههم عندما شاهدوني، كانت قد مضت سنوات طويلة منذ كنتُ في منزل خالتي، قبل أن أُطرد منه، قلت لهما بلا ترحيب:
                        - "أهلًا خالتي! أهلًا سيد ياسر!"
                        أومأ برأسه بحركة خاوية، بينما جلس واضعًا ساقًا على ساق كعادته في الجلوس؛ حين كان يريد أن يضفي على شخصه صبغة الأهمية، اقتربت من خالتي وهمست في أذنها أنّ شقيقها في المشفى في حالة حرجة، لكنها أشاحت بوجهها كمن لا تريد أخبارًا مزعجة، تابعتُ كلامي لإثارة اهتمامها:
                        "حسنًا خالتي العزيزة صحيفتنا ستنشر صور الحفل وصوركم في الصفحة الأخيرة في القسم الفني، وستكون لك صورة مميزة."
                        أهذه خالتي حقًا؟ في الأمر غرابة! فرغم عشقها للأضواء تجاهلت الخبر!
                        فجأة صدح صوت مقدّم الحفل:
                        - "والآن مع الفائزة بالجائزة الأولى.. المبدعة أميرة عبد الرحمن!"
                        ضجت القاعة بالتصفيق، بينما أكلت الصدمة والمفاجأة ملامح الفرح على وجه ياسر وزوجه..
                        جلستُ باسترخاء وقد أسندت ظهري إلى المقعد، ووضعت ساقًا على ساق وتصنعت الهيبة، ورحت أنظر إليهما عن جنب، وإحساس بالزهو ونشوة النصر يغمرني:
                        - "اهنأ يا ياسر .. هذا حصاد ما زرعت أيديكما!"
                        في نفس اللحظة ظهرت أميرة و توسّطت خشبة المسرح..
                        كانت ترتدى ثوبًا جميلًا، في حين توالت الإضاءة الملونة عليها راسمة دوائر من نور حمراء وصفراء وزرقاء ما جعلها تبدو كالأميرات فعلاً ، سحرت الحضور بهذه الصورة الجميلة، حين بدأت بإلقاء كلمة رقيقة مليئة بالمشاعر الدافئة ختمتها بقولها:
                        "والآن أقدّم لكم نصّ مسرحيتي أمامكم، ولتعلموا أنّه مقتبس من قصة حقيقية".
                        كان عرضًا مسرحيًا قصيرًا لا يتجاوز نصف الساعة، لكن مشاهده القصيرة مفعمة بصور شاعرية إنسانية، لا تملك أمامها إلا أن تعيش مشاهدها وأنت تسترجع بحنين ذكرياتك العائلية، وتزيل رواسب الزمن التي حجبتها لعلها تعيد دفء الأواصر العائلية، التي تلاشت أمام ركضنا المسعور حول أحلام المال والشهرة والشهوات .
                        (كانت قصة فتاة فقيرة تملك نصف عقد ثمينٍ، عرفت من أمّها أنها تنتمي لعائلة كبيرة تملك النصف الآخر من العقد، فانطلقت يرافقها عازف الناي ذلك الساحر الذي تتكون لديه القدرات السحرية كلّما غضب، وكان همّها الوصول للعائلة لتقديم النصف الآخر لهم للاعتراف بها، لكنهم أخذوا نصف العقد منها وطردوها شرّ طردة، فغضب عازف الناي لينقلب غضبه سحرًا، ويقرر تسخير قدراته بالخداع لنصرتها؛ ولتستعيد منهم العقد كاملاً وتترك لهم العقد المزوّر) .
                        بعد نهاية العرض صفق الحضور كثيرًا لأميرة، و اقتربت منها أمّها تحتضنها بسعادة غامرة، وقفتا ودموع الفرح تغسل وجنتيهما لتقبّل التهاني، فجأة ومن بين الحضور صعد فهد بلا استئذان إلى جوارها.. أبى إلّا أن يشارك أميرة فرحتها، فوقف بكل براءة ينظر إليها ويصفق، وعلى وجهه ضحكة وضّاءة تعكس مدى شعوره بسعادتها!
                        مثّل العم ياسر والخالة مريم التصفيق لهما وهما يبتلعان الإهانة بحنق، كان ياسر يرفع أنفه الرفيع بتعالٍ ، بينما لم تتمالك الخالة مريم نفسها فانهمرت دموع القهر على وجهها مدرارًا تعكس حقدًا يملأ قلبها ، لقد أدركا أنهما كانا ضحية لدهاء... أميرة.
                        ***
                        شكرًا عبد القادر!
                        أثبتَّ أنّك عبقريّ فعلاً وأنّ هذا الدهاء الذي تملكه لا يذهب سدى حين أنقذتنا بحسن تدبيرك:
                        عندما اجتمعتُ وعبد القادر بأميرة وسمعنا قصة العقد، لعبت أفكارنا لاستغلال القصة كلٌ لمصلحته، وبرزت لذهني فكرة الانتقام من ياسر، هذا المغرور الذي يسخر منّي ويدعوني بو عشرة.. وتلاقت مع رغبة أميرة باسترداد حقها، عاهدت نفسي أن أجعله أضحوكة أمام الجمهور، وتكفّل عبد القادر بالباقي ليثبت لي دهاءه في مجال يعمل فيه باستعانته بالفريق الهندي.
                        بعد لقائنا مع الفريق الهندي وسؤالهم أميرة عمّن يملك نصف العقد الآخر، أخبرتني أنّها عندما اقتحمت منزل عمّها ياسر، لاحظت أنّ حقيبة عالية موجودة بالركن، بل وفيها ذات الثقب المميز الذى يؤكد أنّها لعالية فعلًا وليس مجرد تشابه، وهذا يعني أنّها تعمل لحساب عمّها.
                        وبعد مواجهة قصيرة اعترفت عالية بالأمر، و أنّها تفعل هذا من أجل المال لرعاية ولدها الوحيد، عنّفتها أميرة بقسوة، وشرحت لها الوضع؛ ونزعت الغمامة السوداء عن عينيها، فاتّضح لها نور الحقيقة؛ وراحت تبكى ندمًا وهي تشعر بنار الخيانة تلسعها.

                        جمعتُ المعلومات وتحدثتُ مع عبد القادر، فوجدته على علم تام بالتفاصيل التي سمعها من أميرة، وبحكم عمله في تجارة الذهب والمجوهرات؛ كانت معرفته بالفريق الهندي وموعد زيارته، ووجدها فرصة سانحة يظهر فيه مهارته، ومن ثمّ وضع لنا الخطة المحكمة التي نُفّذت بحذافيرها!

                        أوصى عبدالقادر أحد الأصدقاء ممّن يعملون في فنّ التقليد، أن يقوم بصنع عقد كامل مزيّف، طلبت أميرة من عالية أن تأخذ نصف العقد وتعطيه لياسر، وعندما يقوم بتجميع النصفين معًا تقوم هي بسرقته، ووضع العقد الكامل المزيّف مكانه، كانت خطة جريئة وتحتاج دقّة فائقة، لكن عالية نفذتها ببراعة.

                        أسقط في أيدي ياسر وزوجه وقد أدركا أبعاد الخديعة، وهما مجبران على التصفيق على خيبتهما...
                        و يا له من شعور!


                        (من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا... يا ياسر)
                        ***

                        تعليق

                        • سعد فهيد العجمي
                          أديب وكاتب
                          • 02-12-2015
                          • 54

                          #13


                          للمرة الأولى ترى أميرة عمّها ياسر في بيتهم!
                          (أخيرًا أيها المحتال قاسي القلب!)
                          لكن حين علمت سبب حضوره أدركت أنّه لم ولن يعترف بها، رفض يدها التي امتدت لمصافحته، ورفض أن يجلس سائلًا أمّها بحقد:
                          - "ماذا تريدين لتعيدي لي العقد؟"
                          فقالت:
                          - "حقي وميراث ابنتي"
                          - "وتعيدين لي العقد كاملًا؟"
                          ردّت سليمة بحزم:
                          - "نصف العقد فقط.. هذا حقك فلا تطلب ما ليس لك"
                          - "والإيصالات؟"
                          قالت وهى تبتسم بثقة:
                          - "لقد وصلت إلي بطريقة ما.. على كل حال أنا لا أحبّ أن أُظلَم ولا أن أَظلِم"
                          عضّ ياسر شفته السفلى بحنق، لكنّ أبا أثير لمس ذراعه في إشارة بأن يقبل العرض، طال صمت ياسر معلنًا هزيمته وإذعانه، إلى أن انتهى به الأمر أن يقطع الإيصالات؛ مقابل عودة نصف العقد الثمين إليه.. العقد الذى علم بأنّ ثمنه غالٍ جدًا، لكنه يظل بلا فائدة دون نصفه الآخر!
                          هكذا كانت إرادة الأم الراحلة!
                          كان ياسر على استعداد للتفريط بأيّ شيء من أجل المال، وكانت أميرة ترضى بالموت جوعًا؛ على أن تفرِّط في شيء يعود لأبيها! ضمّت سليمة ابنتها إلى صدرها بحنان وهمست:
                          - "كنتِ على حق، آمنت بأنّكِ لستِ هشّة ضعيفة.. بنيتي!"
                          وأخيرًا!
                          تنفستُ الصعداء، لقد أنصفتُ أميرة وانتقمتُ لنفسي من صفعة ياسر، و رددتُ له الصّاع صاعين!
                          احتفالاً بهذا النصر دعوت أميرة وأمها إلى مساءٍ جميل بجوار النافورة الراقصة فوافقت بسرور، واصطحبت معها فهد المغرم بألوان النافورة وهي تتراقص على الأنغام المختلفة صعودًا وهبوطًا، كانت سعادته جزءًا من فرحة أميرة تلك الليلة!
                          وكانت هديتي الخاصة لأميرة التي أسعدتها كثيرًا هي تقديم أوراقها للمعهد العالي للفنون المسرحية كما كنت قد وعدتها من قبل، لتكمل دراستها للمسرح الذي تحب.
                          ***

                          شهد صباح هذا اليوم وفاة خالي المريض، ربّما كان موته رحمة له، وربّما لي أيضًا، ولكني مع هذا بكيته.. هل تصدقون؟ بكيت كالأطفال! لم أفهم لمَ أمضى حياته هكذا، ولمَ مات وحيدًا وهو يعلم أنّه مخطئ؟ لقد حاول الزواج كثيرًا ولكنه لم يفلح، هل تراه تلبّسه الجان منذ أيام لهوه في الجزيرة؟ !
                          وارينا خالي الثرى وكنّا قلة الذين مشوا في جنازته... و لكن قبل أن أبتعد عن قبره لاح لي الظلّ الطويل.. كدت أخاف لولا أنّي تذكرت حين تحدّيت مستورة فيما سبق في مثل هذا المكان !
                          أجل، علمتني مستورة كيف أتصرف كي لا تكون نهايتي مثله!
                          حمل الطنطل عصاه ورحل بعيدًا، واختفى الظلّ الطويل الذي كان يستهزئ بي.. إلى غير رجعة!


                          نهاية الفصل الثاني.


                          ***

                          تعليق

                          يعمل...
                          X