الفصل الثاني
وصلنا أخيرًا!
عند الحدود ظهر أفراد الفريق العراقي الذي سيتعاون معنا في رحلة البحث عن أسرانا، ومع اقترابنا منهم أمكنني أن ألمح وجوهًا لوّحها البؤس، وسكن أعينها الحزن.
من بعيد لاح لي وجه منير بملامحه الضاحكة، كم اشتقت لتلك الابتسامة الوضّاءة!
لوّحت بيدي، و ما أن رآني حتى وثب ناحيتي صائحًا بمرح:
- "جاسم الغريب! أيّها الوغد (بو عَشرة) أما زلت على قيد الحياة؟"
- "ما زال لسانك طويلًا، كعهدي بك يا منير!"
عانقني بحرارة ضاحكًا:
- "من شبّ على شيء شاب عليه يا صديقي!"
إنّه منير بمزاحه المعهود وروحه المرحة، لم تغيره الأحداث فيما يبدو، كان طويل القامة، قويّ البنية بشامة على خده، لا يزال وجهه يحتفظ برونقه القديم رغم عوامل الزمن، أدهشني أنّه كان يلفّ رأسه وأذنيه بغترة لم أرَه فيها من قبل، وقفنا نتبادل جمل الترحاب وبعض الذكريات المضحكة التي كانت لنا.
هذه هي المرة الثانية التي أجتمع فيها مع منير، صديق الرحلات والسهرات في مهمّة خطرة- وقد افترقنا رغمًا عنّا- كانت المرة الأولى تجربة صعبة، لاتزال مرارتها تلسع أعماقي!
***
1983
انطلقت سيارة الكارجو العسكرية بعد هبوط الظلام، وراحت تموج بِنَا وسط منطقة المستنقعات، كان هدفنا الكتيبة الكامنة خلف خطوط من السواتر الترابية، وعلينا أن نجتاز فتحات بينها للوصول إليها، كنا نفس المجموعة أنا ومعي صديقي منير المنسق الإعلامي للسفارة العراقية في الكويت، و ناظم مهندس الكتيبة، ومرافق عسكري بمدفعه الهاون، بالإضافة إلى السائق، فجأة انهالت علينا رصاصات القناصة الإيرانيين الذين يراقبون موقع الكتيبة فسقط سائق السيارة صريعًا، صدمني موته، وهنا صاح بنا المرافق العسكري للاستمرار زحفًا، التفتّ خلفي لأرى سائق الاحتياط المتواجد بالكتيبة يرمي بجثة السائق خارج السيارة بلا رحمة وينطلق بها سريعًا، فعل ذلك بتلقائية وكأنّه أمر اعتيادي، فيما استمر الآخرون بالزحف.
توقفت ولم أعد أشعر بخطورة الموقف، لولا أن امتدت يد منير تسحبني بشدة للاحتماء بجانب الساتر الترابي، لم يكن كزحفي في فيلكا أو أيام الشقاوة في الديرة، فقد كان علينا هنا تفادي الرصاص والشظايا المتطايرة وكانت حياتنا على المحكّ!
وكأنّ أبواب الجحيم فتحت على مصراعيها فور وصولنا؛ فانهالت القذائف من كل حدب وصوب، واشتغلت مدفعية الكتيبة للردّ بعنفٍ وكثافة نيران خلتها لن تتوقف!
بدأ المهندس ناظم وشريكه حامل الهاون سباقًا مع الزمن لاتخاذ القياسات المناسبة، وما هي إلا لحظات حتى بدءا بإسقاط القناصة الإيرانيين من حولنا!
بعد ساعة- وقد هدأ كل شيء- خرجت من الحفرة التي توارينا فيها، كانت ملابسي ووجهي ويداي ملطّخةً بالطين والسواد، بل كان كل ما حولي أسودًا!
تهيأنا للعودة فأشار علي منير- بوجه كالح كالموتى- بتدوين كل ما أرى، تجولت قليلًا وسط بحيرات الدم لأتبيّن ما حولي، وأخرج بانطباع أخير أدوّنه، هالني حجم المأساة والكارثة، كانت عشرات الجثث قد تناثرت أشلاؤها وتلونت الأرض بالأسود والأحمر، تمالكت أعصابي بصعوبة رغمًا عني، وأدرت الكاميرا لأصوّر أبشع ما توصلت إليه الإنسانية!
***
قمت بواجب التعارف بين صديقي منير ومرافقي مصطفى:
- " العزيز مصطفى"
صافحه منير بهدوء بينما ردّ الآخر تحيته ببرود؛ ما جعلني أتوجّس خيفة من بوادر توترٍ بانت ملامحه.
فجأة برز كلب صغير من وراء الرجال وراح ينبح بشدّة، ثم ظهر شاب خلفه يصيح وهو يهرول:
- "جعبل! جعبل! انتظر أيها الأحمق!"
- "جعبل؟!"
هزّ منير رأسه ضاحكًا:
- "هذا هو اسم الكلب! إنّ كاظم مُغرم به!"
صافحني الشاب العراقي بحرارة، ومنير يقول:
- "بالمناسبة: كاظم شاعر موهوب، وستعرفون هذا خلال رحلتنا"
ظلّ الكلب يواصل نباحه، فهتف كاظم غاضبًا:
- "جعبل! تأدب!"
أقعى الكلب على قدميه وأحنى رأسه، لمح كاظم دهشتنا:
- "إنه كلب مُدرَّب!"
جلست القرفصاء وأخذت أمسح براحتي على رأس جعبل؛ فراح يهزّ ذيله في سرور.
ضحك كاظم قائلاً:
- "لقد أحبّكَ جعبل من أول نظرة! "
أضحكت العبارة الجميع؛ ما خفف التوتّر وأشاع جوًا من الراحة بيننا.
همستُ في أذن الكلب :
- " لحسن حظك أنَّ هذه أول مرة ألمس فيها كلبًا من غير أذى!"
(لو كان هذا الجعبل في زمن مستورة؛ لتحول إلى شعلة من النار تهرول!)
مستورة التي كانت معلمًا من معالم زمن ٍ مضى، كنت فيه فتىً أغرّ أسعى لشهرة تعوضني الإحباط الذي كان يلازمني، حتى لو تحقق بالعمل مع تلك المشعوذة!
***
استقل الفريقان أربع سيارات بعد انضمام سيارتيّ الجانب العراقي، وتقدمنا باتجاه المعسكر البريطاني، حيث تمّ أسر بعض المسؤولين عن الأسرى، كانت سحب الدخان تعكّر الجو، وألسنة اللهب تتأجج أحيانًا وتخبو أحيانًا أخرى.
طريقنا إلى مدينة البصرة كان مليئًا بالمآسي، كانت المدينة العظيمة تنهار أكثر وأكثر، بسبب عبثية الأنظمة الّتي توالت على حكم العراق، وآخرها نظام صدّام الدموي الذي أسقطه التحالف الغربي منذ شهر، وقد صارت نهبًا للجيوش تتقاسم كعكتها بكل ضراوة، و ما يزيد حزن القلب أكثر هو قلة المياه في بلد يمرّ بها دجلة والفرات وانقطاع الكهرباء المستمر، قفزت إلى ذهني صورة قاتمة:
كيف كان الأسرى يقضون أيامهم ولياليهم في أماكن باردة، تقشعرّ الأبدان لمجرد التفكير فيها؟! كيف يعيشون في أماكن لا تحتوى على أبسط الحقوق الخاصة بهم، مثل قضاء حاجتهم، وتنظيف أجسادهم، وطعام مقبول لا تعافه الأنفس؟!
قطع سلسلة أفكاري صوت كاظم العذب، يصدح بشعر أبي فراس الحمداني:
أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَةٌ*** أيَا جَارتَا هلْ تَشعرينَ بِحَالي
مَعاذَ الهَوَى ماذُقتِ طارِقةَ النَوى*** وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ
شجعه منير بصيحة إعجاب، فتابع:
أيَضْحَكُ مَأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَة ٌ*** ويَسكتُ مَحزونٌ، ويَندبُ سَالِي
لَقدْ كنتُ أَوْلَى مِنكِ بالدمعِ مُقلة ً*** وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!
تأوّه مصطفى:
- "وضعتَ يدك على الجرح يا كاظم!"
انتبهت فجأة من غفلتي مع صوت كاظم على أصوات الرشاشات!
أجبرت غزارة الرصاصات الشديدة - التي انهالت علينا - الموكب أن يُبدل مساره
- "لقد كشفوا أمرنا!"
قالها منير والغضب واضحٌ على وجهه، صرختُ بصوت عالٍ حتى يسمعني الجميع:
- "فلنغير مسار السير"
على الفور- وكما خُطط سابقا لحالة الطوارئ- بدأ سائق السيارة الأمامية يتخذ طرقًا فرعية، بعيدًا عن الخط الرئيسي فتبعناه، ما أن ابتعدنا عن الهجوم حتى لاحظتُ أن عليّ يجلس محرجًا، ووجهه محتقن، فهمتُ حاجته على الفور وهذا ما جعلني أرفع صوتي آمرًا:
- "ليتوقف الجميع هنا"
توقف الموكب، وسألت وأنا أهبط من سيارتي:
- "هل الجميع بخير؟"
كان الجو العام قلقًا متوترًا، لكن -ولله الحمد -لم يصب أحد بسوء.
لاحظت عليّ وهو يتسلّل إلى الخلاء مسرعًا، فانتحيت بمنير ومصطفى جانبًا نتدبر أمر تغيير مسارنا، قال منير بصوت خافت:
- " يبدو أنّ خطواتنا مكشوفة،هناك من يرسل المعلومات!"
- "وما أدرانا؟ لعله حادث عرضيّ، الأفضل لنا أن نتابع مسارنا"
- "اذا غيرنا اتجاهنا واستمرت الملاحقة؛ فان ذلك يعني أن أحدهم يُسرّب المعلومات عن مسارنا"
اعترض مصطفى:
- "سيتسبب ذلك بتأخير في الوقت، وأنت تعرف أهميته."
أجاب منير بإصرار:
- "لو هوجمنا مرة أخرى فسيتأكد لنا أنّ هناك من يُسرِّب أخبارنا من الجنود، ولو سارتْ الأمور على ما يرام؛ فسنعرف أنّ الهجوم علينا كان مجرد صدفة"
تابع مصطفى اعتراضه:
- "لا أوافق على هذا، يفترض أن نذهب إلى المعسكر البريطاني، وهناك سوف نحصل على معلومات مهمّة بخصوص الأسرى"
- "المعلومات التي سنحصل عليها في الديوانية أكثر أهمية"
استغربت ما سمعت:
- "هذه معلومة جديدة! الديوانية؟"
- "ثمّة معلومات عن آخر شخص تعامل مع الأسرى يُدعى عبد الجبّار"
قلت بحزم:
- " الكلمة الأخيرة لي فالمسؤولية تقع على عاتقي، سوف نغير المسار!"
أشاح مصطفى بوجهه ومضى - دون أن يعقّب- نحو سيارته.
عاد عليّ من الخلاء وابتسامة الرضا على وجهه، ابتسم فور أن رآني ابتسامة شكر نادرة؛ جعلتني أتنفس الصعداء.
كم تغيرت أحوال عليّ إثر تلك الأحداث المريرة، وبين يوم وليلة تتغير أحوال وأحوال.. فما بالك بإنسان!
بعد توبته عن كلّ ما بدر منه حاول إصلاح حياته؛ تزوج مرتين ولم يهنأ، وحاول أيضًا الخوض في مجال التجارة ولم يكسب، فخسر كل شيء وانهارت حياته!
***
تعليق