لا يذهبن بكم الظن، وأنتم ترونه يمشي في هذا الدرب الباهت يتمايل، لدرجة أنه يضرب الحائط في كل خطوة يخطوها، فتقولون: إنه قد خرج من الحانة الرخيصة القابعة في أحد زوايا هذا الدرب الحزين، حجتكم في ذلك؛ شعره المنفوش، ولباسه المتسخ ببقع قد تكون اندلقت عليه من كأس خمرته الرخيصة، لا ياسادة، الرجل لم يقرب الخمرة أبدا، لا يأتيه الإلهام من القناني، بل يأتيه من القوارير. ثم تسترسلون بفعل مخيلتكم الخصبة، فتعرضون علينا قصة من خيالكم المجنح، كأن تقولوا : إنه ما دخل هاته الحانة بالذات، إلا هروبا من زوجته التي لا تتوقف عن إيذائه بسليط لسانها، فتعيره لكونه لا يقوم بواجباته المنزلية، والزوجية، معا. احذروا أن تصيبوه بأذى تخرصاتكم، فما انكسر لا يمكن تجميعه، والضر سيصير صعبا جبره، فتندمون على ما اقترفتم، ولن ينفع الندم بعد وقع الأذى. لا، لم يكن تمايله إلا من تلك النشوة التي شعر بها وهو يرى تلك الحسناء رائعة القوام ترميه بإثمد عينيها، فتصيبه بعشق شديد المفعول، وكأنه قد تناول هروينا. أشعر بكم تقولون: إنها دميمة، لا حظ لها من جمال ! طيب، الفنان يرى ما لا ترونه، فهو يرى الجمال الداخلي، فينعكس على الخارجي، جربوا وسترون.
أسمعه يقول: هي حوريتي المنشودة، صحيح أنها لا تثير الغرائز بل تدفع الرائي الى التأمل بخشوع في عظمة الجمال الطبيعي، فمهما كان نوع لباسها ستكون ملكة جمال كل العصور، يمكنك إن نظرت إليها بعمق وإحساس، أن تقول إن أباها إلها فاتنا استولدها من إحدى حوريات بحر إيجه.*حين رآهاشعر برعشة راهب شديد الورع وهو يستعد لاستقبال الرحيق الرباني المقدس. لا أريد أن يذهب بكم الظن، والظن سوء وإساءة، إلى أنه أرادها لنفسه، ورغب في ممارسة الحب معها، وقد قلتم قبلا : إنه متزوج، وفعله هذا يدخل في إطار الخيانة، وقد تؤكدون القول بحجة رؤيتكم له وهو يمسك بها من يدها اليمنى، ويدخل بها إلى بيت من بيوت الدرب المجاور. لنوقف مثل هذه التداعيات والإدعاءات، ولنقل، وبكل شجاعة ووضوح: إنه فنان، رهيف الإحساس، يهتز طربا للجمال؛ يحب النحت، ويعشق أن تكون منحوتاته مستوحاة من نساء حقيقيات، ولذا، حين رأى كل هذا البهاء مجسدا في هذه الفتاة، نط قلبه من صدره، واعتبر الأمر هدية من السماء، وفلتة من فلتات الطبيعة، لا يجود بها الزمان إلا نادرا؛ ستمكنه من نحت تمثاله الخالد. وتمنحه شهرته الهاربة كالضوء. لقد أخبرها بنيته، بعد تمهيدات ضرورية، ظل يغريها حتى لانت وذابت ممانعتها؛ فهو حين يفيض يتكلم شعرا وبأعذب الكلمات؛ كي لا تظن به الظنون، مثلكم تماما. ولما علمت بصدق مسعاه، ونقاء سريرته، ونبل هدفه، وسمو مشاعره، وأنه لا يبغي تلويثا، بل منحها خلودا لم تحلم به قط، ولا خطر على بالها، وافقت، على أن يكون ذلك في مكان مستور، تحسبا لأي سوء نية قد يظهرها من رآها وهي تسير معه، و هي تدخل إلى محرابه الفني، كانت حيطانه من زجاج، تعلوها رؤوس حيوانات شرسة محنطة، وفي أركانه صفت بعض المنحوتات والتماثيل غير المكتملة، و هي تنزع عنها ملابسها بجرأة لم تعهدها في نفسها، وتقف بكل شموخها أمامه، تشعر بدفء الموقد وحرارة يديه تمران بليونة ورشاقة على كل خلية من خلايا جسدها الطافح بالأنوثة، والمشتعل لهيبا جنسيا يكاد يسمعه البعيد، لكنها استطاعت أن تضبط نفسها، وأن تظل جامدة لا تأتي بأي حركة قد تفسد سعادة اللحظة. وتركته يمارس جس تضاريسها يستكشف خفاياها لينقل كل مشاعره إلى تلك الصخرة التي سيطرقها بمعوله وإزميله.
ظل ينحت، غير عابئ بقطرات العرق تنساب على خديه المحمرين، وظلت تتابعه من دون حركة، وقد بذلت مجهودا خرافيا لمنع ضحكة مدوية كادت تنفجر منها وقد رأت
انتصابه، وحين انتهى، فتحت عينيها على أشدهما، وارتفع إيقاع تنفسها، وندت عنها شهقة عظيمة.
اعتمدنا هذه الجملة من رواية" سبع عيون" لمحمد الشرادي.
تعليق